ما بعد إنديرا
بعد ساعتين ونصف من القيادة بسرعة محمومة، اعترضت السيارة المرسيدس طائرة مروحية أقلت راجيف ورفاقه الثلاثين ميلًا المتبقية إلى كلكتا، حيث انتظرتهم طائرة بوينج تابعة للخطوط الجوية الهندية لتحملهم إلى دلهي. قضى راجيف أغلب الرحلة في الطائرة البوينج في كابينة القيادة مع الطيارين الذين كانوا على اتصال مستمر بدلهي عبر الراديو. وهناك في الساعة الثانية والنصف علم راجيف من جهاز الراديو الخاص بالطائرة، الذي يصدر طقطقة من حين لآخر، أن والدته ماتت. عندما هبطت طائرة راجيف في مطار بالام بدلهي، وجد في استقباله مجموعة كبيرة من ساسة المؤتمر ومعاونيه وأصدقائه. لكنه من قبل أن يلقاهم، علم بما أجمعوا عليه وأتوا ليطلبوه منه. فراجيف غاندي، سواء شاء أم أبى، كان سيصبح رئيس وزراء الهند المقبل.
لم يعترض أحد، أو على الأقل، أي من أعضاء المؤتمر أو من عمل لدى إنديرا، على ذلك. لقد بدا تسلم راجيف منصب إنديرا حتميًّا، كأنه ناموس من نواميس الطبيعة، مع أنه لم يسبق أن تسلم أحد الحكم مباشرة. لما تُوفي جواهرلال نهرو ولال بهادور شاستري أثناء حكمهما، تولى رئيس وزراء مؤقت الحكم قبل أن ينتخب المؤتمر البرلماني عضوًا ليكون رئيس الوزراء. لكن في ٣١ أكتوبر عام ١٩٨٤، لم يثِر أحد حتى احتمالية أن يتولى قائد مؤقت الحكم أو أن تجرى انتخابات في الحزب.
بحلول ذلك الوقت، كان المستشفى قد امتلأ بحشد ضخم. وتزاحم الآلاف أمام بواباته والشوارع الموجودة خارجه. وفي داخله اجتمع عدد كبير من الشخصيات التي لعبت دورًا مهمًّا في حياة إنديرا، منهم مانيكا غاندي التي انخرطت في البكاء، ودهيريندرا براهماتشاري الذي بدت عليه الصدمة، وحتى اختصاصية تجميل إنديرا المتأنقة اللافتة للنظر شاناز حسين. كان أعضاء مجلس الوزراء، والمسئولون الحكوميون والمساعدون وأفراد السكرتارية معًا جنبًا إلى جنب، يسيرون ويتحدثون معًا.
شهد سكرتير إنديرا بي سي أليكساندر تلك المحادثة الشخصية، ونجح بصعوبة في أن يصد راجيف عن تلبية رغبة سونيا. كانا بحاجة إلى الإسراع بنقل الخلافة بلا تأخير. أخبر راجيف أليكساندر أنه سيذهب إلى بيته ليغير ملابسه، وأنه سيصل إلى راشتراباتي بهافان مقر الرئيس بعد السادسة مساءً بوقت قصير ليؤدي قسم توليه منصبه.
بعدها، جرى على قدم وساق عقد سلسلة من الاجتماعات الطارئة، فيما أعلن راديو كل الهند ومحطة دوردارشان القومية التليفزيونية أن رئيس الوزراء الجديد سيوجه للأمة خطابًا في العاشرة والنصف مساءً. لكن في آخر الأمر لم يظهر راجيف غاندي حقيقة على شاشات التليفزيون إلا في الحادية عشرة مساءً، ولم يذَع خطابه على محطات الراديو في جميع أنحاء الهند وحسب وإنما في جميع أنحاء العالم.
أعادت تلك الخطبة بفصاحتها وقوة تأثيرها إلى الأذهان الخطبة المتدفقة بالمشاعر التي أذاعها نهرو إثر وفاة المهاتما غاندي، عندما قال: انطفأ النور من حياتنا، وصار الظلام في كل مكان. لا أدري ما الذي يسعني أن أقول لكم ولا كيف أقوله لكم. قائدنا الحبيب، بابو كما كنا ندعوه، أبو الأمة، لم يعد بيننا. لا بد أن تلك الكلمات كانت تداعب أفكار شارادا براساد كاتب خطابات إنديرا الرئيسي عندما أعد أول خطاب يذيعه راجيف.
لكن مع أن خطاب راجيف سرت غصات الحزن بين حروفه، فلم يكن يائسًا كخطاب نهرو الصادق الواقعي. أشار راجيف إلى أن تراث إنديرا سيعيش مع أنها ماتت، وإلى أن ميتتها العنيفة لم تكن بلا طائل لأن كل قطرة من دمائها، كما توقعت هي في أوريسا في الليلة السابقة على موتها، ستكون في سبيل الأمة. لكن بعدها بوقت قصير، اتضحت فداحة خطأ معتقده، عندما اندلعت إثر الاغتيال مجزرة في دلهي وغيرها من المدن.
في الواقع بدأت المجزرة قبل حتى أن يشرع راجيف في إلقاء خطابه، إلا أنه لم يكن قد انتبه إليها بعد. فبالنسبة له ولأسرة إنديرا وفيهم فيجايا لاكشمي بانديت وابنتها نايانترا ساهجال اللتان أسرعتا بالذهاب إلى دلهي من دهرا دون بدت ليلة ٣١ أكتوبر وكأنها لن تنتهي. نقل جثمان إنديرا من المستشفى إلى بيتها ليرقد هناك لليلة أخيرة قبل أن يُحمل إلى تين مورتي ليسجى في نعش مكشوف. فأزيل الأثاث من غرفة الجلوس وبسطت الأرض بمفارش بيضاء ناصعة جلس عليها المعزون طوال الليل حول جثمان إنديرا الذي كُسي بقماش الموصلين. لم يكن هؤلاء إلا الأصدقاء والأقارب المقربين، لكن مع ذلك امتلأ البيت على آخره بالناس. فقد أعد الخدم حشيات وفرشًا لمن لا يقطنون في دلهي كي يتسنى لهم قضاء آخر ليلة لإنديرا في بيتها معها. وقد ضم هؤلاء بالإضافة إلى السيدة بانديت ونايانترا ساهجال، بي كيه نهرو وفوري نهرو اللذين سافرا على متن طائرة من أحمد أباد إلى هناك. غير أن الكل لم ينم تلك الليلة. لقد تحدث الناس وبكوا.
•••
نُقل جثمان إنديرا في اليوم التالي إلى بيت تين مورتي حيث مدد على نعش مزدان بالأزهار في المدخل الأمامي للبيت. وهناك أثناء إنشاد رجال الدين الهندوس الترانيم على مدار الساعة، عرج عليه لليومين التاليين سيل لا ينتهي من المعزين من رؤساء الدول، والزعماء السياسيين ونجوم الأفلام، والأصدقاء والأقارب وآلاف الهنود الذين لم يلقوا إنديرا من قبل، لكن شعروا بالأسى الشديد على وفاتها.
غير أن الحزن لم يكن وحده ما سيطر على البلاد. لقد أبدى بعض السيخ سعادتهم باغتيال إنديرا؛ فثارت كراهية الطوائف بعضها لبعض ثورة أشد مما شهدتها فترة التقسيم. لما انتقم سيخيان من اجتياح المعبد الذهبي، صمم جمع كبير من الهندوس، بعضه من الهمج وموظفي حزب المؤتمر، على الانتقام لاغتيال إنديرا غاندي. وأخذوا يعيثون في الأرض فسادًا. في الوقت الذي ركزت فيه كاميرات التليفزيون على جسد إنديرا المتحلل في نعشه المكشوف بتين مورتي، أحرق هؤلاء مناطق كاملة من دلهي وغيرها من المدن الهندية.
لقد حوصرت أحياء السيخ ومناطقهم، ونُهبت أسواقهم ومتاجرهم، وأُشعلت النيران فيها. وأخرج سعاة الانتقام لإنديرا من يرتدون العمامات من الرجال والصبية من بيوتهم جرًّا على الأرض، وأوسعوهم ضربًا حتى الموت. وأشعل بعض من السوقة البيوت بدون إمهال قاطنيها من النساء والأطفال والرجال فرصة للخروج. وجابت الشوارع عصابات من قطاع الطرق انهالت على السيخ ضربًا حتى الموت، وصبت عليهم البنزين ثم أضرمت بهم النيران. وأُخرج السيخ من القطارات والحافلات وسيارات الأجرة وذُبحوا.
أين كان رجال الشرطة؟ كانوا في أحيان كثيرة شهودًا في مسرح الأحداث، لكنهم تجاهلوها، وإن كان بعضهم قد شارك في المذابح.
•••
في غضون ثلاثة أيام من اغتيال إنديرا، قُتِل ما لا يقل عن ثلاثة آلاف سيخي، بلغ نصيب دلهي وحدها منهم أكثر من ألفي قتيل. البعض نجا لأنه قص شعر رأسه ولحيته ليحسبه الناس هندوسيًّا. وفر أكثر من ٥٠ ألف سيخي من العاصمة، واتجه أكثرهم إلى البنجاب. في حين لجأ خمسون ألفًا آخرون إلى معسكرات بدلهي مشابهة للمعسكرات التي عملت فيها إنديرا إبان فترة التقسيم.
•••
في شانتي فانا (غابة السلام)، على ضفاف نهر جومنا، حضر عدد من القادة الأجانب والشخصيات عظيمة الشأن جنازة إنديرا. كان من بينهم مارجريت ثاتشر، وجورج بوش، وياسر عرفات، والرئيس الباكستاني ضياء الحق، ورئيس زامبيا كينيث كاوندا، والزعيم الأوغندي ميلتون أوبوتي، وفيرديناند ماركوس رئيس جمهورية الفلبين وزوجته إميلدا، وقائد الأوركسترا زوبين ميهتا، والأم تيريزا ومجموعة من نجوم الأفلام والفنانين والكتاب وملوك أوروبا ورجال الأعمال الأثرياء ذوي النفوذ، والعلماء البارزين، وغيرهم من المشاهير. كما حضر جميع رؤساء الحكومات وغيرهم من أعضاء حزب المؤتمر وساسة أحزاب المعارضة والمسئولون الحكوميون ورجال الجيش. أما أفراد الشعب الهندي العاديون الذين شاهدوا مراسم الجنازة التي استمرت ساعتين، فشأنهم شأن الحشد الذي اصطف على طريق الموكب لم يكونوا إلا قلة مقارنة بالجموع الغفيرة التي احتشدت عند موقع محرقة المهاتما غاندي وجواهرلال نهرو لدى وفاتهما.
عندما وصلت عربة المدفع التي تحمل جثمان إنديرا إلى شانتي فانا، حمل راجيف غاندي وآرون نهرو وقادة القوات المسلحة النعش، وأرسوه على منصة مستوية مقامة أعلى المحرقة التي نُصبت من خشب الصندل العطر. ثم دار راجيف حول جثمان أمه سبع مرات أثناء إنشاد رجال الدين الهندوس بالضبط كما دارت إنديرا وفيروز قبل اثنين وأربعين عامًا حول النيران في زواجهما. وبعدها أشعل النيران في المحرقة بمشعل.
أثناء اشتعال النيران، غرب قرص الشمس متوهجًا باللون الأحمر والزعفراني والذهبي. وأذكى أصدقاء إنديرا المقربون نيران المحرقة بمزيد من خشب الصندل. وأضاف معزون آخرون بعض أوراق الأشجار وأعواد البخور إلى النيران، وصب رجال الدين مزيجا من العسل وسمن الغي لإذكاء النيران، في حين عزف رجال الجيش والبحرية الأبواق الجنائزية. وقبل أن تلتهم النيران جسد إنديرا كلية، ربت راجيف على جمجمتها بعصا من خشب البامبو ليحرر روحها — وفقًا للمعتقدات الهندوسية — من سجنها.