المذاهب الأدبية
في العصور القديمة لم تُعْرَف المذاهب الأدبية، كما لم تعرف في العصور الوسطى، وإنما أخذت تتكون ابتداء من عصر النهضة.
ونقصد بالمذاهب الأدبية من الناحية النظرية المذاهب التي وضع أصولها الشعراء أو الكُتَّاب أو النقاد، وبيَّنُوا الأصول النظرية التي تقوم عليها.
لا شك أنه منذ العصور القديمة قد تباينَت اتجاهات الأدباء تبعًا لتباين طبائعهم الفردية؛ فكان منهم الواقعي والمثالي والمتفائل والمتشائم والأخلاقي والمستهتر، ولكنه لم توجد في تلك العصور مدارس أدبية، كما وُجِدَتْ فيما بعد الكلاسيكية والرومانتيكية والفنية والرمزية والواقعية والطبيعية.
والذي تجب الفطنة إليه عند البحث في نشأة المذاهب الأدبية هو ألَّا نتصور أنه قد قصد إلى خلقها، فوَضَعَ الشعراء أو الكتاب أو النقاد أصولها من العدم، ودعوا إلى اعتناق تلك الأصول؛ وذلك لأن الحقيقة التاريخية هي أن المذاهب الأدبية حالات نفسية عامة وَلَّدَتْها حوادث التاريخ، وملابسات الحياة في العصور المختلفة، وجاء الشعراء والكتاب والنقاد، فوضعوا للتعبير عن هذه الحالات النفسية أصولًا وقواعد يتكون من مجموعها المذهب، أو ثاروا على هذه القواعد والأصول لكي يتحرروا منها؛ وبذلك خلقوا مذهبًا جديدًا على نحو ما ثار الرومانتيكيون على الكلاسيكية، فتلك الثورة إنما وَلَّدَتْها حالة نفسية لعبت فيها دورًا كبيرًا قبل أحداث الثورة الفرنسية وظهور «نابليون»، ثم هزيمة ذلك القائد العظيم، وما نزل بفرنسا من كوارث على أثر تلك الهزيمة، مما وَلَّدَ في نفوس الشبيبة الناهضة مرارةً وتمردًا وتبرمًا وشكوى من الحياة؛ هي ما تتميز به الرومانتيكية من ناحية المضمون، كما تتميز بالثورة على أصول الكلاسيكية وقواعدها من ناحية الشكل.
(١) الكلاسيكية Classicisme
ومن هنا تتشعَّب معاني الكلاسيكية، وأخص تلك المعاني اثنان:
-
(١)
عندما يُسْتَعْمل اللفظ كصفة للحكم على مؤلف أدبي، فيقال: إنه كتاب أو رواية كلاسيكية، بمعنى أنه كتاب جيد يجب أن يستخدم في تربية الناشئين.
-
(٢)
المعنى الاصطلاحي للدلالة على نوع بذاته من الأدب ظهر في القرن السابع عشر في فرنسا — بنوع خاص — ولهذا الأدب خصائص ومميزات هي التي نريد أن نجلوها ونتحدث عنها.
يمتاز الأدب الكلاسيكي، أعني أدب القرن السابع عشر بالمميزات الآتية:
-
(١)
أنه يستوحي الآداب اللاتينية واليونانية، ويستمد منها مادته.
-
(٢)
أنه أدب يصدر عن العقل ويحكمه، والعقل أهم صفاته الاعتدال والوضوح.
-
(٣)
العناية بالصياغة وتجويد الأسلوب.
-
(٤)
خضوعه لأصول وقواعد، وقد جمع «بوالو» الناقد الفرنسي تلك الأصول والقواعد في قصيدة تُسَمَّى فن الشعر l’art Poetique كتبها محاكاةً للشاعر اللاتيني «هوراس Horace» في كتابه Ars Poetrica أي فن الشعر أيضًا.
(١-١) استيحاء القديم
(١-٢) الأسلوب
والأدب الكلاسيكي إذا قورن بالرومانتيكية من حيث الأسلوب كان المقصود بالمقارنة أن الكلاسيكية تحترم قواعد اللغة وأصولها، كما استقر عليها العرف وقنن لها النجاة.
وأما الرومانتيكية فتميل إلى التجديد، ولو كان ذلك بالخروج على المواضعات اللغوية، وذلك طبعًا مع سلامة القواعد الأساسية التي لا تستقيم لغة بدونها، فالرومانتيكية قد تخرج باللفظ مثلًا عن معناه الاصطلاحي إلى معناه الاشتقاقي أو العكس، وهي قد تكسر بناء الجملة لتوليد تأثير خاص في نفس القارئ، أو إثارة شعور معين، أو تصحيح موسيقى الجملة أو تنويعها.
الكلاسيكية إذن مذهب الاطراد في التعبير بل مذهب الكمال. والاطراد حتى في الكمال مُضْنٍ، وربما كان خيرًا منه في بعض الأحيان نزوات الشيطان (شيطان الشعر أو النثر) أو لمحات العبقرية التي تساير الإحساس وتخرج على ما يشبه العقل.
والكلاسيكية أيضًا بالمقابلة مع الرومانتيكية أدب عقلي يقصد إلى الحقائق العامة لا إلى حالات النفس الفردية، وتنتج عن ذلك نتيجة كبيرة هي أن معظم الإنتاج الكلاسيكي في الأدب كان مسرحًا، بينما الجانب الأكبر من الأدب الرومانتيكي غنائي؛ وذلك لأن الأدب الغنائي هو الوعاء الذي يسكب فيه الشاعر أحاسيسه الخاصة، بينما هو لا يستطيع ذلك إلا بمقدارٍ وبطريقٍ غير مباشرة في الروايات المسرحية.
ولهذا غلب على الأدب الرومانتيكي الطابع الشخصي؛ حتى أصبح لهذا اللفظ في أفواه الواقعيين اليوم معنى مرذولٌ إلى حد ما؛ هو الإسراف العاطفي والمبالغة في عرض النفس على الغير بدون حياء؛ وذلك لأن النفس التي تنفق كل ما فيها لا تلبث أن تخلو من الأسرار وسحرها، وإذا بها مفلسة.
والأدب الكلاسيكي إذا عورض أيضًا بالرومانتيكية لم يكن أدب أصول في الأسلوب فحسب، بل وأصول أيضًا في التأليف الفني، ويكفي هنا أن نرجع إلى القواعد التي تخضع لها المسرحية الكلاسيكية، ثم نضيف أن الرومانتيكية قد ثارت على هذه القواعد كلها وحطمتها؛ حتى ليمكن القول بأن الرومانتيكية كانت في جوهرها حركة هدم للكلاسيكية.
ولقد صحب نشأة الرومانتيكية تحدٍّ ظاهر، بل ومعارك يدوية ضد الكلاسيكيين وأنصارهم في القرن التاسع عشر، وكتب الأدب تقص في إمتاع معركة «هرناني» الشهيرة، وقد كان على رأس الرومانتيكيين في تلك الليلة الشهيرة بمسرح الأديون بباريس — الكاتب المعروف «تيوفيل جوتييه»، وقد ارتدى صدارًا أحمر، واصطحب معه المتحمِّسين للرومانتيكية، وبيد كل منهم جمجمة شربوا فيها النبيذ داخل المسرح تحديًا للكلاسيكية، ورمزًا للخروج على كافة القواعد والأصول المرعية، حتى ولو كانت موضوعات اجتماعية.
والأدب الكلاسيكي كما أنه لم يكد يخلف شعرًا غنائيًّا كثيرًا، كذلك لم يترك شعرًا قصصيًّا يُذْكَر؛ إذ كان جله شعرًا مسرحيًّا كما قلنا، وعلى العكس من ذلك الأدب الرومانتيكي، فإنه وإن يكن قد أكثر من الشعر الغنائي، إلا أنه قد طرق كافة فنون الأدب الأخرى، ويكفي أن نذكر من أدب الملاحم «أسطورة القرون» لفيكتور هيجو، فهي قصيدة من آلاف الأبيات، يستعرض فيها حفلًا من أنواع البطولة التي قام بها كبار القواد منذ «شارلمان» إلى «نابليون».
(٢) الرومانتيكية Le Romatisme
- (١)
الثورة الفرنسية.
- (٢)
الاتصال بالآداب الألمانية والإنجليزية على أثر الهجرات التي سبَّبَتْها تلك الثورة، فالثورة الفرنسية قد أثارت ضمائر البشر، كما أظهرت الشخصية البشرية وسط الجموع، واعترفت للفرد بحقوقه، ولقد كانت من القسوة والعنف بحيث تركت آلامًا كما فَرَّجتْ كروبا، وكل هذا من صميم المذهب الرومانتيكي؛ فهو مذهب عاطفي يتغنى بآلام الإنسان وأحيانًا بمسراته، وهو أدب شخصي يهتمُّ بمشاعر الفرد الخاصة ويترنَّم بها، وهو مذهب قليل الاحتفال بمجاراة العقل والخضوع لأحكامه؛ ولهذا يكثر فيه التغني بجمال الطبيعة التي يتعزى بجمالها الناس عن آلام الحياة.
فالطبيعة عند الشاعر الرومانتيكي معبد يأوي إليه ليستجم عندما تقسو الحياة، وإن يكن منهم من رأى في خلودها وفنائنا معنى جارحًا، ولكم تغنَّى أولئك الشعراء بجلال الألم البشري، فقال «ألفريد دي فيني»: «إني أحب الألم البشري»، وقال «ألفريد دي موسيه»: «المرء طفل مُعَلِّمُهُ الألم»، وقال: «لا شيء يسمو بنا إلى العظمة كما يسمو الألم»، ولقد أسرفوا في هذا الاتجاه حتى كاد إحساسهم يقرب من المرض.
ويلحق بذلك تغنيهم بجمال الأطلال.
ثم ذلك الإحساس الغامض الشائع المعروف في تاريخ الآداب بمرض العصر، وهو عبارة عن إحساس بالضيق، ينشأ في النفس من عدم القدرة على التوفيق بين ما نأمل وما نستطيع؛ فالإنسان يأمل عادة أكثر مما تستطيع قدرته، وإنه وإن تكن الحكمة قد تقضي أحيانًا بأن يحاول الإنسان تغيير طبيعته بدلًا من أن يحاول تغيير طبيعة العالم والأشياء، إلا أن هذا الحل عسيرٌ دائمًا على النفوس؛ لما فيها من نزوع إلى التسامي، وعن هذه الحقيقة تنشأ آلام نفسية كثيرة، والتعارض ليس مستقرًّا بين آمال الإنسان وقدرته فحسب، بل هو مستقر أيضًا بين الفرد ومحيطه، وبخاصة عند الأفراد الذين ابتلاهم الله بشيء من الحساسية، وعن هذا التعارض تنشأ آلام أخرى.
ولما كان الفكر يغذي الألم عندما يتناوله بالتحليل أو الكتابة، فقد استفحل هذا الإحساس عند شعراء هذا العصر؛ حتى أصبح ظاهرة عامة هي «مرض العصر».
ويماشي هذه الأحاسيس نظرة الرومانتيكية للطبيعة، ومن المعلوم أن الإغريق القدماء — الذين نفثوا الحياة في كل شيء — قد ملئوا الطبيعة بالكائنات الخرافية، فقالوا: إن للغابات والأنهار والينابيع والمروج وما إليها آلهةً خالطوها وخالطتهم، وخلعوا عليها مشاعر الإنسان.
ولما كان من الطبيعي أن نلتمس الهدوء فيما يُحيطنا من أشياء لنستجم؛ فقد ثار الرومانتيكيون على هذه النظرة الإغريقية، وفضلوا النظرة المسيحية، وقال في ذلك شاتوبريان — الذي مهد لهذه النظرة في أوائل القرن التاسع عشر أقوى تمهيد — ما معناه: إن المسيحية طردت من الطبيعة ما ملأها به الإغريق من كائنات خرافية، وردت إليها صمتها الأبدي، فأصبحت بحق معبد الله. وهذا شعور طبيعي سبق إليه القرن الثامن عشر «جان جاك روسو» في كتابه عن التربية المُسَمَّى «إميل»، فهو لا يريد أن يبصر تلميذه بحقائق الدين قبل أن يبلغ رشده، وهو لا يلقِّنه هذه الحقائق داخل جدران أربعة، بل يقوده إلى أعلى جبال السافوا؛ حيث يوحي جلال الطبيعة بوجود الله، وهناك يكشف له عن سر الإيمان.
والمذهب الرومانتيكي مذهب وقدة في الإحساس، وكل إحساس قوي يمس طبيعة الإيمان الديني؛ حتى ليحار النقاد أحيانًا عندما يحمى نفس الشعراء أو الكتاب — في التمييز بين التصوف والتهتك، فلا يدرون أيصدر الشعراء عن ضرورات الطبيعة البشرية الحسية سافرة أو متنكرة، أم يصدرون عن إشعاع روحي، وهذه ظاهرة كثيرة الحدوث في الشعر الرومانتيكي حيث العاطفة الجامحة.
ولقد كان من الطبيعي أن يتأثر هؤلاء المنفيون بروح الشكوى، بل والتشاؤم التي تعم الاتجاه الرومانتيكي، فشاتوبريان مثلًا في أخريات حياته يستعرض ماضيه، فيقول: إنه قد «تثاءب» الحياة؛ ليعبر عن أنه قد عاشها مملة مشئومة، وفي موضع آخر يقص تاريخ حياته، فيتحدث عن الغرفة التي «أنزل» فيها أهله به الحياة؛ أي نكبوه بها.
هذا هو الاتجاه العام في الأدب الرومانتيكي، وتلك هي المشاعر التي تغذِّيه، ولكنه من البيِّن أن كبار الشعراء لم يقصدوا إلى ذلك عن عمد، فَهَمُّ الشاعر الكبير أولًا هو الإفصاح عن نفسه كيفما كانت تلك النفس، وليس بمعقول أن يحيد كبار الشعراء عن حقائقهم النفسية إلى اتجاه ما ليتصلوا بمذهب أدبي بعينه؛ ولهذا قلنا ونكرر أن المذاهب الأدبية حالاتٌ نفسيةٌ تشيع في عصر من العصور، فيصدر عنها الشعراء والكتاب ولكنها لا تصطنع؛ ولذلك مات جانب كبير من الأدب الرومانتيكي، الذي كتب عن صنعةٍ حتى ليصفه النقاد بأنه «إنشاء»، ومن هذا جانب كبير جدًّا مما كتبه بعضٌ من كبار الشعراء أمثال «بيرون»؛ حيث نجد اللفظ المسرف والإحساس المصطنع.
وخلاصة ما سبق أن الرومانتيكية التي مَهَّدَتْ لها في فرنسا آلامُ الشعب الفرنسي وشكواه من النظم الاجتماعية، التي كانت سائدةً قبل الثورة الكبيرة — قد أصبحت مذهبًا أدبيًّا عامًّا عندما تحققت الحالة النفسية التي توجبه بعد قيام الثورة الفرنسية وظهور نابليون، ثم انهياره وخيبة الآمال التي صاحبت هذا الانهيار في نفوس الشبيبة الناهضة الطامحة؛ فكان مذهب الشكوى، ومرض العصر، والتغنِّي بالأطلال، والاطمئنان إلى سكون الطبيعة، والتعبير عن المشاعر الخاصة، والتوغُّل في الإحساس إلى حد التصوف، وكل هذه مشاعر ولدتها ظروف الحياة ثم غذاها النقل عن البلاد الجرمانية، ألمانية كانت أم إنجليزية، عندما عاد من النفي كُتَّاب كبار أمثال: «شاتوبريان» و«مدام دي ستايل».
(٣) الواقعية Le Realisme
إذا عارضنا الواقعية بالمثالية استطعنا أن نقول: إن المذهب الواقعي قديم جدًّا؛ وذلك لأننا نظن أن من الواضح وجود نوعين متميزين من طبائع الناس، فمنهم المثالي ومنهم الواقعي: فالمثالي رجل لا يحب أن ينغمس في الواقع عن قرب، ويؤثر أن يحلق بالخيال، وأن يتحدث عن أمانيه، ولقد يُخيل إليه فرط حماسته لتلك الأماني أنها حقائق. ومن المعلوم أن رغبات النفس قد تبلغ أحيانًا من القوة بحيث تختلط بالواقع؛ فلا يستطيع صاحبها أن يميز بينها وبين الحياة، وهناك ظواهر نفسية عجيبة، فقد يتصور المرء أمانيه ذكريات، ولقد يختلط الماضي بالمستقبل، ولقد يبلغ النفور ببعض النفوس حدًّا لا تستطيع معه أن ترى ما في الواقع من قبح، فتظن أن باستطاعتها أن تحيله جمالًا إذا مسته بجناح الخيال.
وعلى العكس من ذلك الواقعيون، فهم شديدو الفطنة إلى ما يحيط بهم، حريصون على تسجيله كما هو وتناوله بالنقد والتجريح، وهم أميل إلى التشاؤم والحذر وسوء الظن؛ لأنهم في الغالب يصدرون عن فكرة سيئة عن البشر، بل وعن النظام الكوني.
وأوضح ما يكون هذان الاتجاهان — المثالية والواقعية — في المقارنة بين الأدب الجاد والهزلي، وقد لوحظ دائمًا أن المثالية لا تكاد توجد إلا في الأدب الجاد، وأما الواقعية فهي قوام الأدب الهزلي؛ فالأشعار المعروفة بأشعار الفروسية مثلًا في القرون الوسطى غارقة في المثالية؛ حيث يتغنى الشعراء بجمال المرأة وجمال رعاية الرجل لها، وجمال الخلق المهذب والطبع الدمث، حتى لقد سُمِّيَت الروح التي يصدر عنها مثل هذا الشعر بروح الفروسية أي شهامة الرجال في موقفهم من النساء بنوع خاص.
وعلى العكس من ذلك الأشعار والقصائد الهزلية التي تسخر من الأخلاق المنحلة أو الصفات المنفرة مثل «رواية الثعلب» في الأدب الفرنسي أثناء القرون الوسطى، فهي تجري على ألسنة الحيوانات، وفيها نقد مر لمعايب البشر؛ وهذا شعر واقعي.
ومن هنا سارت الواقعية خلال هذا القرن بأكمله جنبًا إلى جنب مع الرومانتيكية بل واختصمتا.
وإذا كان «فيكتور هيجو»، و«ألفريد دي موسيه»، و«وألفريد دي فيني» و«لامارتين» قد مثَّلوا الرومانتيكية، فإن «بلزاك»، و«موباسان»، و«هنري بيك» ومن نحا نحوهم قد مثَّلوا الواقعية أقوى تمثيل.
ولما كان الكشف عن أسرار الواقع وحقائقه والتعمُّق في الفهم خليقًا بأن ينتهيَ بالمرء إلى التشاؤم وإساءة الظن بالناس والأشياء؛ فقد كان من الطبيعي أن ينزلق المذهب الواقعي إلى معناه الاصطلاحي الذي يُفْهَم منه الآن، وهذا المعنى هو الاتجاه بالأدب — والمسرح جزء منه — نحو الكشف عن الشرور والآثام الكامنة في النفس البشرية. فعندما يتحدث النقاد عن واقعية «بلزاك» أو «موباسان» إنما يقصدون قسوتَها على البشر وردَّ تصرفاتِهم إلى بواعث لا تشرف، حتى ولو اتخذت مظهرًا براقًا يختلط بالكرم النفسي، ولقد كتب «بلزاك» ما يقرب من مائة وخمسين رواية جمعها في آخر حياته في مجموعات بحسب موضوعاتها، وصوَّر فيها كافة المهن والأوضاع الاجتماعية والطبائع المتباينة، وأطلق عليها اسمًا عامًّا هو «الكوميديا البشرية»، وفيها نجد البخل والخسة والوصولية والخداع والنفاق والوقاحة … إلخ.
(٤) الطبيعية Le Naturalisme
وقد حدث بعد انتهاء حرب ١٩١٤ ارتدادٌ نحو الروحية وعناية بالجانب النفسي الخاص من الإنسان؛ بحيث لم تعد هناك سيطرة لمذهب الطبيعية أو الفرويدية في العصر الحاضر، وإن كانت قد شغلت المسرح إلى ما بعد تلك الحرب، وكان من أكبر العقول التي ردت هذا التيار عقل «برجسون» الفيلسوف الفرنسي الذي تقوم فلسفته على مذهب الحس الباطني.
(٥) الرمزية Le symbolisme
ليس للرمزية كمذهب أدبي نفسُ المعنى في الشعر الغنائي وفي الأدب المسرحي، ومعناها في الأدب المسرحي — كما سنرى فيما بعد — علاج مشكلة نفسية أو أخلاقية أو اجتماعية عن طريق التجسيم، سواءٌ أكان هذا التجسيم من ابتكار خيال الكاتب، أم باستخدامه للأساطير على نحو ما نرى في تمثيليات إبسن أو مترلنك.
وأما في الشعر الغنائي فقد ظهرت الرمزية في فرنسا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر في الوقت الذي ظهر فيه مذهب «البرناسيين» ومذهب «الفن للفن»، وكان ظهور هذه المذاهب الثلاثة كرد فعل للرومانتيكية التي أسرفت في استخدام الأدب، وبخاصة الشعر كوسيلة للتعبير عن المشاعر الشخصية والعواطف الخاصة.
وكان رائد الرمزية الشاعر الُمقِل الرائع «استيفان مالرميه»، وتبعه في ذلك تلميذه الكبير «بول فاليري»، والرمزية عندهما ترمي إلى الإيحاء بدلًا من الإفصاح، والتلميح بدلًا من العرض، وسبيلها الأول إلى ذلك هو الموسيقى، التي تنبعث من جرس الأصوات وانسجاماتها وموسيقى التراكيب، مع فطنة دقيقة إلى وقع العناصر الموسيقية المختلفة وارتباطها بالمعاني المتباينة. ولما كانت هذه الوسائل لا تبلغ حد الإفصاح المباشر، وكان أصحاب هذا المذهب لا يحرصون هم أنفسهم على هذا الإفصاح، فإن شعرهم يكتنفه غموض كثيف وإن كانت معانيه وإيحاءاته بالغة العمق، وكانت نغماته دقيقة الفن محكمة البناء.
وإن يكن من المستحيل ترجمة مثل هذا الشعر الذي يعتمد — كما قلنا — على موسيقى اللغة، إلَّا أننا مع ذلك ننقل إحدى قصائد مالارميه كأنموذج للشعر الرمزي الجيد، ولتكن قصيدة «البعث»:
فالشاعر لا يفصح في هذه القصيدة عن إحساساته الخاصة بطريق مباشر؛ حتى ليلوح أنه يعكس الأوضاع، ويقلب المواضعات، ومع ذلك ينجح نجاحًا رائعًا في خلق ذلك الجو النفسي، الذي يشيع في نفسه ويود أن ينقله لنا، جو الملل المتجانس مع جو الشتاء؛ حتى ليلوح له ذلك الشتاء ضاحيًا بينما يتمطى العجز بجسمه ويحفر برأسه قبرًا لأحلامه، ويعض الأرض الساخنة التي تنبت النرجس، وبالرغم من كل ذلك لا يفقد الشاعر أمله، فزرقة السماء تعود إلى الابتسام، والعصافير ترفرف في ضوء الشمس، ولعله الربيع الناهض، ولعلها القدرة تثب مكان العجز المتمطي.
(٦) الفنية L’art Pour L’art
لقد قال أنصار هذا المذهب بأن الشعر فن جميل؛ ولذلك يجب أن يكون غاية في ذاته، فلا يُسْتَخْدَمُ كوسيلة للتعبير عن المشاعر الخاصة، بل يعمل لخلق صور وأخيلة وإحساسات جميلة في ذاتها، وهذا هو ما يقصدون إليه من عبارة الفن للفن، وكان من الطبيعي أن يكون الوصف هو المجال الذي يتحقق فيه المذهب.
وعلى ضوء هذه النشأة التاريخية نستطيع أن نتبين إلى أي حد يخطئ من يظنون أن «الفن للفن» معناه الخروج على قواعد الأخلاق والآداب الاجتماعية، فهذا المذهب الذي يسعى إلى تغذية حاسة الجمال في الإنسان لا ندري كيف يمكن أن يقصد إلى تمزيق الأخلاق، مع أن الأخلاق كثيرًا ما تخدم الجمال، ومن البيِّن أن المرأة في ثوب منسجم أجمل منها عارية، والأدب المكشوف يغلب أن ينفر منه النفس؛ لأن الحياء جمال والتبذل قبح.
وإذا كان هناك مَنْ لا يخلو نقدهم لمذهب «الفن للفن» من وجاهة، فهم الاشتراكيون الذين يريدون أن يتخذوا الأدب سلاحًا للكفاح وتحريك الجماهير؛ لكي تتلخص من أمراضها الاجتماعية وبخاصة مرض الفقر؛ فهم لا يطيقون أن يلزم الشعراء أبراجهم العاجية ليصفوا الورد والرياحين، ولكنهم في ذلك مسرفون؛ لأنه من الواجب أن يُحْتَرَمَ كل نشاط للروح البشرية. وحاسة الجمال عند الفرد في حاجة إلى التغذية، كما أن إرهاف الحس وتهذيب الذوق كفيلان بأن يرفعا من مستوى البشر، وأن يُوقظا الإحساس بحقوق الفرد وواجباته، وليس من المعقول أن يُسْجَنَ الأدب، والشعر بنوع خاص — في منطقة الكفاح، وأن يتخلى عن كافة وظائفه الأخرى.
و«الفن للفن» يلعب في الحياة النفسية دورًا هامًّا؛ إذ يفتح القلوب والعقول لجمال الطبيعة فيزداد اطمئنان الفرد إليه وسكونه إلى رحابها، وهو بمثابة واحات نلقاها في وعثاء الحياة على طول شوطها المضني. ومن البَيِّن أن من وظائف الأدب أن يسلبنا — ولو إلى حين — جانبًا من همومنا، ويعزينا عن قسط من آلامنا، والفن للفن لا يؤدي هذه الوظيفة فحسب، بل ويؤديها مع تغذية حاسة الجمال التي تنهض في حياتنا بدور أبعد أثرًا مما توهم الملاحظة السطحية.