النقد وعلم النفس
الأدب موضوعه الإنسان في ذاته وفي استجابته لما حوله، وهو في هذا شبيه بعلم النفس، ولكن ثمة فرق جوهري بينهما هو: أن علم النفس يتناول الظواهر العامة، أما الأدب فهدفه الأول إدراك العنصر الفردي المميز لكل إنسان عن أخيه.
فالباحث في علم النفس — مثلًا — يتحدث عن الخيال أو العاطفة أو الغريزة كظواهر عامة تشمل الإنسانية كلها، وأما الأديب فإن كان شاعرًا تغنَّى بإحساسه الخاص، وإن كان قصصيًّا صَوَّرَ شخصيات يبرز ما فيها من أصالة؛ حتى إنه ليفرق بين أنواع الشخصيات التي تشترك في لون واحد عام، فتصوير البخيل في رواية «موليير» مثلًا غيره في رواية «أوجين جرانديه» لهونوريه دي بلزاك، فكل كاتب يختار نواحيَ من البخل، وحركات خاصة تتم عنه غير ما اختاره الآخر.
فاستخدام علم النفس في نقد الأدب يجب أن يتم في حذر؛ لأنك بذلك قد تذهب بالأصالة الموجودة في العمل الأدبي، فتفهم الشخصية الروائية — مثلًا — أو تحليل نفسية الشاعر على ضوء قوانين نفسية عامة، لا يصدق إلا في التخطيطات الكلية؛ وذلك لأن النفوس البشرية يستحيل أن تتطابق تطابقًا تامًّا، فهي ليست أوراق شجر، بل إن أوراق الشجر ذاتها لا يصدق عليها مثل هذا التطابق، ومن هنا لا نستطيع أن نلبس هذه الشخصية الروائية أو تلك أثوابًا مجردة يحكيها علم النفس، عندما يستخلص صفات عامة لملكات البشرية المختلفة. فالخيال — مثلًا عند شخصية مفردة لا يمكن أن يكون ذلك الخيال العام الذي يتحدث عنه علم النفس، ولا بد أن يتميز عند تلك الشخصية المفردة بميزات خاصة ترجع إلى عناصر لا حصر لها من الوراثة العضوية والبيئية الطبيعية والاجتماعية، بل وتفاعل ما نسميه خيالًا مع الملكات الأخرى، على نحو لا يزال الغموض يكتنف الكثير من جوانبه.
علم النفس قد يساعد إذًا في فهم نفسية الكُتَّاب وتحليل الشخصيات الروائية التي يخلقها أولئك الكتاب، ولكنه قد يضللنا أيضًا في ذلك الفهم وهذا التحليل.
وفضلًا عن كل ذلك نود أن نقرر ما سبق أن أوضحناه غير مرة في كتبنا ومقالاتنا من أننا حتى عندما نُسلم بإمكان الاستفادة من علم النفس في دراسة الأدب، فإننا نحذر الحذر كله من أن ينتهي الأمر بإقحام مصطلحات علم النفس، وما يمكن أن يكون قد استنبطه ذلك العلم من قوانين عامة على الأدب ودراسته. ومن البديهي أنه في استطاعتنا أن نفهم ونحلل العناصر النفسية الفريدة ذاتها دون استخدام للمصطلحات الضخمة والقوانين الطنانة؛ وذلك لأن فهمَ النفس البشرية شيء، وعرضَ نتائج أبحاث علماء النفس أو إقحامها على الأدب شيء آخر.
ومع ذلك فإن ما يمكن أن يأخذه علم النفس عن الأدب أكبرُ وأعمقُ وأجدى مما يجوز أن يُقحم على الأدب من الدراسات النفسية؛ وذلك لأن علم النفس يستطيع أن يجد الغيرة الجنسية متفاعلة مثارة عند «عطيل» — مثلًا — على نحو قلما يستطيع علماء النفس أن يصلوا إليه بالاستبطان الذاتي أو بالملاحظة الخارجية، فضلًا عن الطرق التجريبية التي قلما تجدي في مثل تلك المعنويات، وباستطاعة علم النفس عندئذٍ أن يخلص الغيرة عند «عطيل» مما يداخلها من عناصر غريبة عنها طارئة عليها، كعناصر الجنس التي يرجع إلى انتماء «عطيل» إلى شمال إفريقيا، وعناصر العقد النفسية التي وَلَّدَتْهَا في نفسه خصائص طبيعية أو اجتماعية كسواد بشرته، أو احتقار الجنس الأبيض له. وعندما تتم عملية التخليص هذه قد يستطيع علم النفس أن يصل إلى الخطوط العامة التي تتميز بها عاطفة الغيرة الجنسية، أو العناصر التي تتكون منها، وإن لم يكن من المتصور أن توجد مثل تلك الغيرة المجردة في واقع الحياة مستقرة في نفس بشرية مفردة.
وهكذا يتضح كيف أن علم النفس العام قد يضلل الناقد الذي يحاول إقحامه على ما ينقد، كما يتضح كيف أن الشعراء والأدباء كثيرًا ما يكونون أصدق فهمًا، وأدق تحليلًا لنفس بشرية بذاتها من علم النفس الذي يصف ظواهر نفسية عامة لا وجود لها في واقع الأفراد.
وعلى ضوء هذه الحقائق يمكن وضع حدود لدى استخدام الأدباء لعلم النفس واستخدام علماء النفس للأدب.