الفصل الرابع

الولد إندو

وصلت عائلة نهرو إلى جنوب الهند يوم عيد الميلاد المجيد عام ١٩٢٧، بالضبط وقت الاجتماع السنوي لحزب المؤتمر في ذلك العام الذي عُقد في مدينة مدراس. وفي ٢٧ ديسمبر، كانت إنديرا وكامالا يجلسان وسط الجماهير المحتشدة عندما صعد نهرو على المنصة لإلقاء كلمته، وأعلن للمرة الأولى في تاريخ حزب المؤتمر القومي الهندي منذ تأسيسه عام ١٨٨٥ أن «حزب المؤتمر يعلن أن هدف الهنود هو الاستقلال الوطني التام.»1 ومع أن نهرو تحدث بلكنته الإنجليزية الصحيحة وبلهجة حادة، غير أن كلماته كانت بمنزلة صيحة الحرب، ولم يلقَ كلمته باللغة الهندية إذ كانت مدراس تقع في الجزء الجنوبي الذي يتحدث اللغة التاميلية.
ولم تكن صيحة الحرب هذه موجهة ضد البريطانيين وحدهم. فقد رفض موتيلال نهرو وغاندي تبني وجهة النظر المنادية بقطع كل ما يربط الهند ببريطانيا دون شروط إذ أرادا الاستقلال عن طريق تحويل الهند إلى دولة تتمتع بالحكم الذاتي مع بقائها تابعة للإمبراطورية البريطانية.2 أما نهرو — الذي أصبحت رؤيته السياسية أكثر تطرفًا في أوروبا — فقد كان يريد التخلص من كل الصلات الاستعمارية. ومن ثَم أصدر قراره المطالب بالاستقلال التام، مع أن هذا القرار لم يلبث سريعًا إلا وقد عُدل وخُفِّف ليصبح نوعًا من أنواع «الزيف» على حد وصفه. ومع هذا فقد كانت اللعبة قد بدأت، ليس على مستوى الكفاح بين بريطانيا والهند فقط، بل داخل الرتب الخاصة بحزب المؤتمر، وما هو أهم لإنديرا داخل أسرتها.

عادت إلى جنوب الهند (المنطقة الاستوائية تحديدًا). وحتى في ديسمبر كانت مدراس حارة الجو. فالشمس حارقة فوقهم، والنخيل والنباتات المورقة تحيط بالمدينة، والأبقار والكلاب الهزيلة تتجول في الشوارع. بعد انتهاء اجتماع حزب المؤتمر استقلت إنديرا وكامالا وجواهرلال قطارًا قطع طريقه باتجاه الشمال عبر المحور المركزي لشبه القارة إلى دلهي، ثم إلى الغرب في الطريق المألوف إلى مدينة الله آباد الذي لم يكونوا قد رأوه منذ عامين تقريبًا.

وإذا عدنا إلى آناند بهافان نجد إنديرا تحتاج الذهاب إلى المدرسة وترغب في ذلك، ومع رفض نهرو لبريطانيا في دورة حزب المؤتمر فقد وافق على إرسالها إلى مدرسة دير سانت ماري، وهي إحدى المدارس التابعة لمؤسسة العذراء مريم المباركة؛ أنشأ هذه المدرسة في الله آباد البريطانيون عام ١٨٦٦. وتكوَّنت من عدة مبانٍ مهيبة مبنية بالطوب الأحمر، أقيمت المدرسة وسط أكواخ المستعمرين البيض في الحي المخصص لسكنى البريطانيين والمميز بشوارعه الفسيحة التي تصطف على جانبيها الأشجار، وتكوَّنت هيئة التدريس بالمدرسة من راهبات بريطانيات وألمانيات. وكان معظم الطلبة من البريطانيين، أو الإنجليز الذين ولدوا في الهند مع قلة من الفتيات الهنود الأثرياء.3

ولعل كامالا قد تغلبت على أسباب معارضة زوجها لسانت ماري باستخدام الحجة نفسها التي استخدمتها مع سيد محمود، وهي أن الكفاح في سبيل الاستقلال لا فائدة منه إذا ظلت نساء الهند في جهل أو لا يتلقين تعليمًا جيدًا. وفي هذه المرة لم تناقش هي أو نهرو فكرة أن أفضل تعليم يمكن الحصول عليه هو تعليم غربي بريطاني. وكان نهرو نفسه يعلم بالطبع أن جميع قادة الحركة القومية تقريبًا — غاندي، وفالابهبهاي باتيل، وراجيندرا براساد، ومحمد علي جناح بالإضافة إليه هو — كانوا خريجي جامعتي أكسفورد وكمبردج أو الهيئات القانونية الأربع في لندن التي يجب على أي محامي مرافعات في بريطانيا وويلز أن ينتمي إلى إحداها، وهي إنر تيمبل وميدل تيمبل وجراي إن ولينكولن إن.

ولكن الذهاب إلى مدرسة غربية في الغرب أمر، والذهاب إلى مدرسة غربية في الهند أمر آخر يختلف تمام الاختلاف. وبعودتها إلى الوطن تخلت إنديرا عن زيها السويسري وعادت إلى ارتداء الخادي الخشن، وفي يومها الأول في المدرسة اكتشفت أنها الوحيدة التي ترتديه. وقصت كامالا شعرها وتخلصت من مشبك الشعر. أما الفتيات الهنديات الأخريات القليلات فقد كنَّ من أسر متفرنجة تدعم الحكم البريطاني في الهند. ومن ثَم أعلنت ملابس إنديرا على الفور أنها من أسرة تتبع سياسة متطرفة. لم تشكُ إنديرا حالها لوالديها ولكنها بعد سنوات تحدثت عن شعورها «بغربة شديدة» في مدرسة سانت ماري.4

لم تكن الراهبات البريطانيات والألمانيات في سانت ماري يعرفن الكثير عن الهند أو عن كيفية حياة الهنود وعاداتهم. فعقب مهرجان الهولي — حيث تكون وجوه وأجساد جميع الهنود ملطخة بالمياه والمساحيق الملونة — كنَّ يُجبِرن إنديرا على الوقوف على مقعد طوال اليوم لأنها لم تستطع إزالة ألوان الهولي صعبة الإزالة من وجهها ويديها.

كانت هذه المواقف هي ما تذكرته إنديرا عن مدرسة سانت ماري؛ إذ لم يكن لديها ما تقوله عن دراستها بها باستثناء أنها «كانت تبدو بعيدة كل البعد عن الحياة التي نعيشها في المنزل مما جعلني لست في حالة تسمح لي بتقبل أي شيء … لقد … كان يبدو أن ما يحاولون تعليمي إياه لا علاقة له بأي شيء في الحياة».5 وزاد من شعورها باللامبالاة فترات غيابها الطويلة عن المدرسة كأن تتغيب لأنها ذهبت إلى موسوري في التلال وقت الصيف أو لأنها سافرت مع أسرتها، وهو نموذج لفترات دراسية مشتتة شجعت إنديرا على ما أطلقت عليه فيما بعد اسم «الازدراء الصحيح أو الخاطئ للامتحانات … فلم أكن حقًّا أكترث أبدًا هل أجتاز الامتحانات بنجاح أم لا.»6

وكان جدها يشجِّع هذه اللامبالاة. وقد عاد موتيلال نهرو إلى الله آباد في فبراير عام ١٩٢٨، محملًا بالأثاث واللوازم الأوروبية لآناند بهافان الجديد الذي كان لا يزال تحت الإنشاء. وموتيلال هو من أصر على أن تذهب إنديرا إلى موسوري فور حلول فصل الصيف أو أن تسافر مع والديها بصرف النظر عن الدروس أو الامتحانات القادمة. ومع أنه كان يدفع مصاريف سانت ماري المكلفة خلال العامين اللذين قضتهما إنديرا هناك فقد كان عدم اكتراثه بدراستها يعادل اهتمام جواهرلال وكامالا الشديد بها.

قد تكون الحياة في آناند بهافان عام ١٩٢٨ مختلفة عنها في سانت ماري، ولكنها كانت أقل تقشفًا بكثير عما كانت عليه خلال الأيام المبكرة لحركة عدم التعاون. ففي أوروبا تجدد ولع موتيلال بالملذات وبدأت الأساليب الغربية للزحف مرة أخرى على آناند بهافان برغم اعتراضات جواهرلال. فعندما عاد موتيلال من أوروبا رجع لعادته في شرب الويسكي الاسكتلندي من نوع «هاي ديمبل» برغم تحريم حزب المؤتمر لشرب الكحول. وكان يدخن كميات كبيرة من السجائر المصرية والتركية. أما وجبات سواروب راني النباتية فلم تعد تُرى إلا في مطبخها وحجرة طعامها. وفيما يخص موتيلال فقد كان يتناول الطعام الأوروبي، الذي يعده طاهٍ مسيحي من ولاية جوا الهندية، ومع إلحاح جواهرلال قلَّت أصناف الطعام من خمس أصناف إلى ثلاثٍ في الوجبة الواحدة.7
كان موتيلال يعمل طوال اليوم إما في مكتبه أو على منضدة في الشرفة، مع استراحات قصيرة لتناول طعام الغداء أو احتساء الشاي. وفي نهاية النهار يصطحب إنديرا ويسيران معًا عبر المروج لتفقد قصر آناند بهافان الجديد، والحديقة المنمقة التي يخطط لأن تحيط بالقصر بأكمله. ثم يعود إلى مكتبه ويظل فيه حتى الساعة الثامنة والنصف أو التاسعة مساءً، بالضبط في الوقت الذي تخلد فيه إنديرا للنوم في فراش الحجرة المجاورة لحجرة والدتها. ويمكنها أن تسمع صوت موتيلال وهو يصيح عاليًا «يا خادم» لينادي خادمه بهولا، وهي صيحة تسمعها إنديرا أيضًا من ابن عمها بريج كومار نهرو في غرفته عندما يكون جائعًا بشدة. فقد كان بريجو (كما كانت الأسرة تدعوه) البالغ من العمر تسعة عشر عامًا في ذلك الوقت طالبًا في جامعة الله آباد ويعيش في آناند بهافان. وكانت صيحة موتيلال «يا خادم» إيذانًا بظهور زجاجة الويسكي، وكان المحامون والقضاة والعاملون بحزب المؤتمر والضابط المفوض من جانب وزارة المستعمرات البريطانية يحضرون جميعًا للمشاركة في احتساء الويسكي الاسكتلندي. كانت إنديرا، التي تتناول طعامها مع والدتها في غرفة والدتها، نائمة غالبًا بحلول الوقت الذي يكون فيه موتيلال ووالدها، إذا كان بالمنزل، وبريجو وأي من الضيوف الموجودين في ذلك الوقت جالسون لتناول العشاء في غرفة الطعام.8
وفي فبراير ١٩٢٨، في الشهر نفسه الذي عاد فيه موتيلال من أوروبا، وصلت إلى بومباي لجنة سيمون التي يرأسها السير «جون سيمون»، والتي شملت ضمن أعضائها «كليمينت آتلي» عضو البرلمان عن حزب العمال. كانت المهمة الظاهرية لهذه اللجنة التخطيط لوضع إصلاحات دستورية لتعزيز قانون الحكومة الهندية الصادر عام ١٩١٩، ولكن في حقيقة الأمر، وحسب وصف أحد المؤرخين، فقد أتت لجنة سيمون إلى الهند «بهدف تشجيع الركود».9 وللمرة الثانية تفشل الحكومة البريطانية في فهم الرأي العام الهندي الذي أثار غضبه عدم وجود عضو هندي واحد في اللجنة. فقوبل الحزب المكون من السبعة الأعضاء في أثناء تجواله في البلاد بالإضراب والمظاهرات الغاضبة التي ردد أصحابها شعار «ارحل يا سيمون». قاد نهرو أحد هذه المظاهرات في مدينة الله آباد وأخرى في لكناو حيث ضُرب بهراوات الشرطة المدربة جيدًا على استخدامها فتركته — وآخرين — مثخنين «بالجراح المحاطة بالكدمات وآثار الضرب». كان هذا الضرب بمنزلة نقطة التحول أو جواز المرور، تمامًا مثلما كان دخول السجن في بداية العشرينيات. لكن ما أزعج نهرو أكثر من آلامه وكدماته كانت وجوه الشرطة الإنجليزية «المليئة بالكراهية والشهوة لإراقة الدماء، إلى حد الجنون تقريبًا.»10

دفعت طريقة لجنة سيمون المستبدة فيما يخص مستقبل الدستور الهندي حزب المؤتمر لتشكيل لجنة عملت على إصدار دستور هندي بدلًا من ذلك الدستور البريطاني المفروض. عُين موتيلال نهرو رئيسًا لهذه اللجنة التي اختلف أعضاؤها من مسلمين وهندوس وسيخ وليبراليين واشتراكيين، وعُين جواهرلال أمينًا عامًّا لها. وبعد عدة أشهر من النقاش والنزاع المحتدم أصدرت اللجنة وثيقة عُرفت باسم «تقرير نهرو». ولم تكن هذه الوثيقة من بنات أفكار جواهرلال بل من بنات أفكار موتيلال؛ فقد كانت تتناقض تمامًا مع قرار الاستقلال الذي أعلنه شقيقه الأصغر في مدراس، وأعلنت أن الهدف السياسي هو أن تنعم الهند بالحكم الذاتي، وفي الوقت نفسه تدين بالولاء للإمبراطورية البريطانية.

ما عناه كل هذا لإنديرا هو أن والدها وجدَّها مشغولان وبعيدان خلال ربيع ١٩٢٨، ويعني وجود توتر لم يسبق له مثيل في المنزل. ويصف بريج كومار نهرو الموقف في ذلك الحين بقوله: «أصبحت الاختلافات بين الأب والابن الآن عميقة.»11 وأصبحت أوقات تناول الطعام تتسم بالتوتر الشديد. وكان جواهرلال يحاول تجنب النقاشات السياسية على المائدة. ولكن الجو كان لا يزال مشحونًا. وأثناء تناول العشاء ذات مساء ألقى موتيلال بعضًا من مقاطع شعر فارسي على مسامع ضيوفه وطلب من ابنه ترجمتها. رفض جواهرلال ولكن موتيلال أصر. في النهاية تمتم جواهرلال في صعوبة بترجمة غير دقيقة، فعنَّفه موتيلال على عدم معرفة الفرق بين كلمتين فارسيتين متشابهتين في النطق، فرد عليه جواهرلال بقوله: «إنني على الأقل أعرف الفرق بين الدولة التي تنعم بالاستقلال التام والدولة التي تنعم بالحكم الذاتي ولكنها تدين بالولاء للإمبراطورية البريطانية!» عندئذٍ استشاط موتيلال غضبًا وهب واقفًا ثم قلب مائدة الطعام بكل ما عليها على الأرض.12
لم تحضر كامالا وإنديرا هذا الموقف، ولكنهما شهدا مواقف أخرى. أما كامالا فهذا وقت حرج لسبب آخر أيضًا. فهي تحمل طفلًا للمرة الثالثة وتريد الطفل بشدة. ومما زاد من حزنها أنها فقدت الطفل في الشهر الثالث من الحمل في آخر ربيع ١٩٢٨. وفور إجرائها عملية الإجهاض أصيبت كامالا بآلام شديدة في معدتها استدعت خضوعها لجراحة لاستئصال الزائدة الدودية،13 وعندما عادت من المستشفى إلى المنزل بعد العملية سيطرت عليها مشاعر الاكتئاب والمرض. وبعث غاندي بنصيحته الطبية الشخصية لنهرو من صومعته في سابارماتي؛ إذ قال: «ثقتي معدومة في تقارير الأطباء عن كامالا … وأتمنى أن تفكر أنت ووالدك وكامالا في أن تتلقى كامالا علاجًا طبيعيًّا، أقصد أن تتعرض لحمامات كوهني وحمامات شمس. لقد أصبحت حمامات الشمس الآن رائجة حتى ضمن المهن الطبية، ويقال إنها تحقق نتائج مذهلة.»14
ظلت كامالا في حجرتها حيث كانت إنديرا تقضي معظم وقتها قبل المدرسة وبعدها. وأصبح بريج كومار نهرو الزائر المنتظم الوحيد لها. صُدم بريج كومار من الطريقة التي تجاهل بها باقي المنزل كامالا، والتي بدا منها عدم اهتمامهم بحالتها النفسية والبدنية المتدهورة.15 عندما أصبح الجو أكثر دفئًا نُقل سرير كامالا إلى الشرفة خارج حجرتها، حيث كانت تستلقي فاترة الهمة طوال اليوم. وكان بريج كومار يعود إلى المنزل من محاضراته بعد الظهر ويصعد إلى حجرتها، ويقرأ لها ولإنديرا مقتطفات من أعمال الأديب الروسي إيفان تورجينيف. وتقول ابنة أخت زوج كامالا — ابنة نان بانديت — إنها تتذكر كيف كانت كامالا تستلقي على ظهرها في الشرفة، دائمًا برداء أبيض صامتة وتحوم إنديرا حول جسدها الهزيل حامية له.16
وفي مايو عندما ارتفعت درجة حرارتها ذهبت كامالا وإنديرا والنساء الأخريات في العائلة — سواروب راني، وبيبي آما، وبيتي، ونان بانديت وطفلتها الصغيرة تشاندراليخا — مع زوج نان، رانجيت بانديت، إلى موسوري. وهناك اتخذوا جناحًا في مقرهم الصيفي الرئيسي، في فندق سافوي، ومنه كتبت إنديرا لوالدها في ١٦ مايو:

أبي الحبيب،

وصلنا هنا الساعة الثانية عشرة، وسافرنا بالقطار حتى ديهرادون، ونزلنا في ديهرادون وذهبنا في عربة … ثم امتطى زوج عمتي [رانجيت بانديت] وعمتي [نان بانديت] الخيل وركبت أنا وأمي وتشاندراليخا على مقعد يجره أربعة من الحمالين. كنت أود ركوب الخيل كثيرًا ولكن عمتي قالت إنه من الأفضل ألا أفعل لأنني لم يكن معي ثياب مناسبة لركوب الخيل.

لقد انتهيت توًّا من تناول غدائي. كيف حالك؟ … اكتب إليَّ قريبًا، وأخبرني متى ستأتي.

مع الحب من ابنتك، إندو17
ولكن جواهرلال كان مشغولًا للغاية في عمل لجنة نهرو. ولأنه لم يستطع زيارة إنديرا في موسوري فقد حاول أن يحافظ على الصداقة الحميمية التي كانا قد أنشآها في أوروبا عن طريق الرسائل. وفي أثناء صيف ١٩٢٨، حين كان جواهرلال يتبادل النقاشات مع موتيلال وباقي أعضاء لجنة نهرو، كان يظل ساهرًا حتى وقت متأخر من الليل ويكتب سلسلة من الرسائل الطويلة لإنديرا نُشرت بعد عامين في كتاب صغير حمل اسم «رسائل أب إلى ابنته».18 كانت هذه الرسائل التي كُتبت على هيئة فصول تهدف لأن تصحح لإنديرا أفكار التعليم البريطاني الذي كانت تتلقاه في مدرسة سانت ماري. في الفصل الأول من الكتاب، الذي جاء تحت عنوان «كتاب الطبيعة» كتب:
«من عاداتك حينما نكون معًا أن تسأليني أسئلة كثيرة عن موضوعات شتى أحاول الإجابة عليها. والآن أنت في موسوري وأنا في الله آباد، لا أستطيع أن أحدثك أو تحدثيني. لذلك سأكتب إليك … رسائل قصيرة أقص عليك فيها قصة كرتنا الأرضية، وقصة البلدان التي انقسمت إليها سواء أكانت هذه البلدان كبيرة أم صغيرة. لقد قرأتِ القليل عن التاريخ الإنجليزي والتاريخ الهندي. لكن إنجلترا ليست إلا جزيرة صغيرة، والهند، مع أنها دولة كبيرة، ما هي إلا جزء صغير من سطح الأرض. فإذا كنا نريد أن نعرف شيئًا عن قصة هذا العالم الذي نعيشه علينا أن نفكر في جميع الدول وجميع الشعوب التي سكنته، ليس فقط في دولة صغيرة منفردة … أنا … أستطيع … أن أخبرك في هذه الرسائل عن القليل [فقط] … ولكن هذا القليل، على ما أتمنى، سيثير اهتمامك وسيجعلك تفكرين في العالم ككل، وفي الشعوب الأخرى كإخوة وأخوات لكِ.»19
في رسائله بدأ نهرو بأصل الأرض منذ كونها شظية محترقة من الشمس في بداية الخليقة. ثم تطرق إلى تطور الكائنات الحية، وظهور الإنسان العاقل، والعصور الجليدية والحجرية والحديدية، والأجناس المختلفة، واللغات والحضارات. ولم يكن يقتصر الأمر على المعلومات، فقد أراد نهرو أن يوصل رؤية معينة. وعندما تعلق الأمر بمناقشة الدين قال نهرو: «في البداية جاء الأمر على صورة الخوف وكل ما يتم بسبب الخوف هو شيء سيئ … فنحن نرى اليوم أن الشعوب يحارب بعضها بعضًا ويهشم بعضها رءوس بعض باسم الدين. و… الكثير من الناس … يقضون أوقاتهم في محاولة إرضاء كائنات خيالية عن طريق تقديم الهدايا في المعابد و… الأضاحي من الحيوانات.»20 وفي مناقشته الأشكال المختلفة من الحكومات والملوك والثورات، يقول: «لا يزال لدينا في الهند الكثير من الملوك والأمراء والحكام (الذين يطلق عليهم بالترتيب اسم الراجا والمهراجا والنواب). ترينهم يجولون بأرديتهم الفخمة في عرباتهم الثمينة وينفقون الكثير من الأموال على أنفسهم … يعيشون هم في ترف وتموت شعوبهم التي تكدح وتعطيهم المال من الجوع، ولا يجد أطفالهم المدارس ليذهبوا إليها.»21 ويستمر جواهرلال في مناقشة النظام الطبقي، ويشجب استغلال الطبقات العليا والنبلاء للفلاحين والعمال.

وبعيدًا عن الأمثلة الأخلاقية والسياسية التي تُشكِّل جوهر الرسائل نجد موضوع الحفريات موضوعًا رئيسيًّا يُذكر على نحو متصل. فيُذكِّر نهرو إنديرا بالحفريات التي رأوها معًا في متحف جنيف وفي متحف التاريخ الطبيعي في لندن، وأيضًا الحفريات الجميلة لآثار نبات السرخس ونباتات أخرى وجدوها في أثناء تنزههما في الهند. شجعت المعاني الضمنية المفهومة من بين سطور هذه الرسائل إنديرا على النظر إلى ما وراء الكفاح السياسي الذي يعيشونه، للحصول على أكبر قدر من المشاهدة للوقت والحياة على كوكب الأرض.

بقي نهرو نفسه متورطًا في الأحوال السياسية في الله آباد. وبعد عودة إنديرا وكامالا والآخرين من موسوري كانت الأزمة بينه وبين موتيلال والعناصر المختلفة في حزب المؤتمر — من متطرفين ومحافظين ومحليين — قد وصلت إلى ذروتها في الجلسة السنوية للجنة حزب المؤتمر لعموم الهند التي كان انعقادها في كلكتا في ديسمبر ١٩٢٨.

سافرت الأسرة بأكملها بالقطار إلى كلكتا، فريق كبير من الأفراد وفيهم ناينتارا، المولود الجديد لنان بانديت. انتخب موتيلال رئيسًا لحزب المؤتمر وعومل هو وحاشيته كالملوك.22 وفي كلكتا أقامت الأسرة في قصر مزين بالبيارق والأزهار والأعلام الوطنية، يحرسه متطوعون من حزب المؤتمر ممتطين خيولهم. وأثناء توجههم لحضور الجلسة الافتتاحية لاجتماع حزب المؤتمر استقل موتيلال وجواهرلال وكامالا وإنديرا عربة يجرها أربعة وثلاثون حصانًا أبيض وخلفهم المتطوعون من حزب المؤتمر على ظهور الجياد، بالإضافة إلى النساء اللاتي كن يمشين في الموكب مرتديات ساري لونه أخضر طرفه أحمر ومصنوع من قماش الخادي، ووحدة طبية، وفي النهاية أسطول من سائقي الدراجات النارية يقودهم الزعيم البنغالي المتطرف في حزب المؤتمر سوباس تشاندرا بوس.23
وكان أحد مشاهدي هذا الموكب المهيب طفلًا في الثامنة من عمره يدعى سيدهارتا شانكار راي، وهو حفيد شيتارانجان داس صديق موتيلال القديم، ورفيقه في حزب السواراج الذي كان قد توفي في ذلك الوقت. في مؤتمر كلكتا عام ١٩٢٨ كان سيدهارتا وأطفال مندوبي حزب المؤتمر وأحفادهم الآخرون يريدون الاشتراك، ولهذا نظَّم مائة منهم أو نحو هذا العدد أنفسهم لعمل رايات حمراء كبيرة مكتوب عليها شعارات باللون الأبيض تقول «يعيش المهاتما غاندي» و«النصر لحزب المؤتمر». وفي الاجتماع الثاني أو الثالث لمجموعة الأطفال أُعلن أن إنديرا نهرو أوشكت على الوصول. كان الأطفال يتوقون لرؤية كيف تبدو حفيدة وابنة بطليهما موتيلال وجواهرلال نهرو، وصلت إنديرا بردائها الخادي الأبيض الفضفاض. وأصابتهم خيبة أمل كبيرة؛ إنها ضعيفة وضئيلة للغاية. ولكن بعد أيام عدة انتشرت شائعة بأن إنديرا قد أكلت في إفطارها ست ثمرات موز، وكان لهذا أبلغ الأثر في تحسين صورتها.24

في ٢٧ ديسمبر ١٩٢٨، أي بعد سنة من اليوم الذي أعلن فيه نهرو قرار الاستقلال في مدراس، اقترح غاندي في جلسة مغلقة في كلكتا أن يُطبق تقرير نهرو — وفي ذلك ما يتضمنه من دعم لمسألة أن تنعم الهند بالحكم الذاتي وتدين في الوقت نفسه بالولاء للإمبراطورية البريطانية — إذا وافق البريطانيون على التقرير ونفذوا ما فيه من مطالب خلال عامين. أما جواهرلال فقد رفض بشدة هذه المسألة التي وصفها بأنها «فعل أحمق وخاطئ» يُذعن لما تريده «سيكولوجيا الإمبريالية». تلت هذا جلسة طارئة استمرت طوال الليل، وفي اليوم التالي قلل غاندي حد الوقت المسموح للندن من عامين إلى عام واحد. كان نهرو لا يزال يشعر بضيق مرير وكذلك كان حليفه سوباس تشاندرا بوس. ولكنه رضخ في النهاية. وبدلًا من التصويت لمصلحة رغبة غاندي أو ضدها، تعمد جواهرلال الغياب في هذه الجلسة. ونُفذ اقتراح غاندي بموافقة ١١٨ صوتًا في حين عارضه ٤٥ صوتًا.

وكشفت ذروة النزاع بين هؤلاء المؤيدين للاستقلال التام وأولئك المفضلين للحكم الذاتي تحت السيطرة البريطانية — وهو الصراع الذي هدد بانشقاق حزب المؤتمر وعائلة نهرو — عن صفات مهمة في نهرو؛ وقد وصف أحد كتاب سيرته هذا الأمر بقوله: «تردده عندما قوبل بوجوب الاختيار بين خيارين أحلاهما مر؛ فإما إخلاصه لغاندي ولوالده على حساب الرجوع عن مبادئه، وإما اقتناعه العميق بأن وحدة الحزب لها الأولوية السياسية العليا.»25 ومع ذلك فلم يكن نهرو عندئذٍ قد توصل إلى حل وسط بين هذين الخيارين. ولم يرد في ذهن أحد — سواء جواهرلال أو موتيلال أو غاندي — احتمال بأن البريطانيين سيوافقون على تقرير نهرو ويمنحون الهنود الحكم الذاتي تحت السيطرة البريطانية خلال سنة أو اثنتين أو حتى خمس سنوات. ونص قرار غاندي أن العصيان المدني سيُعاد تنشيطه إذا لم يفعل البريطانيون. ومن ثَم علم جواهرلال أن السنة القادمة ستكون سنة تجهيزية لتجديد ضخم للحركة الوطنية.
ومن هنا أصبح عام ١٩٢٩ قنبلة موقوتة تدق بانتظام كل يوم في السنة الواحدة المحددة للبريطانيين. كانت هذه شهورًا محمومة لنهرو يتم فيها إعداد حزب المؤتمر لاتخاذ فعل مباشر. فجال البلاد معظم الوقت، ولم يكن في المنزل عندما انتقلت الأسرة إلى آناند بهافان الجديد المكتمل في الربيع. وبرغم اعتراضات سواروب راني وبيبي آما رفض موتيلال القيام بأداء شعائر «البوجا» التقليدية. كان آناند بهافان الجديد أصغر حجمًا من القصر الأصلي، ولكنه كان لا يزال متسعًا، بل يحتوي على مظاهر أكبر للترف في بعض الأمور؛ حيث إنه كان مزينًا بأشياء أحضرها موتيلال معه من أوروبا؛ مقابض أبواب من البورسلين، ومصابيح نحاسية، وحمامات، ومراحيض، وشطاف [بيديه] (يشاع أنه أول شطاف في الهند). وهناك سلالم حلزونية مزينة تصل الطابقين، وشرفات واسعة ذات أرضيات مصنوعة من الأحجار الحمراء والبيضاء تحيط بالمنزل، في حين غطت قبتان بيضاويتان من العصر المغولي السقف فكانتا أشبه بفطر عيش غراب حجري جاثم على السقف. كانت لإنديرا حجرة كبيرة في آخر الطابق الأول، بجوار حجرة ملابس والدها وحجرة نوم والديها، وبالحديقة الخارجية تفتحت الأزهار الإنجليزية. وفي اليوم التالي لانتقال الأسرة نشرت صحيفة «بايونير» في صفحتها الأولى صورة آناند بهافان الجديد المهيب تحت عنوان «كيف يعيش السياسيون الفقراء في بلدنا».26
كالمعتاد رحلت نساء عائلة نهرو وفيهن إنديرا إلى موسوري في الصيف. وعندما عُدْن في الخريف كان السؤال المهم الذي يطرح نفسه على الساحة السياسية هو من سيخلف موتيلال رئيسًا لحزب المؤتمر في اجتماع لاهور السنوي المقرر عقده في ديسمبر ١٩٢٩. في ذلك الوقت تكون السنة التي تمثل المهلة «الممنوحة» للبريطانيين قد انقضت، وأيًّا كان من سيصبح رئيسًا لحزب المؤتمر سيُطلق حملة العصيان المدني الجديدة. كان غاندي هو الخيار الواضح، ولكنه رفض الأمر بشدة في لجنة حزب المؤتمر الهندي في لوكناو. وبدلًا من هذا دعم غاندي بشدة جواهرلال رئيسًا لحزب المؤتمر؛ الأمر الذي نتج عنه انتخاب جواهرلال، «ليس … عن طريق المدخل الرئيسي أو حتى المدخل الجانبي، فقد ظهرت فجأة من باب سحري وأربكت المشاهدين للموافقة عليَّ» على حد وصفه. شعر جواهرلال بالمهانة؛ إذ أحس بأنه بات مثل «حبة الدواء الضرورية»، التي على المرء أن يبتلعها بشجاعة. ولكن موتيلال، ومع كل خلافاتهما، شعر بالابتهاج لكون ابنه قد خلفه.27

لم تكن إنديرا قد ذهبت إلى البنجاب من قبلُ، وكان البرد قارصًا عند وصولها إلى لاهور بصحبة أسرتها في أواخر ديسمبر ١٩٢٩. وبدلًا من الإقامة في قصر مزخرف — مثل ذلك الذي كانوا قد سكنوه العام السابق في كلكتا — اتجهت عائلة نهرو مباشرة من محطة المترو إلى معسكر كبير من خيام بيضاء — موقع اجتماع حزب المؤتمر — المنصوبة على ضفاف نهر رافي. وهناك أقاموا طيلة ستة أيام مع ٣٠٠ ألف شخص يأكلون وينامون ويعقدون الاجتماعات.

رفض نهرو الحضور إلى الجلسة الافتتاحية في عربة تجرها الثيران كما طُلب منه. وإنما كان يود أن يمشي دون مرافقين، دون موكب، ولكنه في النهاية وافق على أن يمتطي جوادًا أبيض عبر شوارع لاهور المحتشدة بالجموع التي تهتف له وتلوح بالرايات. امتلأت الشوارع والأسطح والأشجار المصفوفة في الطرق بالجموع التي انتظرت لساعات حتى تلمح لنهرو. وقد عبَّر غاندي، المحرك الحقيقي وراء هذه المكانة لنهرو، عن الروح المهيمنة على هذه اللحظات عندما وصف نهرو بأنه يسير وكأنه «ملك بلا خوف أو خجل».28 فقد بدأ موكب من التمجيد، بل يصل إلى حد التعظيم.
في الجلسة الافتتاحية التي حضرتها إنديرا سلم موتيلال عباءة رئاسة حزب المؤتمر إلى جواهرلال وهو يتلو بيتًا من الشعر الفارسي: «ما يعجز الأب عن تحقيقه سيحققه الابن.»29 كانت هذه الكلمات بمنزلة بذور أسطورة جديدة، تلك الخاصة بسلالة نهرو (وفيما بعد بسلالة نهرو- غاندي). كانت هذه هي المرة الأولى التي يخلف فيها ابن والده في رئاسة حزب المؤتمر، فكان فخر موتيلال لا يُقدر، وكانت سواروب راني «في حالة من النشوة»، وبالطبع كانت إنديرا تشعر بالإثارة هي الأخرى. فبعد ثمانٍ وعشرين عامًا ستقوم هي بدورها ﺑ «وراثة» رئاسة حزب المؤتمر، غير أن ظروف توليها الرئاسة ستختلف تمام الاختلاف عن ظروف أبيها.
وفي خطبة توليه الرئاسة عام ١٩٢٩ أعلن نهرو بشجاعة عن روح حزب المؤتمر الجديدة؛ إذ قال: «إننا نرى الاستقلال على أنه الحرية الكاملة من الإمبريالية والسيطرة البريطانية.»30 وكان من المتوقع أن يصل اجتماع حزب المؤتمر إلى ذروته عندما يصل الأمر إلى اتخاذ قرار الاستقلال التام الذي كان نهرو قد قضى ساعات في كتابته في لاهور. كانت إنديرا بالصدفة معه عندما ناوله سكرتيره المسودة النهائية المطبوعة، فأعطى نهرو على الفور النسخة لها، وطلب منها قراءته بصوت عالٍ. بدأت في القراءة متلعثمة، فقاطعها بقوله: «اقرئيه على نحو سليم.» فبدأت ثانية، وأخذت تقرأ ببطء وتؤدة:
«إننا نؤمن بأن الحرية والتمتع بثمار العرق وضرورات الحياة حق من حقوق الشعب الهندي شأنه في ذلك شأن شعوب العالم كافة — وهو حق لا يجوز التفريط فيه — بحيث يستطيع الاستفادة من جميع فرص التنمية. نؤمن أيضًا بأن أي حكومة تسلب هذه الحقوق المشروعة من شعبها وتقهره فإن هذا الشعب له مطلق الحرية في أن يغيرها أو يسقطها. وإن الحكومة البريطانية لم تسلب الشعب الهندي حريته فحسب، بل دعمت نفسها من خلال استغلال الجماهير، ودمرت الهند اقتصاديًّا وثقافيًّا وروحيًّا. ومن ثَم فإننا نؤمن أن الهند يجب أن تقطع كل ما يربطها ببريطانيا، وتحصل على الاستقلال التام …»31
عندما أنهت إنديرا قراءة النص بأكمله قال لها نهرو: «حسنًا لقد قطعت على نفسك هذا العهد الآن بعد أن قرأته بصوت عالٍ.»32

ولكن إنديرا لم تكن تدرك أنها أول إنسان في الهند يقطع على نفسه هذا العهد حتى أصدر غاندي القرار أمام مندوبي حزب المؤتمر المجتمعين في لاهور. وطالب غاندي أيضًا بمقاطعة الهيئات التشريعية ولجان الحكومة، وأعاد إطلاق حملة العصيان المدني. أصدر القرار في منتصف ليل ٣١ ديسمبر في نفس لحظة بدء عام وعقد جديدين، وفي الساعة التي أعلن فيها انتهاء الإنذار النهائي للسنة الواحدة التي أمهلها حزب المؤتمر للبريطانيين. ورُفع علم الاستقلال على ضفاف نهر رافي في ظل ترديد هتافات وصيحات «عاشت الثورة». استمر كل هذا لساعة أخرى من منتصف الليل، ولم يكن أحد يعلم كم سنة ستستمر تلك الهتافات.

•••

عندما عادت عائلة نهرو إلى الله آباد كانوا قد أصبحوا من المشاهير ولم يعد آناند بهافان منزلًا خاصًّا. فلم يكن جواهرلال رئيسًا لحزب المؤتمر فحسب، بل كان بطلًا قوميًّا وحصل كل من هو قريب منه على جزء من مجده المنعكس. ومن جميع الأنحاء البعيدة والقريبة كان التابعون المحبون يسافرون إلى آناند بهافان. «جموع من الحجاج»، كما وصفهم نهرو، تحتشد على الأرض، وعجت الشرفات بالناس، «وأمام كل باب وخلف كل نافذة عيون محدقة». وأصبح من الصعب الحديث أو العمل أو تناول الطعام في ظل هذه الظروف من المراقبة المتطفلة التي «لم تكن محرجة فحسب»، كما وصف نهرو فيض المعجبين، ولكنه كان أيضًا مدعاة «للضيق والإزعاج». واستطرد قائلًا: «ولكن ها هم أولاء هناك متطلعون بأعينهم اللامعة المليئة بالحب … مغدقون شعورهم بالعرفان والحب ويطلبون القليل في المقابل، لا يريدون شيئًا سوى الشعور بالأخوة والعطف.»33 وكان نهرو يخرج في فترات منتظمة خلال اليوم لمقابلة الجموع والاستماع إلى مشكلاتهم، وتقبل ثنائهم، ويشعر بالخجل من شعوره الأول بعدم الصبر والتبرم.
ذاعت الأغاني والأساطير حول نهرو وعائلته وطُبعت، سواء على شكل أوراق كبيرة ذات وجه واحد أو على شكل كتيبات صغيرة، وكانت الملصقات المزخرفة التي تحوي صورهم تُباع في الأسواق. في البداية وجد نهرو تبجيل البطل أمرًا يدعو إلى النشوة؛ فقد أعطاه «الثقة والقوة». ولكنه أدرك بعد ذلك أن «سمعته كبطل [كانت] بأكملها زائفة» ومرتكزة على تصور غير حقيقي لعائلة نهرو كأبناء الطبقة الأرستقراطية والنبلاء بل كأنصاف آلهة. وكثرت الشائعات أنه قد ذهب إلى المدرسة مع أمير ويلز في إنجلترا، وأنه وموتيلال كانا يرسلان ملابسهما كل أسبوع من الهند إلى لندن لتُغسل. وقالت إحدى الشائعات إن أسرة نهرو فيما بعد تخلت تمامًا عن الترف والمكانة والثروة من أجل الشعب الهندي.34
بمرور الوقت أصبحت هذه الحالة من العبودية راسخة ومدمرة، مثل انطباع السلالة الحاكمة لنهرو-غاندي. ولكن في الأيام الأولى كانت مصدرًا للدعابة لكامالا وأخوات نهرو. فكن في تقليدهن لعبارات الثناء التي تنهال عليه يخاطبنه «جوهرة الهند» و«الشمعة التي تحترق من أجل الآخرين».35 أما إنديرا، فقد كانت شهرة والدها والشعور بفقدان الخصوصية الذي اجتاح آناند بهافان أمورًا مربكة. ولم تُعفَ هي الأخرى من مظاهر عبادة البطل. فكما ظهر إنجازها الفذ في تناولها للموز في كلكتا أصبحت إنديرا مدركة أنها تُمثل الأسرة وأن لها صورة عامة يجب الحفاظ عليها.

في جلسة حزب المؤتمر في لاهور، اتخذ يوم ٢٦ يناير عيدًا للاستقلال، حيث يقام الاحتفال به في أنحاء البلاد. وفي الله آباد، في ذلك اليوم عام ١٩٣٠، وقع الاختيار على إنديرا — أصغر طفلة (مع استثناء أطفال نان بانديت) — لترفع العلم الوطني في آناند بهافان أمام أعضاء الأسرة والخدم المجتمعين. وقف الجميع في الشرفة والعلم ذو الألوان الثلاثة يُرفَع، ثم رددوا عهد الاستقلال والنشيد الوطني، وهو مشهد تكرر في ربوع البلاد كافة.

في الأسابيع والشهور التالية اجتاح الاحتجاج والعصيان المدني الهند، وتقدمتها المقاومة السلمية الشهيرة لضريبة الملح التي قام بها غاندي للاحتجاج على ضريبة الملح التي فرضتها الحكومة؛ إذ إن هذه الضريبة خاصة تعد غير عادلة لأن الملح أحد متطلبات الحياة الرئيسية. وفي مارس ١٩٣٠ قام غاندي مع ثمانية وسبعين من المشاة الآخرين بالمشي لمسافة ٢٤٠ ميلًا من صومعة سابارماتي إلى داندي على الساحل حيث استخرجوا الملح من مياه البحر الموحلة. في حقيقة الأمر كان هذا «العمل الخطير الأبله الخاص بالملح»، كما وصفه لورد إيروين نائب الملك، استراتيجية عبقرية أثارت البلاد كلها.

وكانت إحدى التبعات الملحوظة لمسيرة الملح وعودة العصيان المدني على المستوى العام سنة ١٩٣٠ المشاركة الكبيرة التي أتيحت للنساء الهنديات اللاتي لم يلعبن دورًا سياسيًّا مهمًّا في العشرينيات. وفي أوائل سنوات الكفاح القومي كانت النساء على شاكلة آني بيسانت وسروجيني نايدو يُعددن من الاستثناءات، أو بالأحرى رجالًا شرفيين في حزب المؤتمر. ولكن الآن لم تقُمْ «كتلة» النساء مثلما كتب نهرو «بأخذ الحكومة البريطانية فحسب على حين غرة، بل كذلك كان الأمر لرجالهم أنفسهم … نساء من الطبقات العليا والطبقات المتوسطة، والنساء العاملات، والثريات يندفعن في العشرات منهن في تحدٍّ لنظام الحكومة وهراوات الشرطة».

وكان من ضمن هذه الحشود من النسوة ممن كن يقُدْنهن في الله آباد، نساء عائلة نهرو، خاصة كامالا التي تركت فراش المرض، وارتدت زي الخادي بلونه الأبيض الذي يرتديه متطوعو حزب المؤتمر، وخرجت للمشاركة في الوقفة الاحتجاجية أمام المتاجر التي تبيع الأقمشة الأجنبية والكحول، وأمام المحاكم والمدارس الحكومية. اختفت الأمراض والإعياء الجسدي الذي كان يصيب كامالا أو تجاهلته هي. وبعد وقت كبير أدرك نهرو أنها كانت تشتاق «لممارسة دورها الشخصي في الكفاح الوطني، وأنها لا ترغب في أن تكون تابعًا وظلًّا لزوجها فحسب»، وقال نهرو إن الأشهر الأولى من عام ١٩٣٠ شهدت بداية إحساسه «برغبتها، وعملنا معًا ووجدت في هذه التجربة متعة كبيرة».36
وبجانب النساء طالب الأطفال بدور لهم، ومن كان ليقودهم أفضل من إنديرا نهرو؟ ومن ثَم أنشأت جيش القردة في مارس ١٩٣٠. وبعد سنوات من هذا الحدث نُسب لإنديرا كل الفضل، حيث شرحت كيف أنها شكلت وحدها فرقة أطفال من عمال حزب المؤتمر حيث قيل لها إنه بغير استطاعتها أن تنضم إلى المتطوعين الدائمين حتى تصبح في الثامنة عشرة من عمرها.37 ولكن جيش القردة كان في حقيقة الأمر فكرة مشتركة بين كامالا وبيشامبار ناث باند، وهو أحد أمناء لجنة حزب المؤتمر في الله آباد الذي كان يعمل عن قرب مع كامالا. ففي أحد الأيام كانت كامالا تتجول في أحد الأجزاء الفقيرة من المدينة مع بيشامبار ناث باند حيث الأطفال في الشارع، كالمعتاد، يتبعونهم ويصيحون: «النصر لكامالا نهرو.» قالت امرأة عجوز تقف بالجوار لكامالا إن الأطفال يشبهون جيش القردة في ملحمة الرامايانا، حيث بني جيش الإله القرد هانومان جسرًا بين لانكا (سريلانكا الآن) والهند بهدف إنقاذ الأميرة سيتا، زوجة لورد راما بعد أن اختطفها الملك الظالم رافان. اقترحت كامالا على بيشامبار ناث باند عندئذٍ أن يُكوِّنوا جيش قردة من أطفال حزب المؤتمر، واقترح هو أن يجعل إنديرا البالغة من العمر اثني عشر عامًا قائدة له. مع ذلك كانت إنديرا — حسبما قال بيشامبار ناث باند — مترددة وقبل أن توافق على الخطة تأكدت من أنه سيساعدها. ومعًا نظما برنامجًا وزيارة لمدارس الله آباد في وقت قصير جدًّا وتمكنا من تجنيد نحو ألف طفل.
في ربيع عام ١٩٣٠ طالب حزب المؤتمر بأسبوع من المظاهرات في مختلف أنحاء البلاد، وفي الله آباد قادت إنديرا موكبًا ضخمًا من ١٥ ألف طفل، وشاهد هذا الموكب ٥٠ ألف شخص في شوارع الله آباد. انتهى الموكب باجتماع جماهيري في آناند بهافان حيث خاطبت إنديرا حشود جيش القردة. ونظرًا لأن صوت إنديرا ضعيف للغاية، كان على بيشامبار ناث باند أن يكرر على الجماهير أقوالها وتعليماتها جملة جملة بصوته الجهوري المرتفع وكأنه مكبر صوت بشري. حثت إنديرا الجماهير من خلال صوت بيشامبار ناث باند الجهوري على جمع المؤن لمعسكرات الساتياجراها، وتوزيع نشرات الساتياجرها، وأن يجمع كل منهم بيزا واحدة من كل أسرة كل يوم لتمويل جيش القردة.38
ورغم تردد إنديرا في أول الأمر فقد استحوذت أنشطة جيش القردة عليها بسرعة. في الأصل كانت الفكرة ترتكز على أن يساعد الأطفال عمال حزب المؤتمر الكبار من خلال أداء المهام الصغيرة مثل حمل الرسائل وتحضير الطعام وحياكة الأعلام وتوزيع المنشورات. ولكن الأطفال أدركوا على الفور أن بإمكانهم أن يكونوا مفيدين عن طريق قيامهم بوظيفة استخباراتية. حيث يكون بإمكانهم التظاهر بأنهم يلعبون في الشارع بالقرب من نقاط الشرطة ويسترقون السمع لأوامر الاعتقال وأماكن حملات الشرطة التالية، ومن ثَم يكون بإمكانهم الإسراع بتحذير أعضاء حزب المؤتمر المعنيين. وكما شرحت إنديرا الأمر فيما بعد: «لم يكن أحد منهم يلقي بالًا لأطفال صغار يلعبون الحجلة أمام قسم الشرطة. فلم يكن هناك أحد يعتقد أن مثل هذا الطفل البريء يؤدي مهمة. كان الطفل يحفظ عن ظهر قلب رسالة ثم يذهب إلى من يعنيهم الأمر ويخبرهم قائلًا: «تعلم أن هذا ما يتعين أن يُفعل أو ألا يُفعل. الشرطة بكاملها في المكان سيقبضون على فلان وفلان».»39

أصبحت إنديرا الآن مشهورة لذاتها، بوصفها قائدة جيش القردة. كانت ترتدي زي المتطوعين الذكور من حزب المؤتمر المصنوع من الخادي بالإضافة إلى قبعة حزب المؤتمر. وفي ذلك الوقت التُقطت لإنديرا ووالديها صورة ظهرت في صحف الهند. كان ثلاثتهم في حديقة آناند بهافان. وجواهرلال يرتدي زي حزب المؤتمر الأبيض من الخادي، وكامالا ترتدي ساري من الخادي غير المزين، وارتدت إنديرا معطفًا وصديرية وقبعة مصنوعين من الخادي، وقد صففت شعرها بطريقة البوب [إحدى الطرق الشهيرة لتصفيف الشعر القصير]. كانت هذه الصورة تحمل معنًى سياسيًّا وشبه ديني؛ فهي تُظهر الأسرة الشابة الجميلة ذات الحضور الطاغي التي تتسم بالنقاء والبساطة في الخادي الأبيض، وتبدو متأهبة لمعركة دونما عنف. وتظهر الصورة أيضًا أن إنديرا لم تعد خارج نطاق الأحداث، بل باتت في بؤرتها وهي تقف طويلة القامة مرتدية ثياب حزب المؤتمر: الولد إندو.

•••

كان مارس ١٩٣٠ الشهر الذي تشكَّل فيه جيش القردة، هو الوقت الذي التقيت فيه كامالا وإنديرا مع فيروز غاندي عندما ذهبا مع مجموعة من نساء حزب المؤتمر للمشاركة في وقفة احتجاجية أمام جامعة «إيونج كريستيان» في الله آباد. كان فيروز، الطالب ذو الثمانية عشر عامًا في الجامعة، يقف متكئًا على حائط يشاهد النساء المتظاهرات كنوع من التسلية عندما فقدت كامالا وعيها تحت شمس الظهيرة. عندها أسرع إليها فيروز حاملًا معه الماء ومروحة لإفاقتها، وفي أثناء مساعدته كامالا واصطحابها إلى منزلها تحول فيروز إلى أحد المناصرين لقضية كامالا، أو ربما بالأحرى من المناصرين لكامالا نفسها. في اليوم التالي ترك جامعة إيونج كريستيان، وظهر مرة أخرى في آناند بهافان وسجل نفسه ضمن متطوعي حزب المؤتمر. ومنذ ذلك الحين أصبح فيروز ظلًّا لكامالا وتابعًا لها. ومما لا شك فيه أن هذا يعني أنه عرف الكثير عن إنديرا أيضًا، مع أن إنديرا ظلت طوال عدة أشهر غير قادرة على التمييز بين هذا الرجل المجوسي الممتلئ الثرثار والمساعدين الملهمين الآخرين الذين جذبتهم كامالا.

في أبريل ١٩٣٠ بعد شهر من دخول فيروز إلى حياتهم حاولت الحكومة كبح جماح العصيان المدني عن طريق اتخاذ إجراءات صارمة على نطاق الدولة بأكملها. فأعلن أن اللجنة العاملة بحزب المؤتمر غير قانونية وقُبض على مسئوليها وزُجَّ بهم في السجن. وقُبض على نهرو في ١٤ أبريل وحُكم عليه بالسجن ستة أشهر في سجن نيني بتهمة استخراج الملح. وسُجن كل من غاندي في ٥ مايو وموتيلال نهرو في ٣٠ يونيو، وبوجود جواهرلال وموتيلال في السجن في الجانب الآخر من النهر في نيني، عانت نساء آل نهرو لهيب حرارة شمس الصيف الطويل في الله آباد، مع أن كامالا لم تكن لتتاح لها الفرصة للذهاب إلى موسوري بسبب نشاطها السياسي. فقد كانت في ذلك الوقت تعمل ثماني عشرة ساعة في اليوم، وأنشأت مستشفى لمتظاهري حزب المؤتمر الجرحى في أحد أجنحة قصر آناند بهافان القديم كان موتيلال قد تبرع به لحزب المؤتمر وسماه بهافان السواراج (قصر الحرية).

في مطلع سبتمبر كتبت كامالا لجواهرلال أنها تتمنى لو تُعتقل وتدخل السجن، لتهرب إلى حد ما من اندلاع العداء القديم بالمنزل. قرر رانجيت بانديت أن ينضم إلى مستشفى السواراج بهافان ولكنه ونان بانديت، كما تزعم كامالا، كانا يقضيان الصيف «جالسين بارتياح بالداخل، تحت المظلات الواقية من الشمس، ويستمتعان بالنسيم البارد للمروحة. ولم يكونا يتحركان قيد أنملة في الحر للعمل.»40

في ٨ سبتمبر أُطلق سراح موتيلال من السجن لأنه كان مريضًا بشدة. وأُطلق سراح جواهرلال في الحادي عشر وسافر على الفور إلى موسوري مع كامالا وإنديرا لزيارة موتيلال، غير أنه اعتُقل مرة ثانية في التاسع عشر من الشهر نفسه. وكانت تهمته هذه المرة التحريض على إنتاج الملح وعدم دفع الضرائب والتشجيع عليهما، وحُكم عليه بالسجن عامين ونصفًا إلى جانب السجن مدة خمسة شهور أخرى لإدانته بالتخلف عن دفع الغرامات. أدت هذه الأحكام القاسية إلى مظاهرات على نطاق الدولة يوم عيد ميلاده، الرابع عشر من نوفمبر، الذي سُمي «يوم جواهر». وفي الله آباد قادت سواروب راني ونان وبيتي وإنديرا موكبًا إلى الحديقة العامة، حيث خاطبت كامالا الحشود المجتمعة وقرأت عليهم الخطبة «التحريضية» التي دخل نهرو السجن بسببها.

كانت سبع سنوات تقريبًا قد مرت منذ آخر مرة حُبس نهرو في «منزله الآخر»، كما أشار هو إلى السجن في رسائله. افتقد نهرو كامالا وإنديرا بشدة ودوَّن بدقة في مذكراته بالسجن زياراتهما له التي كانت تحدث كل أسبوعين. وعندما أعيد إلى سجن نيني في أكتوبر، وكانت أمامه تقريبًا ثلاث سنوات طويلة قبل أن يفرج عنه، أفزعته فكرة الانفصال الطويل وقرر أن يكتب سلسلة من الرسائل إلى إنديرا، استكمالًا لخطاباته الأولى التي كانت بعنوان «رسائل أب إلى ابنته»، والتي نُشرت في مطلع ذلك العام.

وهكذا بدأ نهرو في ٢٦ أكتوبر ١٩٣٠ — عيد ميلاد إنديرا تبعًا للتقويم الهندي — في كتابة ما سيصبح فيما بعد واحدًا من أكثر كتب نهرو كشفًا وجاذبية، وحمل اسم «لمحات من تاريخ العالم»، وقد تلقت إنديرا مظروفًا من سجن نايني مكتوبًا أعلاه: «إلى إنديرا بريادارشيني في عيد ميلادها الثالث عشر». منذ البداية، كان نهرو يعد «لمحات» هبة أو إهداء إلى إنديرا، أو كما قال «هدية للعقل والروح». ومما لا شك فيه أن الكتاب الذي ضم بين دفتيه ١٩٦ فصلًا واحتوى كل فصل على خطاب، وبلغ عدد صفحات الكتاب ٩٧٠ صفحة ممتلئة لآخرها، التي كُتبت على مدى الثلاث السنوات التالية، يعد أحد أطول الهدايا وأضخمها.

وفي الخطاب الذي افتتح به الكتاب استحضر نهرو جان دارك وذكَّر إنديرا أنها وُلِدت في الشهر نفسه الذي بدأ فيه لينين الثورة الروسية، وتحدث عن الثورة التي يُعد غاندي ملهمها وقائدها في الهند. فمن ناحية يصادق نهرو هكذا على نظرة توماس كارلايل للتاريخ المرتكزة على فكرة أن التاريخ يتكوَّن من أفعال الرجال العظماء أو الأبطال، وهي الفكرة التي عرضها في كتابه الذي حمل اسم «عن الأبطال وعبادة البطل والبطولات في التاريخ». وفي حقيقة الأمر يلقي كتاب «لمحات» النظر على أعمال مجموعة من أشهر وأهم الأبطال في التاريخ مثل الفيلسوف اليوناني سقراط، والملك الهندي أشوكا، والإمبراطور المغولي جلال الدين محمد أكبر، والإسكندر الأكبر، والجنرال الإيطالي جوزيبي جاريبالدي، وبسمارك، وهتلر، وفرانكلين روزفلت، وغيرهم من المشاهير. ولكن نهرو في الوقت نفسه أصر على أن «التاريخ الحقيقي» ليس «سجلًّا لأعمال الرجال العظماء، ملوكًا وأباطرة، فحسب» بل هو يخص «جميع الأفراد المكونين للأمة.»41 كان الموضوع الحيوي الآخر الموجود الذي تناوله هذا الخطاب الافتتاحي والكتاب ككل أن التاريخ لا يتوارى ويندثر في الماضي. بل إنه يحدث، كما يصر نهرو، الآن حول الجميع: «في الهند اليوم نحن نصنع التاريخ، وأنت وأنا نعد محظوظين لأننا نراه يحدث أمام أعيننا ولأننا نمارس … بأنفسنا دورًا في هذه المسرحية الضخمة.»42 وقد استوعبت إنديرا بعد ذلك بكثير مفهوم «الرجال العظماء» عن التاريخ، وإيمان نهرو بأن هناك قدرًا تاريخيًّا ينتظر إنديرا يتحتم عليها أن تتبعه، وإن لم يحدث بالطريقة نفسها التي أرادها نهرو.

وكتاب هربرت جورج ويلز «موجز تاريخ العالم» الذي أخذه نهرو معه في سجنه مع مجموعة من دفاتر القراءة أحد مصادر إلهام كتاب «لمحات». وبعيدًا عن هذين المصدرين استُمِد هذا الكتاب الضخم الذي يحتوي على شتى أنواع المعرفة من قراءات نهرو المكثفة (والكثير منها كان في السجن وأوروبا). وعلى عكس ويلز يقدم نهرو صورة للعالم تغاير تلك النظرة التي تعتبر أوروبا مركز ثقل العالم؛ إذ وضع جنوب آسيا مرة أخرى على الخريطة التاريخية. كان الهدف من كتاب «لمحات» أن يكون ترياقًا ضد سم التاريخ الأوروبي الذي تتجرعه إنديرا في مدرسة سانت ماري. وبالإضافة إلى كونه تأريخًا آسرًا للعالم من عصر اليونان القديمة وحتى قيام ألمانيا النازية، يركز كتاب «لمحات» على الرؤية السياسية الخاصة بنهرو. وأشاد بالأبطال الوطنيين من أمثلة الإمبراطور المغولي جلال الدين محمد أكبر والجنرال الإيطالي جوزيبي جاريبالدي، وأشاد أيضًا بزعيمات وطنيات على شاكلة جان دارك، وملكة جانسي. ويتتبع نهرو انهيار الرأسمالية، والتأثير السلبي للدين (فيما عدا البوذية التي أبهرته وجذبته)، وتطور الحركات والمذاهب الفكرية من أمثلة الديمقراطية والاشتراكية والماركسية والفاشية. ولم يعدم ذكر الحركات الثقافية والفنية والعلمية إلا أن هذه الحركات لم يكن لها نصيب كبير من صفحات الكتاب.

وبعيدًا عن هدف توفير نوع من الثقافة التاريخية والسياسية لإنديرا، ينبع كتاب «لمحات» من مصادر شخصية ووجدانية عميقة. وعندما بدأ نهرو في كتابة هذه الرسائل بدأ على نحو فعال في تنفيذ طريقتين منفصلتين ولكنهما متوازيتان من طرق المراسلة مع ابنته: الرسائل التي كانت تصل بالفعل إليها من سجن نايني والمراسلات الوهمية لرسائل كتاب «لمحات» التي لم تكن ترسل أو تتسلمها ابنته. ففي حقيقة الأمر لم تكن إنديرا تعرف شيئًا عن رسائل كتاب اللمحات حتى عام ١٩٣٢، أي بعد عامين من بدء نهرو في كتابتها، ولم يتسنَّ لها قراءتها إلا عندما نُشر الكتاب عام ١٩٣٤.

ولعل الأمر لا يدعو للدهشة؛ إذ تعد الرسائل الطويلة غير المرسلة التي شكلت كتاب «لمحات» — تلك التي يقول عنها نهرو في إحدى المرات «لا أحد يرى سواي» والتي أدرك أن إنديرا لن تستطيع قراءتها إلا «بعد شهور أو سنوات» — أكثر نوعي المراسلات تلقائية.43 ففي هذا النوع يتحدث نهرو من القلب كما لو كان يكتب في مذكراته، إلى كل من إنديرا (التي لا تستطيع سماعه) وإلى نفسه. وما لبث أن أصابته حالة من الاكتئاب والإحباط بسبب الأخبار السياسية والعائلية التي تتسلل إليه في السجن؛ إنديرا مريضة، ووالدته وكامالا لم تستطيعا زيارته. وتساءل هل ذلك المخطوط الضخم الذي يؤلفه سيصل إلى إنديرا. في بعض الأيام تبدو كتابة الرسائل عملية بسيطة، ولكنه في البعض الآخر لا يجد في نفسه القدرة على الكتابة. في الوقت نفسه لم يكن يستطيع التخلي عن الكتاب. فهو يمثل هدفًا قويًّا له في السجن. فهو يولد نوعًا من الألفة القوية المؤازرة له مع ابنته الغائبة كما أنه يهدئ فيه شعورًا بالذنب تجاه انفصاله عنها. ففي أثناء الساعات الطويلة التي كان يقضيها في الكتابة كان يشعر تقريبًا وكأنهما معًا. وفي الوقت نفسه تعد الرسائل التي يحويها كتاب «لمحات» فرصة للابتعاد والانشغال عن الشكوك ودواعي القلق الشخصية والسياسية. «العمل المتواصل» على التأليف والانتقال بالعقل إلى أوقات بعيدة يسمح لنهرو «بالتحكم» في عقله و«العيش لمدة ما بعيدًا عن … المشكلات الحاضرة.»44

•••

وكان نهرو محبوسًا في نايني يكتب رسائل لن تصل إلى ابنته، كانت هي منهمكة في العمل مع جيش القردة، وتساعد في تمريض المرضى في مستشفى السواراج بهافان، وكانت لا تزال تذهب إلى دير سانت ماري. وفي ١٧ نوفمبر، وقبل يومين من عيد ميلاد إنديرا الثالث عشر، ذهبت هي وكامالا وسواروب راني وبيتي موتيلال إلى كلكتا لاستشارة طبيب مختص في علم الآيورفيدا (علم الطب الهندي) يدعى كافيراج شيامداس فاشاسباتي. كان موتيلال الذي بلغ في ذلك الوقت تسعة وستين عامًا يعاني أمراضًا عديدة، مثل: الربو وتليف في الرئتين والضغط المرتفع والفشل الكلوي، ولم يكن أي منها يستجيب للعلاج الطبيعي. وفي السجن فقد موتيلال الكثير من وزنه وفور خروجه ظل ضعيفًا واهنًا، وكأنه ظل لما كانت عليه نفسه الضخمة.

أخذت إنديرا كمًّا كبيرًا من الكتب لتقرأها في كلكتا وأخبرت موتيلال أنها انتهت من قراءة كتاب الأديب البلجيكي موريس ميترلنك المسمى «حياة النحلة» وبدأت كتابه الآخر الذي يحمل عنوان «حياة النملة»، والذي وعدت بعده أن تقرأ «الكتاب الذي أعطيتني إياه عن جاريبالدي. في هذا الوقت، بدأ كل من جدي [موتيلال] والصغيرة [بيتي] فيه ولكن أيًّا منهما لم يتمه إلى النهاية». ووقعت على رسالتها «من ابنك إندو المحب»، وأضافت ملحوظة: «لقد اكتملت السراويل القصيرة الخاصة بي»، على ما يبدو ذلك الخاص بالرياضة البدنية والجري.45

بحلول عيد الميلاد كانت إنديرا وكامالا قد عادتا إلى الله آباد وفي يوم ٢٧ كانتا قد التقتا نهرو في سجن نايني. في عشية عيد الميلاد كانت إنديرا وكامالا وحيدتين في آناند بهافان تقرآن معًا بصوت عالٍ قصيدة الشاعر الفرد تينيسون التي تحمل اسم «في ذكرى» [التي كتبها في رثاء صديقه]، عندما رن جرس الهاتف. أجابت إنديرا ووجدت صوتًا غير مألوف يخبرها على عجل أن كامالا ستُعتقل في اليوم التالي ثم أغلق الهاتف. نُسي تينسون، وذهبت إنديرا لتحزم حقيبة والدتها وحادثت كامالا العاملين بحزب المؤتمر المحلي وأعطتهم بعض التعليمات. ثم أحرقت هي وإنديرا أكوامًا من الورق والكتيبات حتى وقت متأخر من الليل بسبب خوف كامالا من أن يُفتش المنزل. ولم تنم أي منهما.

في تمام الساعة الخامسة صباحًا في أول أيام العام الجديد اعتقلت الشرطة البريطانية كامالا وهي واقفة على سلم قصر آناند بهافان بينما إنديرا واقفة بجوارها. علمت الصحافة بالأمر ونقلته للجماهير. قالت كامالا في بيان مقتضب: «أشعر بسعادة لا توصف وبالفخر لكوني أسير على خطى زوجي.»46 ثم اقتيدت إلى سجن مالاكا في مدينة الله آباد، وبقيت إنديرا وحيدة في ذلك المنزل الضخم ليس معها أحد سوى الخدم.
وفيما لا يكاد يبعد عن سجن كامالا بميل ونصف، في سجن نايني، سمع نهرو عن خبر اعتقالها وكتب في مذكرته: «اعتقلت كامالا! يا لها من بداية سعيدة للعام الجديد. لا بد أنها سعيدة الآن ومن الممكن جدًّا أن الراحة في السجن ستفيدها. إندو المسكينة وحيدة، تُرى ما الانطباعات التي يمكن أن تتركها كل هذه الأحداث على عقل طفلة صغيرة؟»47 وفي اليوم نفسه كتب رسالة في كتاب «لمحات» لم تُبعث إلى «إنديرا المسكينة» يخبرها أن خبر اعتقال كامالا «هدية سارة لي في رأس السنة الجديدة … ولا يخالجني الشك في أن أمك راضية وقريرة العين. ولكنك بلا ريب تشعرين بالوحدة.»48
كانت إنديرا بالفعل تشعر بالوحدة. وما إن سمع موتيلال وسواروب راني والآخرون عن اعتقال كامالا حتى عادوا من كلكتا. ولكن إنديرا ظلت تشعر بالوحدة في ظل وجود والديها في السجن. وبعد الحكم بسجن كامالا ستة شهور ونقلها من الله آباد إلى السجن المركزي في لوكناو كتبت كامالا إلى جواهرلال تقول: «عندما اعتقلت كنت قلقة حيال إندوجي. وتساءلت ماذا يمكن أن تفعل وحدها. ولكني الآن أشعر بالطمأنينة نوعًا ما بأنها تستطيع الاعتناء بنفسها. لقد وعدتني بأنها ستظل مرحة وستعتني بنفسها.» أما عن كامالا نفسها فقد كانت مصممة على أن تستفيد من حياتها اليومية في السجن:
«بعد كوب من الشاي بعد الاستيقاظ في الصباح أمشي تقريبًا مسافة تتراوح بين ميل ونصف إلى ميلين. وبعد تلاوة الصلوات أقرأ. يأتي العشاء في السادسة مساء، ثم نُحتجز حتى الليل. وننام في التاسعة أو العاشرة. ثم نستيقظ ثانية في الخامسة … كنت أود أن أغزل داري (سجادة خشنة) ولكن الأمر يتطلب وقتًا لتعلمه. لذلك أركز الآن على عمل نيوار (شريط سميك من القطن). وسأقارنه بالنيوار الذي تصنعه، لنرى أيًّا منهما أفضل. الحياة في السجن غريبة. فأنت تتعرف على أنواع مختلفة من البشر هنا وتتاح لك الفرصة كما لن تجدها في أي مكان آخر لدراسة طبائعهم … أنا مصممة على استمداد القوة وأنا في السجن والقتال بقوة أكبر عندما أخرج منه.»49
في ١٢ يناير ذهبت إنديرا مع جديها لزيارة نهرو في سجن نايني. وفي اليوم التالي كتب نهرو رسالة «لمحات» أخرى غير مرسلة توضح كيف كان اللقاء مقلقًا: «لقد كان من الجميل لقاؤكم جميعًا بالأمس. ولكني صُدمت من منظر جدك. إنه يبدو ضعيفًا ومريضًا للغاية … ولم تتسنَّ لي الفرصة للتحدث معك البارحة. فماذا يمكن للمرء أن يفعل في لقاء قصير كهذا؟ إني أحاول الاستعاضة عن كل هذه اللقاءات والأحاديث التي لم نفعلها عن طريق كتابة هذه الرسائل. لكنها بديل ضعيف، ولا يستمر الادعاء طويلًا.»50
بعد أسبوع تلقَّى نهرو رسالة من إنديرا تخبره فيها أنها قرأت كتبًا كثيرة من مكتبة آناند بهافان وتطلب منه أن يقترح المزيد. وفي رسالة لم تصلها من رسائل «لمحات» وبخها على عدم إخباره بالكتب التي قرأتها تحديدًا، ثم استمر في تأنيبها قائلًا: «إن القراءة عادة جيدة، ولكن الشك ينتابني في هؤلاء الذين يقرءُون كتبًا كثيرة بسرعة. فأنا أشك في أنهم لم يقرءُوها كما ينبغي وإنما تصفحوها فحسب ثم نسوها في اليوم التالي.»51 ومع أن هذه الرسالة لم ترسل، فإن قراءات إنديرا — أو بالأحرى ثقافتها — أصبحت مدعاة للجدل. كان نهرو يريد التحكم في نموها الفكري ورغبت هي في نيل حرية قراءة ما تريد، وفي ذلك حكايات الجن عندما كانت صغيرة والروايات الرومانسية عندما كبرت. وكان نهرو يجبرها على قراءة أعمال هربرت جورج ويلز، وكتب عن جاريبالدي أيضًا. في بعض الأحيان كانت إنديرا تقرؤُها طواعية — بفهم قليل كما صرحت فيما بعد — وفي البعض الآخر كانت تُعارض. كان من الواضح أنها تقاوم الضغط عليها لقراءة نوع معين من الكتب القيمة، وعندما تُذعن وتقرأ ما يُملى عليها وتكون نتيجة ذلك أنها لم تفهمه تشعر بالبطء والنقص.
في الأسبوع الثالث من يناير استلمت إنديرا أخيرًا رسالة من كامالا في سجن لكناو جاء فيها ما يأتي:
الحب لإندوجي،
منذ أن وصلت إلى السجن ولم تصلني أخبار عن أحد. وصلني خطاب والدك في الخامس عشر وقد تمنيت أن تحتوي الرسائل على واحدة منك أيضًا. تسمح سلطات السجن بخطابين فقط كل أسبوعين. ومن ثَم يمكنك أن تكتبي لي، ولكنني لا أدري كم عدد الخطابات التي يمكن أن أرسلها أنا … أخبريني عن حياتك اليومية. رجاءً ابعثي لي بالتقارير النصف الشهرية الخاصة بدراستك التي يرسلها المعلمون إلى والدك. أتمنى أن تتذكري ما أخبرتكِ إياه عندما كنت أغادر المنزل. في كل مرة أغادر فيها الثكنة للتجول أفكر فيكِ. عليكِ أنت أيضًا القيام بالمشي كل يوم. عندما أغادر السجن سنذهب معًا للتنزه، رغم أن هذا سيكون بعد ستة أشهر، ولكن الستة الشهور ستمر دون أن أشعر أنا أو أنت بها.52

كان هذا يعد مزيدًا من الضغط عليها فيما يتعلق بدراستها. وكانت رسائلها لا تصل إلى كامالا. وكانت إنديرا تعلم أن ستة شهور لن تمر سريعًا على الإطلاق.

لحسن الحظ كان على إنديرا أن تنتظر بضعة أيام. وفي ٢٦ يناير ١٩٣١ أعلنت الحكومة البريطانية أن جواهرلال وكامالا وغاندي والأعضاء الآخرين العاملين في لجنة حزب المؤتمر العاملة سيُطلق سراحهم جميعًا في الحال من السجن. عاد كامالا وجواهرلال إلى آناند بهافان ليشهدوا ما بات في الأساس منزل الموت. فقد كان من الواضح أن مرض موتيلال شديد وأنه لن يعيش طويلًا. وعلى إثر هذا بعث جواهرلال إلى غاندي الذي رحل على الفور من بومباي، ووصل في وقت متأخر من الليل إلى مدينة الله آباد. ظل موتيلال يقظًا طوال اليوم في انتظاره. وأخبر غاندي أنه كان يعلم أنه لن يستطيع «رؤية الاستقلال رأي العين، ولكننني أعلم أنك [أي غاندي] ستفوز بالحرية وستحصل عليها قريبًا».53

في الأيام التالية انتفخ وجه موتيلال وحنجرته، وفقد القدرة على الحديث. وفي ٤ فبراير، أُخذ إلى لكناو للحصول على علاج باستخدام الأشعة السينية، وصحبه في هذه الرحلة جواهرلال وغاندي وسواروب راني وبيتي وعائلة البانديت، بلا إنديرا أو كامالا. مات موتيلال في المستشفى هناك في ساعة مبكرة من صباح السادس من فبراير عام ١٩٣١، وكان بجانبه جواهرلال وسواروب راني. وفي اليوم نفسه أحضروا جسده بالسيارة إلى مدينة الله آباد.

أذهل إنديرا خبر وفاة جدها، وظلت وحيدة في خضم الحزن الذي استحوذ على العائلة، والهند بأسرها. كانت ابنة عمتها نايانتارا بانديت واحدة من القلائل الذين شاهدوا إنديرا يوم جنازة والدها؛ إذ شاهدتها وهي تقف وحيدة بجوار نضد المائدة في حجرة الطعام بآناند بهافان، وتبكي في صمت.54 وكان بورشتام نارايان هاكسار، الذي كان عندئذٍ طالبًا في جامعة الله آباد في السابعة عشرة من عمره، ضمن الحشود الموجودة خارج المنزل عندما أُحضر جسد موتيلال إلى الخارج، وقد شاهد هو الآخر إنديرا. لم يكن قد رآها منذ عشرة أعوام. كانت طويلة وشديدة النحافة وشاحبة الوجه. وكانت عيناها أوسع عما شاهدهما في الماضي وأحاطت بهما ظلال سوداء كثيفة.55
ومع أنه لم يكن من المعتاد مشاركة النساء الهندوسيات طقوس الجنازات فقد صاحبت كل نساء عائلة نهرو — سواروب راني، ونان بانديت، وبيتي، وكامالا، وإنديرا — الجثمان ملفوفًا بعلم حزب المؤتمر والموكب الجنائزي يشق طريقه عبر شوارع مدينة الله آباد — محاطًا بالمعزين — حتى نهر الجانج حيث تجرى مراسم الحرق. وصف جواهرلال الأمر بقوله: «مع حلول الظلام على ضفاف النهر في ذلك اليوم من الشتاء اندلعت النيران والتهمت داخلها ذلك الجثمان الذي مثل الكثير لنا ممن كنا بقربه وكذلك للملايين في الهند.»56 وبعد خمسة أيام جرى نثر الرماد المتبقي من جسد موتيلال في سانجام، وهي بقعة مقدسة يلتقي فيها نهر الجانج ونهر يامونا ونهر ساراسواتي الأسطوري. كانت هذه أول حادثة موت تشهدها حياة إنديرا، وأول رابط في سلسلة طويلة من الأحزان الممتدة عبر السنوات.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤