أنواع التاريخ الأدبي
كُتُبُ تاريخ الأدب العربي يجري الكُتَّاب عادة على وضعها تبعًا لأسس زمنية، فهم يقسمونها إلى عصور وقرون. ولكن هذه الطريقة ليست الوحيدة في تاريخ الآداب، وربما لم تكن خيرها؛ ولهذا ظهرت في أوربا طرق أخرى للتاريخ، فهم يؤرِّخون أحيانًا لفنون الأدب، وأحيانًا لعصور الذوق الأدبي المختلفة، وأحيانًا للتيارات الأدبية الفنية.
فأما فنون الأدب فيمكن تصور ذلك في الأدب العربي، أو كتب كاتب مثلًا عن تاريخ الرثاء أو الهجاء في الأدب العربي على طول الزمن؛ فهو عندئذ يكتب تاريخيًّا لنوع منها، وفي الآداب الأوروبية عن تاريخ الأدب القصصي أو التمثيلي أو الغنائي. والتاريخ لعصور الذوق الأدبي يمكن تصوره في الأدب العربي أيضًا عندما يدرس مُؤَلِّف نشأة مذهب البديع والصنعة مثلًا، ويتتبعه منذ «مسلم بن الوليد» إلى «أبي تمام»، أو مذهب الترسل وعمود الشعر عند «البحتري» ومدرسته. فهذه مذاهب تقوم على ذوق فني خاص، وتعتبر الكتابة عنها تأريخًا لعصر من عصور الذوق، والكتابة عن التيارات الأدبية الفنية تكون مثلًا عندما يدرس مُؤَلِّف شعر الفكرة في الأدب العربي كما نشأ عند «أبي العتاهية»، ثم «المتنبي» و«أبي العلاء»، أو يدرس التصوف، أو الأدب الإباحي كما نجده عند «بشار» و«أبي نواس»؛ فهذه الدراسة تُعْتَبَرُ تأريخًا لتيارات أدبية فنية.
النقد الأدبي في أدق معانيه هو: فن دراسة الأساليب وتمييزها، وذلك على أن نفهم لفظة الأسلوب بمعناها الواسع، فليس المقصود بذلك طرق الأداء اللغوية فحسب، بل المقصود منحى الكاتب العام، وطريقته في التأليف والتعبير والتفكير والإحساس على السواء، بحيث إذا قلنا: إن لكل كاتب أسلوبَه يكون معنى الأسلوب كل هذه العناصر التي ذكرناها. فالقصاص والمؤلف المسرحي والشاعر لكل منهم أسلوب خاص، كما أن لكل كاتبٍ أسلوبَه الذي يتميز به عن غيره من الكُتَّاب لو اتحدت الكتابة من حيث الموضوع؛ فيدخل في معنى الأسلوب مثلًا أن هذا الكاتب أو ذاك مثاليٌّ أو واقعي، كما يدخل فيه أنه مترسل أو متكلف في طريقة الأداء اللغوي.
وأساس النقد الأدبي مهما قَلَّبْنَا أوجه الرأي — لا يمكن إلا أن يكون التجربة الشخصية، وكل نقد أدبي لا بد أن يبدأ بالتأثُّر؛ وذلك لأنك لا تستغني عن الذوق الشخصي والتجربة المباشرة لإدراك حقيقةٍ ما إدراكًا صحيحًا، فلو أن كيماويًّا حَلَّلَ شرابًا ما إلى عناصره الأولية وأتاك بِنِسَبِ تلك العناصر، بل إننا لو افترضنا جدلًا أنك تعرف طعم كل عنصر من هذه العناصر المنفردة، ثم حاولت أن تتصور أو تدرك طعم هذا الشراب المُرَكَّب لما استطعتَ؛ وذلك لأن كل مركب تتولَّد له خواص غير متوفرة في العناصر المُكوِّنة له، وإنما تستطيع إدراك طعم هذا الشراب بتذوقه. ولو أننا فرضنا أن كاتبًا من الكُتَّاب وصف تمثالًا من التماثيل أو لوحةً من اللوحات؛ لما أغنى هذا الوصف عن مشاهدة التمثال أو اللوحة، وهكذا الأمر في الأدب فلا بد من التجربة المباشرة، أي لا بد من تعريض أنفسنا للمُؤلَّف الأدبي والبحث عن تأثيره فينا، وهذا أساس كل نقد. ولكن الذوق إذا كان وسيلة للإدراك فإنه ليس وسيلة للمعرفة التي تصح لدى الغير؛ فالذوق عنصر شخصي والمعرفة ملك شائع، والمَلَكَة التي يستحيل بها الذوقُ معرفةً هي ملكة التفكير، فبالفكر ندعم الذوق وننقله من خاصٍّ إلى عام. وللتفكير عدَّةُ مصادر، منها ما يرجع إلى أصول التأليف في كل فرع من فروع الأدب، والمقياس في ذلك عادة نستمدُّه من كبار الكتاب الذين حكم لهم الدهر بالبقاء، وأقرَّتْ لهم الإنسانية بالسبق؛ فكافة القواعد الخاصة بالتأليف إنما استنبطها الكُتَّاب من مراجعة عيون المؤلفات الخالدة. وهذه حقيقة ثابتة منذ «أرسطو» إلى اليوم، فالمعروف أن هذا الفيلسوف عندما وضع للنقد الأدبي والمسرحي أصولًا إنما استمد تلك الأصول من تحليل عيون المؤلفات الإغريقية، بل لقد اختار أحيانًا مُؤَلَّفًا بعينه بل رواية بعينها؛ وذلك واضح من الأصول التي وضعها للتراجيدية، فقد اعتمد في وضعها على مسرحيات «سوفوكليس» بالذات، وعلى «أوديب ملكًا» بنوع خاص؛ ومن هنا لا نجد مفرًّا لِمَنْ يريد أن يشتغل بالنقد مِنْ أن ننصحه بطول الممارسة، وإدمان القراءة في عيون الأدب قراءةَ المحلِّل المدقق، لا الهاوي المزجي فراغًا.
والنقد الذاتي هو النقد القائل بأن الأدب مفارقات وأن التعميم فيه خطر، وأن جانبًا كبيرًا من الذوق لا يمكن تعليله، ولا بد من أن يظلَّ في النهاية غير محول إلى معرفة تصح لدى الغير. وعلى العكس من ذلك النقد الموضوعي، الذي يقول بأن الأصل في كل نقد هو تطبيق أصول مرعية، وقواعد عقلية لا تترك مجالًا لذوق شخصي أو تحكم فردي. وليس معنى النقد الموضوعي أن هذه القواعد تُطَبَّقُ آليًّا، وإلا لجاز مثلًا أن نقول: إن فلانًا يجيد لعبة الشطرنج؛ لأنه يعرف قاعدة تحرك كل قطعة من قطعه، وإنما العبرة باستخدام القواعد، وهنا تظهر المقدرة الشخصية، وهكذا يدخل العنصر الشخصي في النقد المُسَمَّى الموضوعي، كما أن العنصر العقلي الذي لا بد منه لتدعيم الذوق يُكَوِّنُ الجانب الموضوعي في النقد الذاتي، وعلى هذا النحو يتضح أن هذه التفرقة تقوم على مجرد التغليب.
ومع ذلك فمن الواجب أن نذكر دائمًا أن الأدب بطبعه مفارقات، وهو فن جميل، والمفارقات ليست لها معادلات جبرية، والجمال بطبعه لا يُقَنَّنُ له، ثم إن التفكير القاعدي في الأدب خليقٌ بأن يقود إلى التحكُّم.
ومنذ ثار الرومانتيكيون في القرن التاسع عشر على الأدب الكلاسيكي — أدب القواعد الثابتة — لم يحاول أحد أن يضع للأدب أصولًا جامدة، وإن يكن ما يصدق على النقد لا يصدق دائمًا على خلق الأدب؛ ولهذا يقول كثير من المفكرين: إن الفنون تحييها القيود. ففي الشعر مثلًا — وهو أشد أنواع الأدب خضوعًا للأصول — كثيرًا ما تسوق القافية الشاعر مرغمًا إلى معنى لم يكن بباله، بل لم يكن يستطيعه لو قصد إليه، ولقد صدق المثل الفرنسي القائل: «لا يحيا الفن بغير قيود».
(١) النقد الاعتقادي Critique dogmatic
وأما ما يسمَّى بالنقد الاعتقادي، فهو النقد الذي تسيطر عليه آراء ومعتقدات سبق أن استقرَّتْ عند الناقدين؛ وذلك لهوى ديني أو وطني أو عنصري، وهذا هو أشد أنواع النقد تعرُّضًا للتجريح. والتجرد من الأهواء شرط أساسي للنقد، ولكنه ليس سهل التحقيق، ويزيد الأمر صعوبة أن هذه الأهواء ذاتها كثيرًا ما تكون مادة للأدب المنقود؛ فقد تتناول المسرحية أو القصة هوى من هذه الأهواء بالتحليل، وكل تحليل لا يخلو من وجهة نظر، وهنا لا بد من أن تستيقظ الأهواء المماثلة أو المضادة عند الناقد. والأدب — كما هو معروف — من عناصره الأساسية الإثارة حتى ولو كان موضوعيًّا أو تصويريًّا بحتًا؛ وذلك لأن مجرد سرد وقائع وتحليلها وتقديمها للقراء، لا بد أن يحمل في ثناياه وجهة نظر خاصة تطالعنا من الطريقة التي يسرد بها الكاتب وقائعه. وليس بمستطاع عند الحكم على مؤلف أدبي أن نفصل بين مادة المؤلف الأدبي وطريقته الفنية، حتى يمكننا أن نقول: إنه ليس من الممكن أن نحكم على أسلوب المؤلف ومنهجه في ذاته.
وعلى ذلك فمن واجب الناقد أن يسلط ضوء العقل على ما يقول؛ ليتبين فيه مواضع الإسراف أو التحول العاطفية، وهذا أمر يُكْتَسَبُ باتساع العقل وبسطة الثقافة، والحذر من الهوى وطول المران؛ فالأهواء تزداد دائمًا قوةً وتحكمًا في الفرد كلما ازداد أفقُه ضيقًا، وثقافته فقرًا، ونفسه ضحولًا. ولسنا ندعي أن في استطاعة كائن من كان أن يتجرد من الهوى؛ لأن هذا الضعف ملازم للطبيعة البشرية، ولكنه في الاستطاعة — من غير شك — أن نصل دائمًا إلى أحكام يستطيع الغير — مهما كان رأيه مخالفًا لها — أن يستمع إليها لما فيها من قوة العقل واتزانه.
ومن المُلاحَظ أنه كثيرًا ما تختلط المسائل وتتقارب الأطراف حتى ليكاد يمس بعضها بعضًا، فرجل «كالخيام» مثلًا صاحب الرباعيات لا يزال النقاد إلى اليوم حيارى في فهم حالته النفسية، هل كان رجلًا عربيدًا متكالبًا على اللذات؟ أم صوفيًّا شفاف الروح؟ وعندما يتغنَّى بالخمر لا يمكن الجزم هل عناؤه هذا منصرف إلى الخمر المادية، أم إلى خمر الروح؟ والواقع أن كل تحمس لأمر ما — مهما كان هذا الأمر — كثيرًا ما يشبه التصوف الذي هو وقدة في الإحساس، وعلى هذا النحو يستطيع الرجل المغرم بأدب اللذة، كما يستطيع الرجل المغرم بأدب التصوف أن يدرس مثلًا تلك الرباعيات بروح مقبلة، كما يستطيع الناقد الفيلسوف أن يكتفي في تحليله لها بالمعنى النفسي غير عابئ بالناحية الاعتقادية ولا مقيم لها كبير وزن. وسواء أكان الناقد من هذه الطائفة أو تلك أو ثالثة، فالمهم هو ألا تفسد اعتقاداته الخاصة أحكامه على ما ينقد، وبخاصة بعد أن رأينا في هذا المثل كيف أن الأطراف قد تتلاقى، وكيف يستطيع البعد عن المعتقدات، والسير في الجادة النفسية الصرفة.
(٢) النقد العلمي Critique scientifique
ظهر هذا النوع من النقد في أواخر القرن التاسع عشر، وذلك على أثر النهضة الكبيرة التي ظهرت في الأبحاث العلمية والطبيعية، وبخاصة في علم الحياة، ولقد صاحبت تلك الأبحاث فلسفة للعلوم كان من أشهرها نظريات «دارون» عن «التطور وأصل الأجناس»، وكما طُبِّقَتْ هذه النظرية على أجناس الإنسان والحيوان المختلفة، أخذ العلماء — وبخاصة العالم الإنجليزي سبنسر — يطبقونها على العلوم الإنسانية كالاجتماع والأخلاق وعلم النفس وغيرها.
ونظر نقاد الأدب — وقد أخذتهم ضجة تلك النظرية — فرأوا أنه من الممكن تطبيقها أيضًا على الأدب، وقد قام بهذه المحاولة فعلًا ناقد من أكبر نُقَّاد فرنسا وهو «فردينان برونتيير»، الذي كتب عدة مؤلفات تحت عنوان عام مشترك اسمه «تطور الأنواع الأدبية»، وفي كل مجلد تناول نوعًا بذاته كتطور الدراما، وتطور فن القصة وتطور فن الخطابة، وقد بحث في هذه المجلدات عن أصول كل نوع من أنواع الأدب وكيفية تطوره حتى انتهى إلى عصره.
هذه النظرية لا تخلو من تعسُّف، وليس من شك في أنه لو لم يكن «برونتيير» هو الذي ارتفع بها صوته لما أصغى إليها إنسان، ولكنه كان ناقدًا واسع الاطلاع، قوي الحجة؛ فأثار بنظريته هذه اهتمام الجميع، ثم إنه غَذَّاها بتفاصيل تكاد تشفع للخطأ المستقر في الهيكل العام؛ بحيث يخرج القارئ بكمية من المعلومات والأحكام الجزئية العظيمة القيمة، وإن لم يؤمن بالنظرية كتخطيط عام. ولنضرب لذلك مثلًا من أقواله: لقد لاحظ أن الخطابة الدينية في الكنائس كانت تتناول في العصر الكلاسيكي — أي القرن السابع عشر — موضوعات عظمة الإنسان وحقارته، وزوال الحياة وفنائها المحقق وعدم الاطمئنان إليها، والثقة بالطبيعة والسكون إلى رحابها باعتبارها خارجةً من يد الله، ولاحظ كذلك أن الأدب المُسَمَّى ﺑ «الرومانتيكي» في القرن التاسع عشر قد تناول في قصائده الشعرية نفس الموضوعات، فالشاعر الرومانتيكي كثير النظر في الطبيعة البشرية، بل كثير النظر في طبيعته الشخصية دائم التفكير فيها، وهو بَرِمٌ بالحياة فَزِعٌ من زوالها القريب، كما أنه مولع بالطبيعة وما فيها من جمال — لاحظ «برونتيير» هاتين الملاحظتين، فطبَّق عليها نظرية «التطور وأصل الأجناس»، التي تقول: إن جنسًا من الحيوانات قد نتج عن جنس آخر؛ وإذن فقد أصبح من الممكن لديه أن يقول بأن الخطابة الدينية قد تحولت بموضوعاتها وأصبحت الشعر الرومانتيكي كما عرفه القرن التاسع عشر.
وتجرنا هذه النظرية إلى مسألة بالغة الخطورة، وهي محاولة النقاد تطبيق النظريات العلمية الحديثة أو اكتشافها في الآداب القديمة، فإذا رأى الناقد شاعرًا يهاجم استبداد الإنسان بأخيه الإنسان، أو تحكُّم الغني في الفقير؛ ادعى أن هذا الشاعر كان ديمقراطيًّا أو اشتراكيًّا. وهذا نقد تافه فارغ يدل بلا ريب على عكس ما يرمي إليه الناقد من إظهار المعرفة أو من إلمام بالنظريات الحديثة؛ وذلك لأن الناقد المستنير المتعمِّق حقًّا يعلم أن ألفاظًا كالديمقراطية أو الاشتراكية إنما تقوم على أسس فلسفية جامعة، وأنها أبعد الأشياء عن الخواطر العابرة التي تجري على ألسنة الشعراء، والتي قد تكون من وحي الساعة. ولقد فطن كبار النقاد إلى هذه الحقيقة، ودعوا إلى محاربتها حتى لقد قال أحدهم: إن شيئًا لم يؤثر في الآداب القديمة مثلما أثرت فيها الآداب الحديثة، مشيرًا بذلك إلى المحاولات التي يقوم بها بعض الناس عندما يعيدون دراسة تلك الآداب القيمة، ويقحمون عليها النظريات الحديثة التي لم تكن تخطر بعقول منشئيها، وهذا أمر يجب اجتنابه بدقة.
وإذا كان هناك شيء يمكن أن نأخذه من العلم الحديث عندما نزاول النقد، فإن هذا الشيء لا يمكن أن يكون نظريات العلم الحديث؛ وإنما هو روح العلم، وروح العلم روح أخلاقية، فإذا تشبَّعَ بها الناقد — وهذا كل ما يُطْلَبُ إليه — استطاع أن يكون مُقتصِدًا في أحكامه، موضوعيًّا غيرَ مسرف ولا مبالغ، متقصِّيًا للتفاصيل، بانيًا حكمه على ما جَمع من معلومات وثيقة، ثم مُسَبِّبًا له بالحجج العقلية التي تصح لدى الغير. وأما مبادئ العلوم المختلفة رياضية كانت أو نفسية بما في ذلك نظريات الاجتماع وعلم النفس، فمن الواجب أن يكتفي بالضوء الذي تلقيه على النفس البشرية والحياة الاجتماعية، وأما أن تطبق على أديب أو هيئة إنسانية بذاتها كثوب مُعَدٍّ من قبل، فهذا خطلٌ في الرأي؛ لأن النفوس البشرية وحدات لا تتشابه، وكذلك الهيئات الاجتماعية، والأمر كله أمر مفارقات، ووظيفة الناقد الأولى هي إدراك تلك المفارقات وتمييزها. ونظريات العلوم — حتى العلوم الإنسانية — إنما تتناول ظواهر عامة: فنظريات «فرويد» ومدرسته في علم النفس، ونظريات «أوجست كونت» في علم الاجتماع، ونظريات «كارل ماركس» وغيره في فلسفة التاريخ — كل هذه النظريات تحمل بلا ريب جانبًا كبيرًا من الصدق وليس الصدق كله، ويأتيها الخطأ من التعميم الذي ليس هناك ما هو أخطر منه على تفكير البشر.
(٣) النقد التاريخي Critique historique
النقد التاريخي: هو الذي يرمي قبل كل شيء إلى تفسير الظواهر الأدبية والمُؤَلَّفَات وشخصيات الكُتَّاب، فهو يُعْنَى بالفهم والتفهيم أكثر من عنايته بالحكم والمفاضلة. والنقاد الذين يجنحون إلى هذا النقد يؤمنون بأن كل تفسير من الممكن بعد ذلك أن يخرج منه القارئ بحكم لنفسه. وهذا النقد يحتاج قبل كل شيء إلى جهد كبير من الناقد أكثر من حاجته إلى مواهب أدبية خاصة. وأمثال هؤلاء النقاد يعلقون أهمية بالغة على الكتاب والمؤلفات الثانوية المرتبة، وعندهم أن الكتاب والمؤلفات الثانوية كثيرًا — بل غالبًا — ما تكون أكثر دلالة من الناحية التاريخية والإنسانية العامة من كُتَّاب مؤلَّفات الدرجة الأولى؛ لأنها ولأنهم يُعْتَبَرُون مرآةً أصدق لعصورهم. وأما البارزون من الناس فكثيرًا ما يسبقون زمنهم أو يتأخرون عنه، وهم في الأعم يرسمون مُثُلًا إنسانية، أو يرتدون إلى الحالة الطبيعية للإنسان، وليس كذلك أوساط الناس الذين يُعْتَبَرُون بحق بؤرة تنتهي إليها تيارات حاضرهم؛ ومن هنا يجب أن يُعتبر الكاتب الثانوي ظاهرة اجتماعية، ويكون حُكْم الناقد عليه بهذه الصفة غير مجانب للحقيقة. وتفسير الظواهر الأدبية أو المؤلفات أو شخصيات الكُتَّاب يتطلب معرفة بالماضي السابق لهم، ومعرفة بالحاضر الذي يحوطهم، وتحسس للآمال التي كانت تجول بالنفوس في أيامهم، بل وأكثر من ذلك يمكن القول بأنه لا يكفي لفهم كاتب من الكُتاب أن ندرس الكُتَّاب الذين تأثَّر بهم، ولا الظواهر التي أحاطت به، بل لا بد أن تتبع تأثيره هو في لاحقيه؛ إذ كثيرًا ما يكشف اللاحقون أكثر مما وضع الكاتب فيما كتب، وهذا ملاحظ بنوع خاص عند كبار الكُتاب، فلا ريب أن شخصية كشخصية «هاملت» قد أضاف إليها اللاحقون من المعاني، أو اكتشفوا في ثناياها من المرامي القريبة والبعيدة أكثر مما فهم معاصرو «شكسبيير» من هذه الشخصية الخالدة. وعلى أضواء هذه الأنواع المختلفة من الفهم يستطيع الناقد أن يوسِّع من أفقه وأن يتعمَّق في فهمه ﻟ «شكسبير»، ولو أن ناقدًا اكتفى بأن قرأ في تاريخ «الدانماركة» قصة الأمير «هاملت» كما وجدها «شكسبير»، وقارن بينها وبين ما انتهت إليه في مسرحيته، ثم أخذ يحلل ويحكم — لجاء وحكمه ناقصَيْن.
والمنهج التاريخي في النقد مفيد؛ مِنْ حيث إن مَنْ يأخذ نفسه به لا يمكن أن يكتفي بدراسة المُؤلَّف الأدبي الذي أمامه، بل لا بد من أن يُحيط بكافَّة ما أَلَّفَ الكاتب ليكون حكمُه صحيحًا شاملًا. وهذا المنهج من الواجب على كل ناقد أن يرعاه مهما كانت نزعته في النقد: ذاتية أو موضوعية؛ لأنه من الأسس العامة لكل نقد صحيح، وليس هناك ما هو أمعن في الخطأ من أن نكتفي في الحكم على كاتب بقراءة أحد مؤلفاته فقط.
(٤) النقد اللغوي
اللغة هي المادة الأولية للأدب، وهي بمثابة الألوان للتصوير أو الرخام للنحت، بل لا شك أنها ألصق بموضوع الأدب من هذه المواد الأولية لموضوع فنونها؛ وذلك لأن الفكرة أو الإحساس لا يُعْتَبَرَان موجودين حتى يسكنا إلى اللفظ، وكثيرًا ما تكون المشقة في إخضاع الفكرة أو الإحساس للفظ، وأما قبل ذلك فلا وجود لهما على الإطلاق، وكثيرًا ما يكون الخَلْق الفني مستقرًّا في العبارة ذاتها، بحيث إنك لو أعدت التعبير عن الفكرة أو الإحساس لانتهيت إلى شيء مغاير للخلق الفني الأول. فمثلًا الشاعر العربي الذي يقول للتعبير عن وقت الظهير: «قد انتعلت المطيُّ ظلالَها» لا يقصد التعبير عن أن وقت الظهيرة قد حان، بل يقصد خلق صورة فنية؛ وهكذا يتضح أن اللغة لم تَعُد وسيلة للتعبير، بل هي خَلْق فني في ذاته، وإلى مثل هذه الأفكار أشار أحد كبار الكُتَّاب عندما سُئِل: أيهما أهم، اللفظ أو المعنى؟ فأجاب بسؤال آخر: أيُّ شفرتَيِ المقص أقطع؟ وإذا كانت اللغة على هذا الجانب العظيم من الأهمية، فإن الإلمامَ بها إلمامُ إحساس ومعرفة — ولا معرفة عقلية فحسب — هو سر الكتابة وهو هبة الأسلوب؛ وذلك لأن للألفاظ أرواحًا يجب أن تُدْرَكَ. وهكذا يتضح أن معرفة علوم اللغة من نحو وصرف وغيرها ليست كل المعرفة، وإن تكن أساسًا صُلبًا لا يمكن التسامح فيه، وإنما يجب أن نتعدَّى هذه المعرفة إلى المعرفة العاطفية التي أشرت إليها، وهي — وإن يكن مرد معظمها إلى هبات النفس — إلا أنه يمكن اكتساب الكثير منها بطول القراءة والإمعان فيما نقرأ. وتظهر عادةً مقدرةُ الكاتب على الإحساس باللغة في استعماله للصفات إن قسطًا وإن إسرافًا، ومواضع هذه الصفات أيضًا أمر بالغ الأهمية، والمُلاحَظ عند كبار الكُتَّاب أنهم يؤثِّرون ويهزُّون المشاعر بالوقائع المادية وجمعها جمعًا متلاحقًا في تصاعدٍ قويٍّ بحيث لا يُصْدِرُون حكمهم إلا في النهاية وعلى نحو خاطف.
فلو أنك مثلًا — كما يقول المؤرخ «تيير» — أردتَ أن تصف بطولة جيش نابليون في عبور الألب، فأخذتَ تُسْرِفُ في اللفظ، وتنثر هنا وهناك الصخور والثلوج، لما وصلت إلى شيء غير إملال القارئ، وخير من ذلك كله أن تحدِّد الأشياء بدقة، فتذكر عدد الفراسخ التي سارها هذا الجيش، وتصوِّر الأمكنة التي عندها لم تستطع الدوابُّ أن ترتفع، ولم يعد يستطيع الصعودَ إلا الإنسان، ثم تُعطي القارئ أرقامًا وأوزانًا عن العُدَدِ الحربية والذخائر والمؤن التي حُملت إلى تلك المرتفعات الشاهقة، وعندئذٍ — كما يقول «تيير» — إذا افترَّتْ شفتا الكاتب الدقيق عن كلمة إعجاب، فإن هذه الكلمة ستذهب رأسًا إلى قلب القارئ؛ لأن الإعجاب سيكون قد تولَّد بالفعل، ولن تكون العبارة عنه إلا مجرد استجابة لهذا الإعجاب.
والنقد اللغوي يتطلب معرفة صحيحة بتاريخ وتطور دلالات الألفاظ، وبخاصة الصفات والألفاظ العاطفية والمعنوية؛ وذلك لأنه إذا كانت أسماء المادِّيات ثابتةً فإن المعانيَ المعنويةَ والعاطفيةَ دائمةُ التحوُّل، وكثير من الكُتَّاب في كافة اللغات يُجدِّدون من وسائل الأداء برجوعهم إلى المعاني الاشتقاقية للألفاظ، ومن واجب الناقد أن يفطن دائمًا إلى التمييز بين المعنى الاصطلاحي والاشتقاقي؛ حتى لا يُخطئ فهمَ الكاتب أو يحمله ما لا يريد. ولنضرب لذلك مثلًا بلفظة «الزكاة» فمعناها الاشتقاقي هو التطهير، وأما معناها الاصطلاحي فمعروف في الدين الإسلامي، والفرق بين المعنيَيْنِ كبير.
وهناك في النقد اللغوي مسألة جسيمة هي مبلغ الحرية التي يستطيع الكاتب أن يتحرك في حدودها، وفي القرآن نفسه خروجٌ في غير موضع على قواعد النحو الشكلية، ولقد التمس علماء البلاغة لأمثال هذا الخروج مبرراتٍ بلاغية، ولعله يكون من الخير التزمُّت النحوي عند نقدنا للكتَّاب الناشئين؛ حتى لا يُخفون جهلهم خلف بلاغة مدعاة، وإنما يباح الخروج على القواعد لكبار الكُتَّاب الذين لا يعدلون عنها إلا عن قصد وبينة؛ وذلك لأن أمثال هؤلاء يحتجُّ بهم على اللغة، ولا يحتجُّ باللغة عليهم ما دامت اللغة كائنًا حيًّا تتطور وعقليةَ من يتكلمونها. ولقد تميز في الغرب كُتَّاب بما في أسلوبهم من نتوءٍ لا يعدو أن يكون خروجًا على الدارج من الاستعمالات والتراكيب، وهذا النفر يُطلق على الطريقة التي يبنون بها عباراتهم «كسرُ البناء». ومن النقاد وبخاصة في الغرب مَنْ يرون أن اطراد الصحة اللغوية بمعناها الدارج لا يصدر عنه إلا أسلوب مسطح لا جدة فيه ولا رونق له، وهم يؤيدون رأيهم بالحقيقة الإنسانية المعروفة من أن الكمال المطلق مملٌّ في ذاته، وأنه من الخير أن تأخذ الكُتَّابَ من حين إلى حين نزوةٌ من شيطان الأدب تخرج بهم عن التعبير المتوقع المألوف، كما تصيبهم نفس النزوة أحيانًا في مجال الفكر، فلا يأتون بالفكرة التي يوجبها السياق، بل يصدمون القارئ بما لم يتوقع فتصحو أعصابه.
وفي أسلوب القرآن ذاته أمثلةٌ رائعةٌ يمكن أن تُسَاقَ للاستشهاد على هذه الحقائق، وذلك مثل استعماله الإفراد بدلًا من التثنية في قوله تعالى فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى، أو بالإفراد عن الجمع كقوله: وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا، وكذلك تقديم الضمير على ما يفسره في الآية: فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى إلخ.
وإذا كان هناك أسلوب يستحق أن يُحَاربَ من كل ناقد يخدم فنه فإنما هو أسلوب الذاكرة، فالكاتب الذي يكثر من استخدام التعابير المحفوظة التي طال استعمالها؛ حتى هزلت وامَّحَتْ معالمها كالنقود التي يأكلها التَّحَاتُّ من كثرة التداول — لا يوصَف إلا أنه كاتب مصابٌ بالكسل العقلي، ومن واجب الناقد أن يضطرَّه دائمًا إلى أن يبحث — ككاتب — عن تعبيره هو عن فكرته بدلًا من أن يلجأ إلى استعارة ذلك التعبير من كتابة الماضي. ثم إن كثرة استخدام المحفوظ لا بد أن ينحرف بالتفكير عن اتجاهه أو تلوينه العاطفي على الأقل؛ وذلك لأن الأفكار ذاتها — فضلًا عن الإحساسات — لا يجوز أن تخلو من العنصر الشخصي الذي يعطيها جدتها، وكثيرًا ما نلاحظ عند كُتَّاب الذاكرة أنهم يتمحلون الوسائل عند سياق أفكارهم ليمهِّدوا لما يحفظونه. ووجوب تعبير الكاتب عن فكرته أو إحساسه بعبارته الخاصة هو السبيل لإثراء اللغة وتجديدها، وعلى هذا يجب أن يتوفَّر مجهود الناقد، وإنه لمن الحمق أن يُقَالَ: إن ثروة أو غنى لغة ما يتوقَّف على عدد ألفاظها، وإنما ثروة اللغة تُقَاس بالثروة الفكرية والعاطفية، التي استطاعت تلك اللغة أن تعبِّر عنها؛ فالعبرة إذًا بكمية التعابير وتنوُّعها ودقتها لا بكمية المفردات. وآفة اللغة العربية وكُتَّابها بوجه خاص هي عدم الدقة، وكثيرٌ من المؤلِّفين لا يُدركون أن الكتابةَ الجيدةَ هي تلك التي لا تستطيع أن تُحل فيها لفظًا مكان آخر، وليس في اللغات مترادفات، وهذا ما يجب أن يدركه كل كاتب، وتلك قاعدة تصح ويجب أن تصح حتى بالنسبة للصفات التي أصبحت أسماء فلاحت مترادفة كأسماء السيف والأسد وما إلى ذلك، ولنضرب لذلك مثلًا بالمهنَّد والصارم. وعدم الدقة كثيرًا ما يظهر بنوعٍ خاص في استخدام الصفات؛ وذلك بسبب حقيقة لغوية ثابتة هي أن كثيرًا من الصفات لم تَعُدْ صفات تمييز بل صفات درجاتٍ في التعبير، فإنك لو قلت: «جميلًا جمالًا مخيفًا» مثلًا، لكان من الواضح أنك لا تستخدم لفظ «مخيف» لتمييز هذا الجمال، بل للدلالة على درجته؛ حتى لنلاحظ في كافة اللغات أنه قد يُجْمَع بين الأضداد من الصفات نزولًا على هذه الملاحظة، ولكنه بالرغم من هذه الحقيقة يجب محاسبة الكُتَّاب حسابًا عسيرًا على استخدام الصفات بوجه عام؛ لأن نوع الصفات المستخدمة كثيرًا ما يدل على نضوجٍ أو فجاجةٍ في التفكير؛ فالكاتب الفجُّ محمول على المبالغة، والنضوج اتزان في غير ضعف، وقوة في غير إسراف لفظي، مثل هذا النقد لا يمكن أن يكون إلا في مصلحة الكاتب، وكل كاتب لا رأس مال له غير ثقة القارئ، ولا شيء يذهب بهذه الثقة مثل الإسراف.
وأسلوب الكاتب يمزج عادة بين مادة الفكر ومادة الإحساس، ولا يصحُّ للناقد كما لا يصح للكاتب أن يجعلَ من المادَّتَيْن مبدأين مختلفين، ومن الواجب أن نلفت الكُتَّاب دائمًا إلى سر كبير من أسرار الأسلوب وهو أن الكتابة الجيدة هي ما يمر فيها الفكر بالإحساس والإحساس بالفكر؛ حتى ليصح أن يقال: إن الكاتب الجيد يفكر بقلبه ويحس بعقله، وإذا كان هناك خطر على الكاتب من جفاف الفكر، فإن هناك خطرًا لا يقل عن الأول من «طرطشة» العاطفة. والتلوين العاطفي للفكرة قد لا يحتاج إلى تعبير خاص، بل يأتي من طريقة بناء الجملة إن استفهامًا وإن تعجبًا وإن حضًّا وإن تقريرًّا، أو باستخدام أدوات اللغة الثانوية كحروف العطف والاستفهام وما شاكل ذلك، مما تجدونه مفصَّلًا في كتابَيْ عبد القاهر الجرجاني «أسرار البلاغة» و«دلائل الإعجاز».
وأما انتشار الفكرة وسط الإحساس لإضاءته فأمر أشق من الأول، ولكنه مستطاع باستخدام شيء من منهج المنطق، وتأتي الصعوبة من أن للشعور منطقًا يخالف منطق العقل، ولكنها صعوبة تذلِّل بوضوحٍ الرؤية الشعرية أمام الكاتب؛ فالكاتب المهيمن لا يعدم أن يراه بما يشبه الرؤية البصرية، وتمييزه لذلك الإحساس عما يختلط به من أحاسيس ثانوية، ثم تحديده له على وجه دقيق — كافٍ لإعطائه الصفة العقلية التي نتحدث عنها.
والكاتب الجيد قلَّما يستريح إلى أنه استنفد فكره أو إحساسه، وليس من شكٍّ في أن الكتابة صنعةٌ كغيرها من الصناعات، وليس بصحيحٍ أن الشاعر يُغرِّد بالفطرة كالعصفور، فلا بد إلى جانب الموهبة النفسية من إتقان أصول الكتابة، وفي كل مُنشئٍ ناقد كامن. ومن طريف ما يُرْوَى كلمةٌ للكاتب الفرنسي «ديهامل» قالها عن «بلزاك» و«رودان» فقال عن الأول: إنه قد سَوَّدَ مئاتِ الصفحاتِ قبل أن يعثرَ على «بلزاك». أي إنه استمر في الكتابة حتى عثر على نفسه ككاتب ذي شخصية وأسلوب. وقال عن الثاني: «إنه قد اصطفت قدماه سنين طويلة بالغرفة المجاورة لمعمل فنه» أي إنه قد أنفق وقتًا كبيرًا في المِرَان قبل أن يدخل معمله الذي عمل به تماثيله الخالدة.
ومقياس الجودة في صناعة الكتابة مقياسٌ واحد لا نعرف غيره، وهو أن تكون الصنعةُ مُحْكَمَةً إلى حدِّ الخفاء حتى لتلوح طبيعية، وهذا معنى السهل الممتنع، وأوضح ما يكون ذلك في الموسيقى اللفظية، فهناك موسيقى واضحةٌ كاللون الفاقع تسهل محاكاتها، وهذه ليست بأعمق الموسيقى العميقة؛ فهي موسيقى النفس لا موسيقى اللفظ، وكثيرًا ما تخفى على القارئ العادي، ولكنها دائمًا أصيلة، تعز محاكاتها وتفعل في النفس فعلًا لا يعيه غير القليل من القراء.
وليس من شكٍّ في أن للنثر وزنًا وإيقاعًا كما هو الحال في الشعر، وإن كان أخفى وأقل اطرادًا، ولقد درست أوزان النثر في أوربا، كما درست أوزان الشعر تمامًا، والمقصود بالأوزان هو وجود أمرين:
-
(١)
الكم والإيقاع Quantite et Rythme.
-
(٢)
الانسجامات الصوتية Harmonie Vocalique.
الكم والإيقاع:
- الكم: : هو الزمن الذي تستغرقه الجملة في نطقها، ومن الواجب أن تكون هناك نسب بين الجمل المختلفة؛ من حيث كمُّها عن طريق التساوي والتقابل.
-
والإيقاع: عبارة عن تردُّد ظاهرة صوتية، بما في ذلك الصمت
على مسافات زمنية متساوية أو متقابلة.
والإيقاع موجود في النثر والشعر مع فارق جوهري واحد هو: أنه في النثر تتطابق الوحدات الإيقاعية مع الوحدات اللغوية، وأمَّا في الشعر فضرورة المساواة بين الوحدات الإيقاعية كثيرًا ما تقضي بأن تنتهي في وسط اللفظ دون أن تكمل الجملة.
وكل نثر لا بد له من إيقاع ما دام الكلام بطبيعته لا بد أن ينقسم إلى وحدات.
وتتميز أنواع النثر بجمال إيقاعها أو قبحه، وليس الجمال دائمًا في الاطراد، فالاطراد كثيرًا ما يُضني إلى حد الملل، وهذا واضح من الأساليب المصنوعة وبخاصة المسجوعة.
ويميز النقاد بوجه عام بين نوعينِ من الأساليب النثرية؛ هما:
-
(١)
الأسلوب المموَّج Style Perlodique.
-
(٢)
الأسلوب المهشَّم Style Haché.
والأسلوب المموَّج يمتاز بطول جمله.
وأما المهشَّم فتقصر فيه الجمل فتتلاحق.
ولعل في أسلوب القرآن ما يوضِّح النوعين: فالمكي مهشَّم، والمدني مموَّج.
ومن الراجح أن يكون تمييز هذه الأساليب صادرًا عن الموسيقى النفسية لكل كاتب، ويجب أن نحسب أيضًا لموضوع الكتابة حسابًا؛ فمن المسلَّمِ به أن الخطابة غير التقرير.
الانسجامات الصوتية:
نلاحظ أن العرب قد درسوا مخارج الحروف، وطرق النطق بها في علوم التجويد والقراءات. وبالرغم من أنهم درسوا مخارج الحروف، وفطنوا إلى وجود أفعال وأسماء أصوات ترتبط فيها المعاني بوقع تلك الأصوات، وتساهم في نقل المعنى أو الإحساس، وبالرغم من أنهم درسوا انسجام الأصوات في علم الفصاحة؛ من حيث الخصائص السلبية لها من نحو انتقاء التنافر والتعقيد، وبالرغم من أن بعض علماء اللغة قد فطن إلى وجود علاقة إيجابية بين بعض الأصوات ومعانيها على نحو ما لاحظ «الزمخشري» في «الكشاف» من أن الأفعال التي تبدأ بنون وفاء تفيد معنى المضي والنفاذ: كنفد ونفذ ونفق — على الرغم من هذا كله لم يدرس العرب خصائص الأصوات من الناحية الإيجابية، ولم يُبيِّنوا ما توحي به كل مجموعة من الأصوات، وما تعيَّن على نقله إلى الغير من معنى أو إحساس على نحو ما نجد مثلًا في شطر البيت:
ففي الشطر الأول نجد أن المقاطع الطويلة تتكون من مدات، وكان يمكن أن تُسْتَبْدَلَ المدات بحروف ساكنة ويستقيم الوزن، ولكن إحساس الشاعر أبى أن يسكن إلا إلى هذه المدات التي تماشيه في استنفاد إحساسه.
وعلى عكس العرب درس الأوربيون خصائص الأصوات من الناحية الإيجابية، وعلاقة كل مجموعة منها بالمعاني والأحاسيس.