دراسات حديثة في عِلم النفس الصناعي
تقوم الصناعة الحديثة على التخصُّص في العمل وعلى تقسيمه، كما أنها تقوم على الإنتاج الكبير، وضخامةُ الإنتاج تَقتضي اتِّباع نظامٍ دقيق في تَسلسُل العمليات في أزمِنةٍ مُحدَّدة وتَبعًا لإيقاعٍ مُعيَّن. ويؤدِّي اختِلال هذا النظام الأمثل إلى تبديد الجهود وخفْض الإنتاج وفشَل المشروع الصناعي. ولم يلبَثْ رجال الصناعة طويلًا حتى أدرَكوا أنَّ عملهم لا يحتاج فقط إلى مُهندِسين مِيكانيكيين لتصميم الآلات وتشغيلها، بل إلى مُهندِسين بَشريِّين يُعنَون بجانب تحليلهم لقُدرات العامِل بتحليلِ الشُّغل ذاته، وبالكشف عن أحسن المناهج للتدريب، وللقِيام بالحركات التي تقتضِيها كلُّ شُغلةٍ من الشُّغلات الصِّناعية.
وتقوم الهندسة البشريَّة — وهي تَسمِية جديدة لعِلم النفس الصناعي — على تيَّارَين من الأبحاث، بدأ كلٌّ منهما مُستقلًّا عن الآخر، ثم اجتمَعا بشكلٍ واضِح منذ رُبع قرن. والتيَّار الأول خاصٌّ بالأبحاث التي تناوَلَت تحليل الشُّغل وقِياس الأزمنة التي تَستغرِقها كلُّ حركةٍ ضرورية بعد إسقاط الحركات التي تَستنفد طاقةً بدون جَدْوى. وكان هذا الاتجاه الأول صناعيًّا بَحْتًا يَرمي إلى تنظيم يوم العمل من وِجهة نَظر الإنتاج البحت. أمَّا التيَّار الثاني — وكان سَيكولوجيًّا وتربويًّا في نزعتِه — فيتمثَّل في حركة الاختبارات والأقْيِسة السَّيكولوجيَّة. وكان غرضُه الأساسي تصنيف الأفراد بالقِياس إلى ما يَتميَّز بينهم من فروقٍ فردِيَّة من حيث القُدرة العقلية العامَّة.
والتِقاء هذين التيَّارين أدَّى إلى نتائج هامَّة في مَيدان الاختيار والتَّوجيه المِهني، فاهتمَّ عُلماء النفس الفنيُّون بالاشتراك مع المهندسين بعَمَليَّتين أساسيَّتَين:
- أولًا: تحليل كلِّ عملٍ صناعي إلى عوامله الميكانيكية والاقتصادية والسيكولوجية، وأخيرًا العوامل الماديَّة من ظروف الحرارة والضَّوء والتَّهوية والرُّطوبة والضَّوضاء … إلخ.
- ثانيًا: تحليل الحركات التي تتطلَّبها كلُّ شغلةٍ صناعيَّة مع تسجيل اتِّجاه الحركات وتداخُلها وصُوَر تآزُرها والزَّمن الذي تَستغرِقه كلُّ حركة.
ومن جهة أخرى قام عُلماء الأقْيِسة السيكولوجية بتحليل القُدرات الإنسانية من عقليَّة وميكانيكية وخُلقيَّة ومِقدار توزيع هذه القُدرات في السكان، ونِسبة ارتِباطها داخل الفرد نفسه ومدى تَضافُرها أو تنازُعها.
وأدَّت جميع هذه الدراسات إلى وضع قائمتين كبيرتَين تضمُّ الأولى مُختلِف الحِرَف والمِهَن مُرتَّبة في أُسَر تَبعًا للعوامل المُشتركة بين وحدات كلِّ أُسرةٍ وما تتطلَّبه من قُدرات حذْق ومَهارة. وتضمُّ الثانية القُدرات البشرية الأساسية مع الإشارة إلى طُرق قياسها وتقديرها، وتتلخَّص مُهمَّة السيكولوجي الذي يقوم بالاختبار والتوجيه المِهني في تطبيق البيانات التي تضمُّها القائمتان لتحقيق أكبر قدْرٍ مُمكِن في التكييف بين المِهنة وشاغِلها.
علم النفس في الصناعة: تأليف استنلي جراني.
دراسة الزمن والحركة: تأليف ل. أرثر سلفستر.
مطالعات في علم النفس الصناعي وسيكولوجية الأعمال: بإشراف كارن وجلمر.
علم النفس التطبيقي: تأليف الدكتور هنري فالون، وترجمة الدكتور عزَّت راجِح مكتبة الأنجلو، مصر ١٩٥٣م.
ويحتوي الكتاب الأول «علم النفس في الصناعة» على أربعة عشر فصلًا.
ومؤلِّف هذا الكِتاب استنلي جراي معروف بالكُتب التي نشرَها بمُفرده أو بالاشتراك مع غيره في مَيدان علم النفس التطبيقي. ونذكُر من هذه الكتب: «الأسُس السيكولوجية للتربية» عام ١٩٣٥م، ثم تطبيق علم النفس عام ١٩٤١م، ثم «علم النفس في خِدمة الشئون الإنسانية» عام ١٩٤٦م. وهو يُقدِّم لنا اليوم كِتابًا جديدًا يهدف إلى بَيان ما في إمكان علم النفس من أن يُقدِّمه في خِدمات للصناعة.
ويُمكن تقسيم فصول الكِتاب إلى أربعة أقسام: قِسم يتناوَل في أربعة فصول تحليل الشُّغل، تحليل العامِل، التدريب على العمل، مناهج تأدِية العمل. ويُعالِج القسم الثاني في فَصلَين مُشكلة الأجور: أولًا بالنسبة إلى المجهود الذي يبذُله العامل، وثانيًا بالنسبة إلى طبيعة العمل. ويَستعرِض المؤلِّف في القِسم الثالث أهمَّ الظروف التي تؤثِّر في مَقدرة العامل وفي إنتاجيَّته، كالتَّغذية والراحة ووسائل منع الحوادث وعوامِل المَلل والإضاءة والتَّهوية، وذلك في أربعة فصول. أمَّا القِسم الأخير فهو بِقلم الدكتور كارل جريسون ويشمَل الموضوعات الآتية: سنَّ العمال، الرُّوح المَعنوية للعامل، وأخيرًا مُشكلة تكيُّف المُوظَّفين في المُنشآت الصناعية.
•••
ينقسِم الكتاب إلى قِسمين؛ يتناوَل الأول نظريَّة الشُّغل والأسباب التي تؤدِّي إلى تَغيير نِسبة الإنتاج، والثاني الوسائل الفنيَّة لقِياس الحركات والأزمنة. ويُلحُّ المُؤلِّف على ضرورة إخضاع دراسة الشُّغل للأسلوب العِلمي، أي للمُعالَجة الكَميَّة بقدْر الإمكان، ويجِب أن تتناوَل الدراسة العِلمية الكَميَّة المُقوِّمات الثلاثة للشُّغل البشري وهي:
- أولًا: المُقوِّم الميكانيكي وهو القوَّة مضروبة في المسافة.
- ثانيًا: المُقوِّم الشخصي ويَشمَل السنَّ والجسم وحجم الجِسم والقوَّة العَضليَّة والذَّكاء والقُدرات الخاصة من مَهارةٍ وحذْقٍ وإيقاعٍ وسُرعة، ثم مدى التَّدريب والخِبرة مع مُراعاة سِمات الشخصية العامة، وكيفية الاستِجابة للظروف المادِيَّة والاجتماعية، وأخيرًا الاتِّجاهات والمُيول وما إليها من دَوافِع وبَواعِث.
- ثالثًا: المقوِّمات الخارِجيَّة من وضعٍ وإضاءة وحرارة وتَهوية وما يَطرأ من ظروفٍ مُعطِّلة للعمل.
وتقتضي قراءة الكِتاب معرفةً جيِّدة بأصول الإحصاء بنُظم الصناعة الحديثة وأصولها الهندسية الميكانيكية؛ فدراسة سلفستر دراسة عالِيَة في التخصُّص السيكولوجي الصناعي.
•••
أما الكتاب الثالث: «مُطالَعات في علم النفس الصناعي وسيكولوجية الأعمال»، فإنه يدعونا إلى جَولةٍ واسِعة في جميع ميادين علم النفس الصناعي، وهو يضمُّ ثلاثًا وخمسين مقالةً لمُؤلِّفين مُختلِفين نُشِرَت بعضها في مَجلَّات سيكولوجية واجتماعية وفنيَّة، ومُقتَبسة بعضها الآخر من كُتبٍ سبَق نشرها. ونذكُر من هذه المجلَّات:
ثم ينتقِل بنا الكِتاب إلى لَونٍ جديد في الدراسة، فليس المُهمُّ تنظيم العمل الصناعي وزيادة الإنتاج، بل يجِب أيضًا دراسة حاجة السُّوق ومَعرفة المناطِق التي تكون أكثر من غيرها في حاجةٍ إلى سِلعةٍ من السلع؛ وذلك لتوجيه حركة الإنتاج وتَنويعها حسْب مُقتضَيات الأسواق، ثم لأنه من المُهمِّ معرفة أذواق المُشتَرين والكشْف عن أحسن الوسائل لجذْب اهتمامِهم. تلك هي أهمُّ مَوضوعات الباب الثاني. أمَّا الأبواب الثلاثة الأخيرة فهي تَتناوَل القِيادة ثُمَّ العَلاقات الصناعية، وأخيرًا تنظيم عمل السَّيكولوجي داخل المَصنع، مع الإشارة إلى المَشاكل الخُلقِيَّة التي قد تُثيرُها طبيعة العَلاقة بين السَّيكولوجي وصاحِب العمل من جِهةٍ والعُمَّال من جهةٍ أخرى.
وخلاصة القول: إنَّ هذا الكتاب يُقدِّم لنا ثَروةً عِلمية كبيرة، وحَبَّذا لو تَظفَر المَكتبة العربية بكِتابٍ من هذا النوَّع في هذا المَيدان الذي يزداد حيَوِيَّةً واتِّساعًا مع زيادة تعقُّد المشاكل الصِّناعية.
•••
Barnes, R.M. — Motion and Time Study. John Wiley & Sons, Inc., New York, 1940.
وقد تُرْجِمَ هذا الكتاب القَيِّم إلى اللُّغة الفرنسية في العام الماضي بإشراف «مكتب الأزمِنة العُنصرية» Bureau des Temps Élémentaires في باريس بالعنوان الآتي:
“L’Etude des Movements et des Temps” par Ralph Barnes, Un Volume Illustré Relié Toile in-8., 600 Pages, 6000 fr. En Vente aux Editions d’Organisation, 8, rue Alfred de Vigny à Paris.
انظر المجلة الآتية: PRODUCTIVITE FRANÇAISE, No. 25 Janvier 1954. P. 7 du Supplément. II, Rue du Faubourg St-Honoré, Paris 8e.