الجنسيَّة من الوِجهة البيولوجية في ضُوء المنهج التكامُلي
(١) أهميَّة وظيفة التناسُل
يُقسِّم علماء الفسيولوجيا الوظائف العُضوية إلى ثلاثِ طوائف: وظائف التَّغذية، وظائف الحسِّ والحركة، ثُم وظائف التناسُل. وتشمَل الأولى عمليَّات الهَضْم والدَّورة الدَّمويَّة والتنفُّس وإخراج الفَضَلات، وهذه العمليَّات مُجتمعةً تؤدِّي إلى نموِّ الأنسِجة وتوليد الطاقة والحرارة التي يَستهلِكُها الحَيوان في أثناء الحركة.
(٢) تعريف الجِنس والجِنسيَّة
قُلنا: الوظيفة التناسُليَّة، ولم نَقُل: الوظيفة الجنسية؛ لأنَّ الوظيفتَين ليستا مُتلازِمتَين في جميع الأنواع الحيوانية، فالتَّناسُل هو تكاثُر أفراد النوع، ولكن ليس كلُّ تناسُلٍ جنسيًّا؛ فهناك طرُقٌ مُختلِفة من التَّكاثُر تتمُّ بدون وجود جِنسين مُختلِفين. وقبل ذِكر الأمثلة على التَّكاثُر اللاجِنسي يجِب تحديد ما هو مقصودٌ بلَفْظَي جِنْس وجِنسيَّة.
للجِنس مَعنيان: أحدُهما عامٌّ والآخر خاص. فبِمعناه العام يُقْصَد بالجِنس الهيئة الجِسميَّة التي تُعيِّن الدَّور الذي يؤدِّيه الكائن الحيُّ في عمليَّة التناسُل. أمَّا المعنى الخاصُّ فهو مجموعة الخصائص الجِسميَّة والنفسية التي تُميِّز الذَّكَر عن الأنثى، وفي الجِنس البشري: الرجل عن المرأة. وهذا المعنى ينطبِق على الحيوانات العُليا والإنسان. والعُنصُر المُشترَك بين هذين المَعنيَين هو وجود التَّمايز بين فَردَين يُعْرَف الواحِد بالذَّكَر والثاني بالأنثى، والتَّمايُز الأصلي هو التَّمايُز العُضوي. وكلَّما ارتقَيْنا سُلَّم الحيوانات العُليا حتى الإنسان ظهرَتِ اختِلافات نفسيَّة تُؤدِّي إلى تَعقُّد السلوك الجِنسي.
أمَّا الجِنسيَّة فهي أعمُّ من الجِنس، ويُمكِن تعريفها بأنها مجموعة الظواهر البيولوجية والتَّشريحية والفسيولوجية والسيكولوجية والاجتماعية المُتعلِّقة بعمليَّة التَّناسُل وبالعمليَّات المُمَهِّدة لها وبما يَنتُج عنها من نتائج تتجاوَز حدود الفرد إلى النوع، مع مُراعاة ما يُصاحِب مُختلِف هذه الظواهر من حالاتٍ نفسيَّة وما تترُكُه من آثارٍ في نفسيَّة الفرْد وشخصيَّته.
أو بعبارةٍ أخرى تشمَل الجنسية الوظيفية التناسُليَّة وما يَسبِقُها ويَصحبُها ويَتبَعُها من ظواهر تَمهيديَّة وإضافية ولاحِقة من الوِجهتين: السيكولوجية والاجتماعية.
ويُؤثِر العِلم الحديث استِخدام لفظِ الجِنسيَّة على لفظ الغَريزة الجِنسيَّة، وخاصَّةً عند الكلام عن السلوك الجِنسي لدى الإنسان. ونظرًا لشُيوع لفظ الغريزة يجدُر بنا تحديد معناه وبَيان الحدود التي يُمكِن استخدامُه فيها.
لفظ الغريزة من الألفاظ الشعبيَّة التي يُضطرُّ العالِم أحيانًا إلى استِخدامها عندما يَرمي إلى التَّبسيط للإشارة إلى مظاهر السلوك الفِطري الناشئة عن دافعٍ داخلي مُبهَم، أو عن قوَّة حيويَّةٍ تُسيِّر الفرد بطريقةٍ تبدو في مُعظَم الأحيان كأنها قَهريَّة عمياء. ويشمَل لفظ الغريزة معنى المَيل والاستِعداد والدَّافع، كما أنَّه يشمَل معنى آثار المَيل والاستِعداد والدَّافع كما تظهَر في السلوك الحَرَكي وما يصحَبُه من عملياتٍ إدراكيَّة ورغبات وبِطانة وُجدانية من لَذَّةٍ أو ألَم.
ويَنطوي معنى المَيل على معنى التَّوجُّه نحوَ غايةٍ أو نهايةٍ تبدو كأنَّها الغرَض الذي يَرمِي إليه السُّلوك الغريزي. وهذا الغرَض هو تحقيق عملٍ من الأعمال يُرضي المَيل والرَّغبة الناشِئة عنه.
ويُمكِن تلخيص ما سبَق في الحلقات الآتية: وجود المَيْل أو الدَّافع، تنشيطه، حالة توتُّر ناشئة عن هذا التَّنشيط ثُمَّ زَوال التوتُّر بإرضاء المَيل. ويتوقَّف تنشيط المَيل على عوامِل داخلية: بعضُها عضوي كالتركيب الكيميائي لبعض السوائل العضوية ودرجة كثافتها وتركيزها، وبعضُها ذِهنيٌّ كالذِّكريات والأخْيِلَة، وعلى عوامل خارجيَّة كإدراك الفرد بعض المُنبِّهات. وتؤدِّي المُنبِّهات الخارجية التي قد تكون نافِعةً أو ضارَّة أو مُهملةً دَورًا هامًّا في توجيه النشاط الحَرَكي، وإيجاد الظروف المُلائمة لإرضاء المَيل وزَوال التوتُّر. ويُحدِث زوال التوتُّر إحساسًا خاصًّا هو اللَّذة.
وقد اختلف العُلماء في تعريف الغريزة كما اختلَفوا في تحديد عددِ الغرائز، بعد أن بذَل بعضُهم جهودًا عَميقة في هذا المَيدان مُؤثِرين الجدَلَ اللَّفظي على البحث التحليلي التجريبي، وقد ازدادوا اختِلافًا عندما شَرَعوا في تطبيق تعاريفهم على ما يُسمُّونَه السلوك الغريزي في الإنسان. ولا غَرْوَ في أن يَصِل الاختِلاف بينهم إلى حدٍّ كبير من الغموض والفوضى والتعليلات اللفظية الجوفاء؛ إذ إنَّ المقصود من الغريزي هو الفِطري، ولا يُمكِن أن يظهَر الفِطريُّ مُجرَّدًا عن آثار البيئة والتَّمرين؛ ولذلك لا يُمكِن دراسته كفِطري. فمن الأخطاء الشَّائعة في بعض كُتب علم النفس التَّمييز بين السلوك الغريزي والسلوك المُكتَسب ومُحاوَلَة دراسة كلٍّ منهما على حِدَة.
وإذا أمكن استِخدام لفظ الغريزة في دراسة سلوك الحيوانات الدُّنيا، خاصَّةً عندما يُقصَد بالغريزة نَوعٌ من الصِّناعة الثابِتة كنسيج العنكبوت لعُشِّه، فهذا مُحالٌ عند التحدُّث عن سلوك الإنسان؛ ولهذا يُستحسَن استخدام لفظ المَيل الجنسي في الإنسان بدَلًا من الغريزة؛ لبيان ما يَمتاز به سلوك الإنسان من مُرونةٍ ومن قابِليَّةٍ للتَّغيُّر والتكيُّف، وخاصَّةً من قُدرةٍ على المنْع أو الكف. وحتى فيما يَختصُّ بغريزة البحث عن الطعام التي لا يُمكِن كفُّها مدَّةً طويلة وإلَّا أدَّى هذا إلى المَوت، نُلاحِظ أثر الأوضاع الاجتماعية في تكييف مَظاهر هذه الغريزة وتهذيبها. فبالأَوْلَى يجِب الفصل بين معنى الغريزة والمَيل الجنسي، حيث لا يؤدِّي الامتناع إلى موت الفرد، وحيث تكون آثار البيئة الاجتماعية في تهذيب السلوك الجِنسي وتقييده أبلَغَ وأقوى من آثارها في تهذيب غريزة البحث عن الطعام؛ ولهذه الأسباب عينها يكون من التضليل علميًّا وبالأحرى خُلقيًّا تَشبيه الرَّغبة الجِنسية بالجُوع العُضوي، والإشارة إليها بالجُوع الجِنسي كأنَّ عدَم إرضائها يؤدِّي إلى مَوت الفرد أو فُقدانه الصِّحةَ العقلية، كما أنَّ عدَم إرضاء الجُوع العضوي يؤدِّي حتمًا إلى المرَض والهُزال والموت.
(٣) التناسُل والجنسيَّة
التناسُل هو تكاثُر أفراد النوع الواحد وهو على نوعين: التَّناسُل اللاجِنسي والتناسُل الجنسي. ويَحدُث التناسُل اللاجنسي — بِوجهٍ عام — عن طريق انقِسام الحَيوان دُون أن يَقترِن مع غيره. ويُشاهَد التناسُل الانقِسامي عادةً في الحَيوانات الأوليَّة ذات الخلِيَّة الواحِدة كالأميبا مثلًا.
ولا يكون التناسُل جنسيًّا إلا إذا تمَّ بعد تزاوُج فردَيْن مُختَلِفَين يؤدِّي إلى اجتماع النُّطفَتَين لتكوين فردٍ جديد يحمِل عن طريق الوِراثة خَصائص الوالِدَين. وقد تكون النُّطفتان صادِرَتَين عن فردٍ واحدٍ كما في بعض الحيوانات الأوليَّة والحيوانات المُخنَّثة، وفي هذه الحالة أيضًا يكون التَّناسُل جِنسيًّا.
وقد يُشاهَد في بعض الحيوانات الدُّنيا اجتماع التناسُل اللاجِنسي والتَّناسُل الجِنسي في نفس النَّوع تِبعًا لظروف البيئة الخارجية، ولكن يُعدُّ التَّناسُل الجِنسي أرقى وأكثرَ تعقُّدًا من اللا جِنسي؛ لأنه عامِل هامٌّ من عوامل تنوُّع الكائنات الحيَّة.
يبدو مما سبق أن العلاقة بين التناسُل والجنسية جدُّ مُعقَّدة، فإذا أمكن القول بأن التناسُل قد يَستقلُّ عن الجنسية كما هو الحال في التناسُل اللاجنسي أو اللانُطفي، هل يُمكِن القول كذلك بأن الجِنسيَّة قد تستقلُّ عن التناسُل وأنَّ هناك حالاتٍ في الطبيعة يتمُّ فيها الوصْل بين حَيوانَين دون أن يكون الغرَض منه تكاثُر النَّوع؟ ليست هذه المَسألة نظريَّة بَحْتة، بل سيكون لحلِّها أثر كبير في فَهم طبيعة الجنسية في الإنسان وتعيين السلوك الجِنسي السَّوِي.
فمدرسة التحليل النفسي مثلًا تَعتبِر أنَّ الجنسية بدَورِها قد تستقلُّ عن التناسُل. ويعتمِد أنصار هذه المدرسة على ظاهِرة الاقتِران كما هي تُشاهَد في البرامسيوم أحد الحيوانات الأوليَّة من فصيلة النقاعيَّات ذات الأهداب، وطول هذا الحيوان لا يتجاوَز رُبع ملليمتر.
وفي بعض الظروف الخاصَّة يَسترجِع الحيوان نشاط الانقسام بطريقةٍ أخرى، فبعد أن يَستمرَّ الانقسام لمُدَّة آلافٍ من الأجيال تأخُذ عملية الانقِسام في الإبطاء فيَجتازُ الحيوان مرحلة التَّعَب والانحِطاط ثم يَسترجِع نشاطَه بأن يتخلَّى عن جُزءٍ من مادَّته النَّوَوِيَّة بدون الاقتِران مع فردٍ آخر.
- (١) المَجاعة وهي تُساعِد على الاقتِران.٣
- (٢)
تغيُّر نسبة المواد القَلويَّة إلى الحِمضية في وسائل المُزدَرع.
- (٣) وجود عوامل استِقرانيَّة Zygogenous وهي مواد كيميائية مُعيَّنة تُفرِزها بعض البكتيريا، وهي نباتات ذات خليَّة واحدة تكون موجودة عادةً في البيئة التي تُوجَد فيها ذات الأهداب. وقد تؤثِّر هذه المواد المُفرَزة في حدوث عمليَّة الاقتران أو عدَمِه؛ فقد وُجِدَ بالتَّجربة أن إضافة بعض المواد إلى سائل المُزدَرع ككلورو الحديد أو كلورور الكلسيوم تُثير الاقتران. وقد وُجِدَ أيضًا أن دَرجة تركيز السائل بمِلح الطَّعام يؤثِّر في عمليَّة الاقتِران، فيكون للتركيز الضَّعيف أثر استِقراني في حين يكون أثر التركيز القوي غير استِقراني Azygogenous.
أمَّا في الظروف الطبيعية فيكون التناسُل في ذات الأهداب مُزدوجًا، أي مراحل من الانقسام يتخلَّلها اقتران بين فردَين. وفي حالة الاقتران يكون التناسُل جِنسيًّا نظرًا لاجتِماع فردين، ولِما يحدُث بينهما من تبادُلٍ لبعض أجزاء الجسم. غير أنَّ مدرسة التحليل النفسي أَبَتْ أن تَعتبِر عملية الاقتران عملية تناسُلية، وقصرَت وظيفتَها على تجديد النشاط وإعادة الشباب، وإن كان هذا التجديد شرطًا لاستئناف الانقسام. ومؤدَّى هذا الرأي أنَّ الجنسية أو مظاهر الاقتران بين فردَين قد تكون مُستقلَّةً عن التناسُل.
وإذا صحَّ هذا الرأي فستكون نتائجه خطيرة جدًّا خاصَّة إذا أُريد تطبيقه في الجنسية البشرية. وقد ذهبتْ مدرسة التحليل النفسي إلى القول بأن الجنسية ليست مُرتبِطة حتمًا بالتناسُل، ومن ثم — وهذه نتيجة لها أهميَّتُها وخطرُها من الوجهة الخلقيَّة — إلى القول بأن اللَّذة الناتِجة عن عمل الوظيفة الجنسية هي جوهريًّا غاية في ذاتها، وأنها ليست مُجرَّد وسيلةٍ لتحقيق التناسُل حِفظًا للنَّوع.
وبناءً على ذلك فإنَّ الرأي القائل باستِقلال الجنسية عن التناسُل لا تؤيِّده الحقائق التجريبية، فالجنسية خاضعة للتناسُل ولا يمكن تبرير وجودها إلَّا إذا اعتبرناها وسيلةً لغايةٍ تفُوقُها وتتجاوَزُ حدود الفرد، وهذه الغاية هي حِفظ النوع. أما الحالات التي يُشاهِدها الطبيب النفساني والتي تكون فيها الجِنسيَّة عاجِزةً عن تحقيق التناسُل فهي حالات مرَضيَّة بدون شك.
وخضوع الجنسية للتناسُل يزداد ويتَّضِح كلَّما صعَدنا سُلَّم الحيوانات من أدناها إلى أعلاها حتى نصِل إلى الإنسان. وفي الإنسان تزداد صِلة الجنسيَّة بالتَّناسُل تعقُّدًا وتشعُّبًا، فالجنسية بالنِّسبة إلى التَّناسُل هي بمثابة الاستِعداد بالنسبة إلى التحقيق الفعلي، وذلك على الرغم من العقبات التي قد تَحُول دون انتقال الاستعداد من القوة إلى الفعل، فمعنى «الجنسي» يشمل معنى «التناسُلي»، كما أنه يشمَل كلَّ ما له عَلاقة بالتَّناسُلي سواء كانت هذه العلاقة علاقة الصِّلة بالمعلول أو المعلول بالعلَّة أو علاقة الرَّمز بما يَرمُز إليه.
فيكون الجنسي علَّة والتَّناسُلي معلولًا في حالة ظهور الجهاز التناسلي الذي يكوِّن الخصائص الأولية. فإن الجِنس سابق على ظهور أعضاء التناسُل فإن تَعيُّنه يبدأ عند مرحلة الإخصاب أي اجتماع النُّطفتين، ثم يُعيَّن بِدَوره ظهور الجهاز التَّناسُلي تَبعًا له إذا كان ذكرًا أو أنثى.
ويكون الجنسي معلولًا والتناسُلي علَّةً في حالة ظهور الخصائص الجنسية الثانوية في بدء مرحلة المُراهَقة. فإن ظهور الشَّعر في بعض مناطق الجِسم وتغيُّر الصوت ونُموَّ الغُدد الثَّديِيَّة من أثَرِ الإفرازات التي تُكوِّنها غُدَد الجهاز التناسُلي كالخِصيَة والمِبيَض.
أما علاقة الرَّمز بما يَرمُز إليه فهي ليست علاقة أساسيَّة ثابتة، بل عرَضِيَّة قابِلة للزوال، كأنْ يكتسِب شيءٌ خارجي غير جِنسي خاصيَّةً جنسية؛ لارتباطه عرَضًا بحالةٍ جنسية، وهذه الحالات تدخُل في دائرة الأفعال المُنعكِسة الشَّرطية أو الاستجابات المُكتَسبة الشَّرطية.
وعلى ذلك يُمكن استخدام لفظ «الجنسي» بثلاثة معانٍ: (١) معنًى ضَيِّق وهو أنَّ الجِنسي هو التناسُلي. (٢) معنًى أوسَع من الأول، الجنسي هو مجموعة العوامل التي تُمهِّد السبيل للتناسُلي، وكذلك الآثار النفسيَّة التي يُحدِثها التناسُلي. (٣) معنًى أكثر اتِّساعًا من الثاني وهو كلُّ ما له صِلةٌ عرَضِيَّة بالتناسُلي.
(٤) بعض مظاهر الجنسيَّة في الحيوانات
ليس التناسُل اللاجنسي مقصورًا على بعض الحيوانات ذات الخليَّة الواحدة، بل يُوجَد أيضًا في بعض الحيوانات المُتعدِّدة الخلايا كالإسفنجيات والجوفمعويَّة والدِّيدان. غير أن التناسُل في هذه الأنواع لا يكون مقصورًا على اللاجنسي، بل لا بُدَّ أن يعود الحيوان من حينٍ إلى آخر إلى التناسُل الجنسي. ويتَّخِذ التناسُل اللاجنسي في هذه الأنواع التي ذكرناها إمَّا شكل الانقسام أو التبرعُم، فيشاهد في بعض الدِّيدان ذات الحلقات أنَّ إحدى هذه الحلقات أو بعضَها تتَّخِذ شكل الرأس، ثم يحدُثُ الانقِسام عند كل رأسٍ جديد وتتكوَّن عدَّة أفراد من فرد واحد. ويُشاهَد التبرعُم في الهيدرا التي تعيش في الماء الحلو وفي الإسفِنجِيَّات وبعض الدِّيدان ذات الحلقات، فتكوِّن براعِم على جِسم الحيوان، ثم تنمو مكوِّنةً حيوانًا جديدًا ينفصِل بعد حينٍ عن الأصل الذي كان يحمِله.
- (١)
أنَّ ظاهرة التكاثُر بدون تخصُّصٍ جنسي أعمُّ من ظاهرة التناسُل الجِنسي.
- (٢)
يُعتبَر التناسُل الجنسي بالقياس إلى التناسُل اللاجنسي من مظاهر التقدُّم والرُّقيِّ لظهور التعقُّد في صُورة التمايُز المرفولوجي (شكل الجسم) والتخصُّص الوظيفي. وهذا يُطابِق ما سبَق أن قُلنا بأن الجنسيَّة خاضِعة للتناسُل؛ إذ إنَّ التَّخصُّص يفيد معنى التفرُّع والفرع لا بد أن يكون خاضِعًا للأصل.
- (٣) غير أنَّ في الحيوانات المُتعدِّدة الخلايا يُوجَد فرقٌ جوهري بين التناسُل اللا جنسي والجنسي هو أنَّ في الحالة الأولى نكون دائمًا بصَدَد الكائن الحيِّ عينِه على الرَّغم من انقِسامه وتجزِئته، في حين أنَّ التناسُل الجنسي يُعتبَر بِحقٍّ عملية توليدٍ لكائنٍ حيٍّ جديد ناتج عن اقتران نطفَتَين صادِرَتَين عن فردَين مُختلِفين. فالتناسُل الجنسي مَظهر من مظاهر النَّشاط الحيَوِي أرقى من مَظاهر التناسُل اللا جنسي. هو طفْرةٌ جديدة من طفَرَات الحياة في أثناء صعودها نحوَ الكمال، وهو أرقى من حيث دِلالته الفلسفيَّة؛ إذ إنَّه يُشير إلى معنى التَّعاوُن بين فردَين وتكامُلِهما في سبيل مَصلحة النوع. ويتَّضِح لنا منذ الآن أن الجنسية تشمل بالإضافة إلى معنى الوَصْل الذي سبقت الإشارة إليه معنى الوصل التَّعاوُني. ومن مظاهر هذا الوَصْل التعاوُني الجاذِبيَّة التي تحدُث بين الجنسين. والسَّعادة الزَّوجيَّة حتى إذا حصرناها في نِطاقها الجِنسي لا يُمكن أن تَتمَّ إلَّا عن طريق التَّعاون الجِسمي والرُّوحي بين الزَّوجَين.٥
والكائن الجديد الذي ينشأ نتيجة لهذا الوَصل أو لهذا الاقتِران هو البُويضة المُخصَّبة؛ فالإخصاب الذي يتمُّ باندِماج نُطفَتَي الذَّكر والأنثى معًا هو الظاهرة الأساسية في كلِّ تناسُلٍ جنسي. ويَسبِق الإخصاب التلقيح وهو تَوصيل السائل المَنوي إلى البُويضة. وتختلِف طريقة التلقيح باختِلاف الأنواع الحيوانية؛ فقد يكون التلقيح داخليًّا أو خارجيًّا، فهو داخلي عندما يتمُّ داخِل جِسم الأنثى كما في الطيور والثديِيَّات، وخارجي كما في الأسماك فتضع الأنثى بَيضها في الماء، ثم يمُّر عليها الذكر ساكبًا عليها سائله المَنوي.
وفي نوعٍ آخر من البرمائية كالضَّفادِع يكون التَّلقيح خارجيًا، ولكنَّه يتمُّ بعد اجتماع الفردَين، فيعلو الذَّكر الأنثى ضاغِطًا على جِسمِها بأطرافه، وعند خُروج البويضات من مِبرَز الأنثى يُلقِّحها الذكر، وتكون البُويضات في شكل عناقيد تَسبَح في الماء أو تلتَصِق في الأعشاب المائية.
وكلَّما تأمَّلْنا في سلوك الحيوانات حتى العالِية منها كالثديِيَّات اتَّضَح لنا أنَّ نِظام الوظائف الفسيولوجية التناسُليَّة وما يُحيط بها من ظروف خارجية طبيعية يَجعل الفرد مُجرَّد وسيلةٍ لحِفظ النَّوع ويَحُول دون حدوث الانحِرافات فيكون السُّلوك الجِنسي في مُختلِف أطوارِه خاضِعًا لإيقاعٍ مُعيَّنٍ؛ فلا تَتحرَّك الشَّهوَة عند الحَيوان إلَّا بعد أن تكون الطبيعة قد هيَّأت من الأسباب ما يَضمَن تحقيق الإخصاب وتكوين النَّسل. وتكون الظروف الفسيولوجية من تنشيط الغدَّة النُّخامية وهي موجودة في المُخِّ والغُدَد التناسُلية وتكوين البويضات ونُضجها، العامل الأساسي في إثارة السُّلوك الجِنسي. ومِمَّا يُساعد على تَوجيه هذا السُّلوك ومُواصَلَته، المُنبِّهات الخارجيَّة من شكلٍ وحركةٍ ولمسٍ وشمٍّ، وأهمُّها المُنبِّهات الشمِّيَّة.
أما السُّلوك الجِنسي في الإنسان فإنَّه جدُّ متعقِّد؛ لتدخُّل العوامل النفسية وخاصَّةً ما يُؤثِّر في الشعور من اتِّصالاتٍ وعواطِف وذِكرَيات وخَيالات، بل إنَّ العوامل الفِسيولوجية قد تضطرِبُ وتختلُّ بتأثير العَوامِل النفسيَّة. أما فيما يختصُّ بإثارة الشَّهوَة أو إخمادِها أو بِضبطِ المَيل وتوجيهه فيبلُغ أثر العوامل النفسية أقصاه. والإشكال في المسائل الجنسية لدى الإنسان يرجِع في الواقِع إلى تنظيم عَلاقة النفس بالجِسم وبيان مدى تأثير الإرادة في تهذيب المَيل الجنسي وتوجيهه الاتِّجاه السليم السَّوي.
(٥) الإخصاب في الإنسان ودِلالتُه السَّيكولوجية
في كلِّ نوعٍ من الأنواع يكون عدد الصبغيات في كلِّ خليةٍ ثابتًا، فعدَدُها في دُودة الأسكاريس ٤، وفي ذُبابة الخلِّ «الدروسوفيلا» ٨، وفي الجراد ٣٠ وفي النَّمل ٣٢، وفي الضِّفدَع ٢٦ وفي الدَّجاجة ٣٢ وفي الإنسان ٤٨.
قُلنا: إنَّ الخليَّة الجُرثومية في الإنسان تحوي ٤٨ صِبغيًا، فعند اجتماع نُطفة الذَّكر بالأنثى سيُصبِح هذا العدد ٩٦ في البويضة المُخصَّبة التي سيتكوَّن منها الفرد الجديد، وهذا مُحال إذ لا بُدَّ أن يكون عدَدُ الصِّبغيَّات ثابتًا ليكون الولَد شبيهًا بوالِديه؛ ولهذا السبب يمرُّ كلٌّ من البويضة والحَيوان المَنويُّ بمرحلة نُضجٍ يتخلَّى فيها عن نِصف صِبغيَّاته بحيث تُصبِح ٢٤. فعندما يجتمِع الحيوان المنويُّ والبويضة بعد نُضجِهما — أي بعد خَفض عدد الصِّبغيَّات إلى النِّصف — تندَمِج نَواة الأول بالثانية، ويُصبِح عَددُ الصِّبغيَّات من جديد ٤٨.
ولنتأمَّل قليلًا في عمليَّة تخصيب البُويْضة وظروفها، فإنها تنطوي على حِكمةٍ عظيمة تُساعِدنا على فَهم الفَوارق الخِلقيَّة الموجودة بين الرَّجل والمرأة، وعلى توضيح رِسالة كلٍّ منهما إزاء الآخر وإزاء المُجتمَع الإنساني.
بُويضة المرأة جِسم كرويُّ الشكل يُمكن رؤيته بالعَين المُجرَّدة على الرَّغم من صِغرَه؛ إذ لا يزيد حَجمُه عن ١ / ١٠ الملِّيمتر، في حين أنَّ الحيوان المَنويَّ من الأجسام الميكروسكوبية لا يزيد حجم جسمه عن ١ / ٢٠٠ من الملِّيمتر. وينتهي الجِسم بذيلٍ طوله حَوالي أربع مرَّات طول الجِسم. والحَيوان المَنوي يسعى نحو البويضة بسرعةٍ مُنتقِلًا في السَّوائل التي تحمِله بفضل حرَكَة الذَّيل التي تُشبِه الحرَكة الدُّوديَّة، بينما البويضة بعد خُروجها من المِبيَض تنتقِل ببطءٍ مُتَّجِهة نحوَ الرَّحم. ويحدُث الإخصاب عادةً قبل وصول البُويضة إلى الرَّحم، أي في أثناء اجتِيازها أنبوبة فالوب التي تصِل بين المِبيَض والرَّحِم.
أما عدَد الحَيوانات المنويَّة التي تتكوَّن في الخِصيتَين فعددها لا حصر له، وقد يحتوي السائل المنوي الذي ينسكِب في أثناء العمل الجِنسي على أكثر من ثلاثمائة مليون كلَّ مرة. غير أنَّ هذا العدد قد ينقُص في بعض الحالات نتيجة الإسراف الجِنسي. ومن بين هذا العدد الهائل من الحيوانات المنوية لا يُسمَح إلَّا لحيوانٍ واحدٍ باختِراق غِشاء البُويضة، وبعد دخول جِسم النُّطفة ينفصِل الذَّيل ويموت، وتُغطَّى البويضة بطبقةٍ هُلاميَّة خاصَّة تحُول دون دُخول حيوانٍ آخر. وفي هذا العدد الكبير من الحيوانات المَنويَّة التي تسعى نحوَ البويضة ضَمان أكبر لحدُوث الإخصاب.
وبصدَد تحديد المُدَّة التي تكون فيها المرأة قابلةً للحمل يَجِب القول بأن بعض عُلَماء الفسيولوجيا لا يَعدُّون هذه القاعِدة ثابتة مُطلقة، فهناك استثناءات تَظلُّ فيها البُويضة حيَّةً أكثر من خمسة أيام، هذا فضلًا عمَّا قد يَعتري الدَّورة الشهرية من تقدُّم أو تأخُّر.
نعلم أنَّ الوحدة الأساسية في تركيب كلِّ كائنٍ حيٍّ هي الخلية، أي إنَّ مظاهر الحياة المُنظمة لا يُمكن مُشاهدتها إلا في الخلية، ففي أبسط الحيوانات المُكوَّنة من خليةٍ واحدة تحدُث جميع العمليات الحيوية من تَغذية ونُموٍّ وإفرازٍ وإخراج وحسٍّ وحركة وتكاثُر. وعلى الرغم من بساطة تركيب هذه الحيوانات الأوليَّة إذا قارنَّاها بالحيوانات المُتعدِّدة الخلايا يُوجد تمايُز بين مُختلِف الأجزاء من حيث الشكل والتركيب الكيميائي، ومن ثم تقسيم للعمل، فقد أشرْنا مثلًا إلى الدَّور الذي تقوم به النَّواة أثناء عملية الانقسام في نقْل العوامل الوِراثية من الأصل إلى الذُّرِّية.
ولا تصدُر الحبوب الخَيطيَّة عن النَّواة، كما أنها لا تتكوَّن تلقائيًا؛ فكلُّ حبَّة جديدة تتولَّد بالانقِسام عن حبَّةٍ قديمة. يُشاهَد انقِسام الحبوب انقِسامًا عرضيًّا كلَّما أبطأت عمليَّة النُّموِّ في حالة التَّعَب أو الإعياء الشديد. ويحدُث نتيجةً لانقِسام الحبوب ازدياد النَّشاط الحيوي واستئناف النُّمو. ونظرًا لأنَّ كلَّ حبَّةٍ جديدة لا تَتولَّد إلَّا من حبَّةٍ أخرى فقد تَساءل العلماء ما إذا كانت الوحدة الأساسية للتركيب الحيوي هي الحبَّة الخَيطيَّة أم الخلية؟ والحبوب الخَيطيَّة تُمثِّل في الخليَّة طبقَةَ العُمَّال التي تقوم بالعمليَّات الحيوية تحت إشراف النَّواة التي تُعتبَر بِحقٍّ حارِسة وحدة الخلية ونَوعيَّتها، فالحبوب الخَيطيَّة هي في نفس الآن من عوامل التحليل لتَعبِئة الطاقة الخَلَويَّة ومن عوامل التركيب لاختزان الطاقة وحفظِها.
والآن وقد فَهِمنا طبيعة الحبوب الخيطية نعود إلى عملية الإخصاب. نعلَم أنَّ البويضة بعد تَخصيبها تنقسِم إلى عددٍ كبير من الخلايا لتكوين الجنين، فلا بُدَّ من أن تحتوي على كمِّيَّةٍ كبيرة من المواد الغذائية. وتُكَوَّن هذه المواد المُختَزنة فيما يُعْرَف بالمُحِّ أو صفار البيض، وكلَّما ازداد حَجْم المُحِّ نقَصت كَميَّة المادَّة الحيَّة المُسمَّاة بالبروتوبلاسما. تكون البُويضة إذن في حالة شَيخوخة وانحِطاط ومن ثَمَّ عاجِزة عن الانقِسام، فلا بُدَّ من تجديد نشاطِها وإعادة الشباب إليها. وهذا هو الدَّور الذي ستُؤدِّيه نُطفة الذَّكر عند امتِزاجِها بنُطفة الأنثى، فإذا فحَصْنا الحيوان المَنويَّ تحت المِجهَر وجدْنا أنه يتركَّب خاصَّةً من نَواة ومن كُتلةٍ من الحبوب الخَيطيَّة تمتاز بشدَّة نشاطها، فعندما يتمُّ الإخصاب تُشاهَد هذه الحبوب الخَيطيَّة تتَّجِه نحوَ البروتوبلاسما وتَنتشِر فيه، وفي هذه اللَّحظة تنتقِل البويضة من حالة الخُمول التي كانت فيها إلى حالةٍ جديدة من النَّشاط والحيويَّة.
وسرُّ هذا النَّشاط الجديد هو أنَّ الحبوب الخَيطيَّة الآتِية من نُطفة الذَّكَر امتزجَت بالحبوب الخَيطيَّة التي أخذت تَهزُل وتَشيخ في جِسم البويضة فتُعيد إليها النَّشاط والشباب. فعمليَّة الإخصاب هي — في الواقع — عمليَّة تَغذية وعملية تناسُل في الوقت نفسه. وتظهَر هاتان النَّاحِيَتان بِجلاءٍ في تخصيب النَّبات حيث تحتوي حبوب اللقاح على نَواتين: إحداهما وهي كبيرة الحجم لتَغذِية البُويضة، والأخرى صغيرة للتَّخصيب.
وممَّا هو جَدير بالمُلاحَظة أنَّ من بين السُّلالَتَين الجُرثُومَتين: سُلالة الذَّكَر وسُلالة الأنثى، لا تُصاب الحبوب الخَيطيَّة بالانحِطاط والشيخوخة إلا في سُلالة الأنثى، في حين تَظلُّ الحبوب الخَيطيَّة في سُلالة الذَّكَر في حالةٍ دائمةٍ من الشباب. وخلاصة القول: إنَّ الحياة لا تتجدَّد ولا تَستمرُّ في حَرَكتِها الإبداعية الخالِقة إلَّا بفضل نُطفة الذَّكر وما تَحمِلُه من عوامِل البقاء والخلود.
(٦) تعيين الجنس ودِلالته الاجتماعية
اهتمَّ العُلماء اهتمامًا خاصًّا ببَحث العوامل التي تُعيِّن جنس الجنين، هل يتحدَّد جِنس الجنين — ذكرًا أو أنثى — قبل الإخصاب أو عِنده أو بعدَه؟ هل يُمكن تغيير الجِنس وتحويله إلى ضِدِّه في أثناء النموِّ الجنيني؟ هل تكون عوامل التَّعيين مقصورةً على الظُّروف الداخلية والتركيب الكروموسومي لكلٍّ من النُّطفتين؟ أم هناك عوامل خارجية كالحرارة ونظام التَّغذية وما يدخُل فيه من فيتامينات خاصَّة تؤثِّر في العوامل الداخلية فتُساعدها حينًا أو تعوق آثارها حينًا آخر؟ هل يُمكن التحكُّم في تعيين الجنس بحيث تضع المرأة ذكرًا أو أنثى حسب رغبة الوالِدين؟ تلك هي بعض الأسئلة التي تُثار حول موضوع تعيين الجنس، وسنُحاول الإجابة عن بعضها بإيجازٍ مع الإشارة إلى ما يُمكن اعتباره حقيقةً علمية ثابِتة وما يزال فرضًا من الفروض لا يزال العِلم يواصِل بحثَه لتدعيمه أو رفضه، تَبعًا لما ستُسفِر عنه التَّجارب من نتائج ثابتة، كما أننا — تطبيقًا للمَنهج التكامُلي — سنُحاول أن نَستخلِص ما تنطوي عليه الحقائق البيولوجية من دلالةٍ سيكولوجية واجتماعية.
والنظرية الثانية كذلك مرفوضة، وهي التي تقول بتعيُّن الجِنس أثناء نموِّ الجنين تحت تأثير الأغذِية التي تتعاطاها الأم وهي حامِل، أو تحت تأثير البيئة الغِذائية التي تَعيش فيها الأجِنَّة في بعض أنواع الحيوانات التي لا تحمِل نِتاجَها. وقد لوحظ أن بيضَ الضَّفادع يتحوَّل مُعظَمُه إلى إناثٍ عند انخِفاض درجةِ الحرارة، وإلى ذكورٍ عند ارتفاعِها.
أما النظرية الثالثة وهي تَعتبِر تَعيُّن الجنس مُرتبطًا بالإخصاب ومُعاصِرًا له فهي التي تؤيِّدُها الحقائق التجريبية، خاصَّة وأنها تربِط بين تعيُّن الجنس وعوامل داخلية ثابتة هي العوامل الوِراثية في كِلا النُّطفتين. وهي تنقسِم إلى نظريَّتين مُتمِّمتين إحداهما للأخرى، على الرغم ممَّا يبدو بينهما من تَعارض، وهما النَّظرية الكروموسومية أو الصِّبغيَّة، والنظريَّة الفِيتامِينيَّة.
في الأنثى ٤٦ كروموسومًا أساسيًّا وكروموسومان إضافيَّان مُتشابهان نرمُز إليهما ﺑ ص ص. وفي الذَّكَر ٤٦ واثنان إضافيَّان أحدُهما أقوى من الثاني نرمُز إلى الأول ﺑ ص وإلى الثاني ﺑ س، أو الأنثى ٤٦ + ص ص، والذكر ٤٦ + ص س.
وقد ذكرْنا أيضًا أن الإخصاب يكون مَسبوقًا بمرحلة تنضَج في أثنائها النُّطفة تُعْرَف بعملية خفض الكروموسومات إلى النصف، فيكون لدَينا في نُطفة الأنثى نوع واحِد من التركيب الصِّبغي هو ٢٣ + ص. وفي نُطفة الذَّكَر نوعان ٢٣ + ص أو ٢٣ + س.
فإذا اجتمع النوع الأول بالبُويضة أصبح تركيب البويضة المُخصَّبة (٢٣ + ص) + (٢٣ + ص) أي ٤٦ + ص ص أي أنَّ الجنين سيكون أنثى.
وفي الحالة الثانية: (٢٣ + ص) + (٢٣ + س) أي ٤٦ + ص س أي إنَّ الجنين سيكون ذكرًا. ولكن إذا كانت هذه النظرية صحيحةً كيف نُعلِّل ظهور الجِنسَين في نفس الشَّخص أو تحوُّل الجِنس إلى ضِدِّه في أثناء النموِّ الجنيني؟ لا شكَّ أن النظرية الكروموسومية تُعلِّل لنا بوضوح الحالات العادية، وتفسِّر لنا كيف يكون عدد الذكور مُساويًا لعدد الإناث أو يكاد إذا أخذنا مجموعة كبيرة من السُّكان. غير أنه لا شكَّ أيضًا أنَّ هناك عوامل أخرى تتدخَّل في عملية تَعيُّن الجِنس من شأنِها أحيانًا أن تُحْدِث اضطرابًا في نِظام توزيع الصِّبغيَّات وفي آثارها. والنظريَّة الفِيتامينية تُحاوِل توضيح هذه الناحية الغامِضة وتفسير الحالات الشاذَّة.
ويتوقَّف على ذلك أنَّ كلَّ عاملٍ من شأنه أن يُضعِف التأكسُد في نُطفة الذَّكَر سيؤدي إلى أن يكون الجنين أنثى، وكذلك كلُّ عاملٍ من شأنه أن يَزيد التأكسُد في نُطفة الأنثى سيؤدي إلى أن يكون الجنين ذكرًا.
ومن أهم العَوامل التي تُؤثِّر في شدَّة التأكسُد الفيتامين ب وخاصة ب٢، ب٣ فإذا أُصيب الذَّكَر بنقصٍ في هذه الفيتامينات تكون ذُرِّيَّته من الإناث ضِعْفَ ذُرِّيَّته من الذُّكور.
وهذه النَّظرية تُفسِّر لنا ازدِياد عدد المَواليد الذكور في زَمن الحَرب؛ فحياة الجُندي في المَيدان شاقَّة محفوفة بالأخطار وتُنمِّي فيه خصائص الرُّجولة إلى أقصى حدٍّ من الشَّجاعة والجَلَد وتَحمُّل المَشقَّات، وكذلك تكون حياة الزَّوجة شاقَّة تتطلَّب منها بذل مَجهودٍ مُضنٍ في الحقل أو المصنع، فتكون عمليَّات التأكسُد واستهلاك الطاقات قويَّةً وشديدة؛ ولهذا تَرجح كفَّة الذَّكَر على الأنثى كأنَّ الطبيعة تُريد أن تُعوِّض ما تفقِده الإنسانية من رجالٍ في ميادين القتال.
ولكن يجِب أن يُلاحَظ أنَّ ازدياد شدَّة التأكسُد لا يُؤثِّر في تَرجيح تكوين الذَّكَر على الأنثى إلَّا إذا كان مُحقَّقًا أثناء الإخصاب. أما إذا كان كلٌّ من الزَّوجَين في حالةٍ سويَّة، أي أن يمتاز الرجُل بخصائص الرُّجولة من حركةٍ ونشاط وجلَدٍ وإقدام على الأهوال، ومن تغلُّب عملية الهَدْم على عمليَّة البناء في التَّغذية، والمرأة بخصائص الأنوثة من لِينٍ وهدوءٍ وحنانٍ وانقِياد، ومن تَغلُّب عمليَّة البناء على عمليَّة الهَدْم في التَّغذِية تتوزَّع الذُّرية بالتَّساوي بين الجِنسين. وفي هذه الحالة يكون العامل الأساسي في تَعيُّن الجنس، العوامل الكروموسومية.
وخلاصة القول إنَّ كلَّ شخصٍ ينحرِف عن سبل جِنسه ويأبى القيام بالمُهمَّات التي يفرِضُها عليه جِنسه يفقِد أولًا: القُدرَة على إنسال ذُرِّية من جِنسه، وأخيرًا: القدرة على الإنسال عامَّة.
يوسف مراد، مبادئ علم النفس العام، الطبعة الثانية، ١٩٥٤، ٤٢٨ صفحة من منشورات جماعة علم النفس التكامُلي، دار المعارف بمصر.
Youssef Mourad. La Physiognomonic Arabe et Le Kitâb al-Firâsa de Fakhr al-Din al-Ràzi Librairie Orintaliste Paul Geuthner-Paris 1939.