نقد الأدب وتاريخه
لقد كان النقد الأدبي سابقًا للتاريخ الأدبي، فمن الطبيعي أن يكون خالق الأدب ناقدًا، ومن المعلوم أن شعراء العرب أنفسَهم في الجاهلية كانوا نقَّادًا، وقد ضُرِبَتْ للنابغة خيمة يحكم فيها بين الشعراء، كما كان أول نقاد اليونان «أرستوفان» شاعرًا روائيًّا، وقد خَصَّصَ روايةً بأكملها لنقد شعراء التراجيديا الثلاثة: «أشيل»، و«سوفوكل»، و«يوربيد» — وهي رواية «الضفادع».
فمن الصحيح أن نقول: إن النقد قد سبق التاريخ الأدبي ما دام هذا النقد كان معاصرًا لخلق الآداب، وكان أقدم النقاد شعراء، وأما التاريخ الأدبي فلا ينشأ عادة إلا بعد أن يجتمع لكل أمة تراث أدبي يستحق أن يُؤَرَّخَ.
فالنقد الأدبي غير تاريخ الأدب، وإن يكن من أسس التاريخ الأدبي، فهناك في كافة اللغات كتب تتناول تاريخ الآداب المختلفة: الأدب الإنجليزي، أو الفرنسي، أو العربي، وذلك على تفاوت واضح بين كتب تاريخ الأدب العربي وكتب تاريخ الآداب الأخرى؛ إذ المُلاحَظ أنه لسوء الحظ قد فُهِمَ الأدب العربي على أنه الشعر والنثر الفني فحسب؛ ولذلك حتى السنين الأخيرة لم يُدْرَجْ في تاريخ آداب اللغة العربية المؤرخون والفلاسفة مثلًا، بل اقتصرت كل تلك الكتب على الشعر والنثر الفني القاصر على الرسائل والمقامات والأمثال السائرة والخطب وما شاكل ذلك، مما تغلب عليه الصناعة اللفظية، ويفتقر إلى المادة الفكرية والعاطفية في كثير من الأحيان، وليس كذلك تاريخ الآداب الأجنبية التي تحوي دائمًا فصولًا ممتعة عن التاريخ والمؤرخين والفلسفة والفلاسفة والاجتماع وعظمائه.
وعلى أية حال فسواء فهمنا تاريخ الأدب بالمعنى الضيق الذي تقف عنده الكتب العربية، أو بالمعنى الواسع على النحو الأوربي، فمن الواجب أن نفرِّق بين تاريخ الأدب ونقده.
ولتوضيح ذلك نُعَرِّفُ كلًّا منهما ونبين وسائله.
تاريخ الأدب جزء من التاريخ العام، وهو خاضع لمناهج التاريخ بوجه عام، وذلك مع بعض الفوارق التي ترجع إلى طبيعة الأدب؛ فالتاريخ العام يتناول حقائق انقطع بها الزمن فلم تمتد إلى الحاضر وتؤثر فيه، وعلى العكس من ذلك الأدب فهو ماضٍ مستمر في الحاضر. وإذا كانت مادة التاريخ وثائق ومحفوظات تُحْفَظُ في دُور الكتب، ويُبْحَثُ عنها لقيمتها الإخبارية؛ فإن الأدب على العكس من ذلك عبارة عن مؤلفات شعرية أو نثرية لا تزال حية لقدرتها المستمرة على الإثارة الفكرية أو العاطفية، وهي ضرورة من ضرورات الحياة عند الشعوب المتحضرة؛ لأنها تُرَبِّي ملكات الذوق والإحساس عند البشر، كما تُرَبِّي العلوم الرياضية ملكاتِ المنطق والتفكير.
وعلى هذه الحقيقة الأولى ينبني فارق واضح بين التاريخ العام وتاريخ الأدب، فالأدب بعناصره الإنسانية يُحَرِّكُ مَنْ يُؤَرِّخُ له، وهو خليق لذلك بأن يقوده إلى أنواع من التحزُّب قد تكون أشد خطرًا مما يتعرض له المؤرخ العام.
والتاريخ العام يُعْنَى عادة بالكليات المشتركة، بينما تاريخ الأدب يبحث عن الخاصِّ المنفرد، فمؤرِّخ الأدب يسعى إلى أن يوضِّح قبل كل شيء خصائص المدرسة الأدبية التي يتحدث عنها، أو خصائص الكاتب الذي يدرسه؛ ليتبين الفارق الذي تتميز بها المدرسة أو الكاتب عن غيرهما. بينما التاريخ العام يتناول نُظُمًا أو حركات اجتماعية أو اقتصادية كتيارات عامة وظواهر اجتماعية شاملة، وتنبني على هذه الحقيقة الثابتة فروق أخرى هي: أن مؤرخ الأدب يُنحي دائمًا على شخصية الكاتب الذي يدرسه كل ما هو عام أو دخيل على هذه الشخصية لتبقى له بعد ذلك خصائصه المميزة؛ فالكُتَّاب — جانب كبير منهم — امتداد من الماضي أو بؤرة للحاضر. وهذان العنصران الماضي المستمر فيه، والحاضر الذي ينتهي إليه — يؤلفان عادةً الشخصية البشرية التي يكمن فيها الجوهر المفرد مغلفًا بغلاف كثيف لا بد لمؤرِّخ الأدب من نفاد البصيرة بحيث يفضه؛ ليستطيع بعد ذلك أن يميز بين الجواهر المختلفة. وعلى العكس من هذا المؤرخ العام الذي يحرص على أن يستقرئ من التفاصيل طابعًا عامًّا للعصر الذي يكتب عنه.
والأدب بحكم أنه مجموعة من المؤَلَّفَات التي تملك الإثارة الفكرية والعاطفية، لا بد أن تدخل عند الحديث عنه مقومات إنسانية لا نقول: إن المؤرخ العام يستغني عنها، بل نقول: إنها ألزم لمؤرخ الأدب؛ وذلك لأننا مهما نادينا بضرورة عدم التحزُّب في تاريخ الأدب كما ينادي المؤرخون بعدم التحزب في التاريخ العام — إلا أنه لا مفر لمؤرخ الأدب من أن يحكم على ما يدرس، وكل حُكْمٍ لا بد أن يقوم على التجربة الشخصية؛ إذن فمؤرخ الأدب لا مناص له عندما يحكم على الكاتب أو الكِتَاب الذي يدرسه من أن يعود إلى نفسه ليتلقى انفعالاتها، ثم يدرس تلك الانفعالات تحت ضوء العقل؛ لِيُنَحِّيَ منها ما يمكن أن يكون إحساسًا مدفوعًا أو مدسوسًا لعصبية أو أشياء أخرى.