في النقد المسرحي
(١) أنواع المسرحيات
منذ القِدَم ظهرت التراجيديا إلى جوار الكوميديا، فعند اليونان كان النوعان يُحْتَفَلُ بهما لمناسبة الأعياد التي تقام للإله «ديونيسوس»، وإن مَثَّلَ كل منهما حدثًا أو معنى مختلفًا في حياة ذلك الإله، ومن هنا تميز النوعان: تراجيديا: مأساة حزينة، وكوميديا: مهزلة ضاحكة.
ولقد جرى الناس على النظر إلى خاتمة كل منهما؛ ليحكموا بأن المسرحية تراجيديا أو كوميديا، ولكن هذا المقياس ليس صحيحًا على إطلاقه، فمن التراجيديا ما ينتهي بسلام كرواية «الخيرات» لأيسكيلوس؛ إذ تنقلب آلهة الانتقام التي ترمز لوخز الضمير إلى آلهة رحمة خيِّرة تعفو عن الذنب، وتتقبَّل التوبة في معبدها الذي أُقِيمَ على ساق الأكروبول. وإذن فهذا المقياس لا يكفي، ولربما كان أصح منه ما ذكره «أرسطو» من أن التراجيديا تمتاز بنبلها، نبلًا في الأسلوب الشعري، ونبلًا في الشخصيات التي يصورها الشاعر، فأسلوبها لا ابتذال فيه، وهو أبعد ما يكون عن لغة الحديث الدارجة، أسلوب أدبي مصنوع: مفرداته منتقاة، وتراكيبه محكمة، وصوره بعيدة المنال، وشخصياته آلهة أو أمراء أو أبطال. وعلى العكس من ذلك الكوميديا، فأسلوبها دارج في غير الأجزاء الغنائية التي يغنيها الكورس، وهي مليئة بالألفاظ الشعبية، بل ألفاظ الشوارع والطرقات والأسواق، والكثير منها مسف يجرح الحياء، وشخصياتها من أفراد الشعب العاديين فلا آلهة ولا أمراء ولا أبطال بل بائعو الخضر وأشباههم.
وإذا كان «يوربيدس» قد نَمَّى العنصر الإنساني في تراجيدياته، وَأَنْزَلَنَا من قمم الآلهة إلى مستوى البشر؛ فَصَوَّرَ العاديين من الناس — إلا أن البون ظل شاسعًا بين طريقة تصويره ولغة حواره واختياره لشخصياته، وبين ما فعله «أرستوفان» في الكوميديا.
- (١)
الكوميديا القديمة: ويمثلها «أرستوفان».
- (٢)
الكوميديا المتوسطة: ويمثلها «فيلامون».
- (٣)
الكوميديا الحديثة: ويمثلها «ميناندر».
فأما القديمة فكانت كلها نقدًا اجتماعيًّا لاذعًا، وكانت روحها محافظة على التقاليد، ومهاجمة للروح الفلسفية النامية، التي أخذت عندئذٍ تعمل في تلك التقاليد فتقوضها، وهذه الروح أوضح ما تكون في كوميديا «السحب»، حيث يهاجم «أرستوفان» «سقراط» أعنف الهجوم، وقد جعله زعيمًا للسوفسطائية مع أن «سقراط» — في نظر التاريخ الصحيح — كان من أعدائها، ولقد ساهمت هذه الكوميديا في مأساة «سقراط» إذ هيأت الأذهان لقبول الحكم عليه بالإعدام.
وأما الكوميديا المتوسطة أو الاجتماعية فهي تصور حالات اجتماعية من تلك التي تلابس الأفراد، تصور مصارعًا أو بائعًا أو مدرسًا، وتظهر الصفات التي تولدها المهن المختلفة والحالات الاجتماعية المتباينة، ولكنها لا تنقد ولا تدعو إلى اتجاه تفكيري أو أخلاقي بذاته.
(١-١) طبيعة المسرحية اليونانية
نلاحظ أن المسرحية اليونانية تختلف اختلافًا كبيرًا عن المسرحية الحديثة؛ بحيث لم يعد لها شبيه على الإطلاق في الأدب الحديث، فلا هي تقتصر على الحوار والحوادث والحركة المسرحية كما يقتصر التمثيل الحديث، ولا هي تقتصر على الغناء والموسيقى كما تقتصر الأوبرا والأوبريت الحديثة، وإنما هي مزيج من التمثيل والأوبرا؛ إذ تجتمع فيها أربعة فنون: الغناء، والرقص، والموسيقى، والحوار.
ومن الواجب أن نلاحظ فارقًا كبيرًا بين الأجزاء الغنائية في المسرحية اليونانية والغناء في الأوبرا والأوبريت الحديثة: ففي الأوبرا والأوبريت الحديثة تطغى الموسيقى والغناء على الشعر؛ بحيث لا يأبه أحد — بنوع خاص — لهذا الشعر، ولا يحرص على فهمه أو متابعته، وإنما ينصت الناس للموسيقى ولصوت المغني. ولا أدل على ذلك من أن كبار المؤلفات الأدبية أعيد تأليفها للموسيقى على نحو مبسط هزيل كما فعلوا في رواية «فاوست» مثلًا؛ إذ وضع كتيب صغير أخذت مادته من مسرحية مارلو الشهيرة، ولم يُقْصَدْ في تأليف هذا الكتيب إلا مصاحبة موسيقى «جونو»؛ فالموسيقى هي المقصودة بالذات، أما الحوار فشيء ثانوي ولا قيمة له غير إعطاء مادة للصوت؛ وهكذا في غيرها مثل «آلام فرتر» حيث نجد أن المعبر الحقيقي عن جو الرواية النفسي، ومغزاها الإنساني هو الموسيقى لا الحوار.
وإذن فالمسرحية اليونانية نوع قائم بذاته.
(١-٢) طبيعة المسرحية اللاتينية
- (١)
التراجيديا ذات الخصائص الذي ذكرناها.
- (٢) ثلاثة أنواع من الكوميديا:
- (أ)
كوميديا نقد.
- (ب)
كوميديا اجتماعية.
- (جـ)
كوميديا الشخصيات.
- (أ)
وبسقوط روما سنة ٤٥٦م اندثر العالم القديم بثقافته، وابتدأت القرون الوسطى من سقوط روما إلى فتح القسطنطينية سنة ١٤٥٣م.
(١-٣) المسرحية في القرون الوسطى
(١-٤) عصر النهضة
وفي عصر النهضة حدث ارتداد إلى الآداب القديمة وبعث له، وابتدأ هذا العصر بسقوط القسطنطينية على يد الأتراك وتحويلها إلى بلاد إسلامية، فهاجر العلماء المسيحيون إلى إيطاليا في أول الأمر ومعهم المخطوطات القديمة واستقروا بمدنها، وهناك أخذوا ينشرون هذه المخطوطات، ولم يقف مجهودهم على الفلسفة، بل امتد إلى الأدب والتاريخ، فنشرت نصوص: «هوميروس»، و«سوفوكل»، و«أوربيديس»، و«هيرودوت» وغيرهم؛ وكذلك عرفوا المسرحيات الإغريقية القديمة وفضلوها على أنواع المسرحيات التي كانت معروفة في القرون الوسطى، والتي أخذت تندثر بابتداء عصر النهضة.
وبسقوط الأجزاء الغنائية من التسعة أجزاء التي كانت تتركب منها التراجيديا اليونانية القديمة أصبحت التراجيديا الكلاسيكية — أي تراجيديا القرن السابع عشر — مكونة من خمسة فصول: كرواية «السيد» ﻟ «كورني»، و«أندروماك» ﻟ «راسين»، و«فيدر» له أيضًا، وكانت تكتب شعرًا.
ولقد صاحب نشوء هذا الأدب دراسة الأصول النظرية للأدب والمسرح، فهو لم ينشأ نشأة طبيعية كما نشأ الأدب الإغريقي القديم بل قصد إلى خلقه.
وأصدق مسرح تنطبق عليه قواعد الكلاسيكية هو مسرح «راسين» وذلك لبساطة وقائعه؛ مما يسهل معه انطباق الوحدات الثلاث، وقاعدة فصل الأنواع ومشاكلة الواقع.
-
الدراما البرجوازية Le Drame bowgeois.
-
الدراما الدامعة Le Drame Lamoyant.
فالدراما البرجوازية: دراما نشأت خروجًا على القاعدة الكلاسيكية التي تحتم أن تكون شخصيات الرواية من الملوك والأمراء، فشخصياتها من الطبقة الوسطى، أو من عامة الشعب كما يدل على ذلك اسمها.
والدراما الدامعة: دراما شعرية نشأت خروجًا على القاعدة الكلاسيكية الأخرى التي تقوم بفصل الأنواع، ولكنه لا يُستفاد من ذلك أن الدراما الدامعة تجمع بين التراجيديا والكوميديا، وإنما تقوم على الفكرة الآتية: وهي أن الحياة في أغلب أمرها لا هي مهزلة نقهقه لها، ولا هي مأساة ننتحب من أجلها، وإنما هي شيء رمادي، وسط بين الطرفين في أغلب حالات النفس، وإذا كان المسرح يسعى إلى مشاكلة الحياة وتمثيل تلك الحياة؛ فإنه يكون أقرب إلى الواقع إذا بنى مسرحياته على الحوادث العادية التي قد ندمع لها كما قد نبتسم، ولكننا في الحالتين لا نعدو حد التأثر الخفيف فلا نقهقه ولا ننتحب.
(١-٥) الدراما الرومانتيكية
من الواجب أن يُذْكر دائمًا أن المسرح الرومانتيكي قد تأثر ﺑ «شكسبير» أعظم التأثر، ولقد ترجم «فيكتور هيجو» إلى الفرنسية مسرحياته وأعجب بها ودعا إليها؛ فانتشرت بين الكُتَّاب والمفكرين، وكان القرن التاسع عشر في الحقيقة هو القرن الذي اعترفت فيه البشرية بعبقرية هذا الرجل، وأما قبل ذلك — سواء أثناء حياته أو بعد مماته — فلم يكن أحد يفطن إلى أنه في الصدر بين الشعراء، فلقد ظل شكسبير مغمورًا قرنين كاملين، وفي إنجلترا نفسها يؤثرون عليه شعراء مثل: «بن جونسون»، و«مارلو».
ومسرح شكسبير لا يخضع لقاعدة ولا يتقيد بعقل، فهو مليء بالخوارق والشواذ والخروج عن المألوف، وحتى الحقائق الإنسانية قد صوَّرها دائمًا أكبر من الطبيعة، فمسرحياته على النقيض من المسرحيات الكلاسيكية.
وأخص ما يميز الرومانتيكية هو الثورة على الأوضاع الكلاسيكية؛ فالمسرح الرومانتيكي لا يعترف بالوحدات الثلاث، ولا يسلم بفصل الأنواع، كما أن رواياته لا تقتصر في العادة على أزمة نفسية حادة، كما يحدث في الرواية الكلاسيكية، بل كثيرًا ما تتناول حياة بطل الرواية في مراحلها المتتابعة.
والمسرح الرومانتيكي لا يعرف القصد والاعتدال اللذين تخضع لهما المسرحية الكلاسيكية، فهو مليء بالعنف والإسراف والأشلاء والدماء.
ولقد عرض «فكتور هيجو» نظرية هذا المسرح في مقدمة روايته المسماة «كرومويل»، وفيها يهاجم المسرح الكلاسيكي، ويدعو للمذهب الجديد وهو المذهب الرومانتيكي؛ فيرى أن الوحدات لا تستند إلى منطق سليم ما عدا وحدة الموضوع، وحتى هذه لا يريد أن يقف بها عند وحدة الوقائع، بل يريدها أن تكون «وحدة الأثر العام»، الذي تُحدِثه الرواية في النفس، وهو يرى أنه إذا كان المقصود من وحدة الزمان جعل المسرحية مشاكلة للحياة، وكأنها قطعة منها فقد كان الأجدر ألا تحدد بأربع وعشرين ساعة، بل ساعتين اثنتين وهما الزمن الذي يستغرقه تمثيل المسرحية.
والمسرح الرومانتيكي أميل إلى الشعر الغنائي منه إلى التحليل النفسي، وهو في هذا أيضًا يُغاير المسرح الكلاسيكي، كما أن نغمة أسلوبه تغلب عليها النزعة الخطابية، وهو أخيرًا يعتمد على الإثارة العاطفية أكثر من اعتماده على ضوء العقل الكاشف لحقائق النفس.
(١-٦) الكوميديا والمثل الرومانتيكي Proverbe
وتتميَّز الكوميديا الرومانتيكية بنفس الخصائص التي نشاهدها في الدراما الرومانتيكية؛ من حيث الاتجاه نحو الغناء والنغمة الخطابية وعدم التقيد بالأصول.
والمثل عبارة عن كوميديا صغيرة من فصل أو فصلين، وهو ينتهي عادة بخاتمة سعيدة، وتجري وقائعه تأييدًا للحكمة التي يتضمنها.
(١-٧) الدراما الواقعية Le drame realiste
ظهر في القرن التاسع عشر إلى جوار الدراما الرومانتيكية التيار الواقعي، وكان ظهوره نتيجة لتقديم العلوم الوضعية والرياضية.
والواقعية ترى أن الحياة عند إمعان النظر لا تدعو إلى التفاؤل، وهي تميل إلى ملاحظة جانب الشر والإسفاف في الإنسان؛ بحيث تصبح تصويرًا للنواحي المظلمة في الشخص البشري، وعندها مثلًا أن الرغبة في المجد ترجع إلى الأثرة، والكرم إلى الميل للمباهاة، والشجاعة إلى اليأس من الحياة وهكذا.
ومن أروع الأمثلة لذلك رواية «الغربان» لهنري بيك، التي يتناول فيها حياة أسرة توفي عائلها تاركًا أيتامًا صغارًا وثروة ضخمة فسقط الناس: دائنون ومدعو الدين على الأيتام كالغربان تنهش الأجسام.
(١-٨) الدراما الرمزية Le Drame Symbloique
سبق أن أوضحنا أن الرمزية في المسرح غيرها في الشعر الغنائي، وهي كما يمثلها رجل مثل «إبسن» عبارة عن الكشف عن الحقائق النفسية، أو معالجة المشاكل الإنسانية الأخلاقية والاجتماعية عن طريق الأساطير والشخصيات التي ترمز لأفكار، دون أن يقصد المؤلف إلى تصويرها حية.
(١-٩) المسرح الحديث
ولا أدل على تاريخ هذا التطور من الوقوف قليلًا عند بعض الأعلام التي برزت منذ منتصف القرن التاسع عشر حتى اليوم. فالمسرح الرومانتيكي كله وبخاصةٍ مسرح «ألفريد دي موسيه» مسرح غنائي يتكون من كوميديات وأمثال، وهو للقراءة أصلح منه للتمثيل؛ لأن الحوار في ذاته متعة أدبية، فمسرحيات مثل: «الشمعدان»، أو «نزوات ماريات»، أو «الباب إما أن يكون مفتوحًا أو مغلقًا»، أو «لا ينبغي أن نقسم بشيء» — كل هذه المسرحيات أجزاء كثيرة منها يمكن أن تُقْرَأَ كقصائد منثورة تتغنى بالمشاعر النفسية المختلفة، وبخاصة مشاعر الغرام.
وإذا انتقلنا إلى المسرحيات الواقعية وبخاصة عند «هنري بيك» نجد تمثيلية مثل «الغربان»، تسرف في وصف واقع الحياة المر؛ حتى لتصور البشر كذئاب ضارية لا يتورعون عن شيء، وها هو المنظر السادس من الفصل الرابع من هذه المسرحية ننقله إلى العربية كمثل واضح لتلك الواقعية.
وتتلخص وقائع المسرحية في أن المسيو «فنيرون» لم يكد يفارق الحياة حتى انقضَّ الدائنون ومدعو الدين على ماله وبناته، وفي المنظر الذي نترجمه يأتي مُوَثِّقُ العقود «المسيو بوردون» إلى «مدام فنيرون»؛ ليطلب إليها أن تزوج ابنتها الحسناء التي لم تتجاوز العشرين من عمرها من «المسيو تسييه» أحد الدائنين البالغ من العمر الستين عامًا، وإلا عرضت بيتها للخراب.
وأما استخدامُ التحليل النفسي في المسرح، فنضرب له مثلًا برواية «السادة» ﻟ «برنشتين»؛ حيث نرى المؤلف يحاول أن يصور عقدًا نفسية على أساس نظريات «فرويد» ومدرسته.
وأخيرًا نحيل في معنى الارتداد إلى المسائل الروحية في المسرح على رواية «أسمودية» ﻟ «فرانسو مورياك»، التي مثلها أخيرًا بدار الأوبرا المصرية خريجو قسم اللغة الفرنسية بكلية الآداب بجامعة فؤاد الأول.
ومع ذلك فالذي يبدو للملاحظة هو أن المسرح الحديث بأوربا الآن يتجه نحو تصوير الحياة كما هي؛ وهو لذلك يؤثر النثر على الشعر، كما أن الملاحظة — لا التفكير المجرد — هي أداة تأليفه؛ حتى ليصح القول بأن المؤلف المسرحي يتذكر اليوم أكثر مما يتصور، وإن لم يكن عبدًا للواقع ولا سجينًا فيه، وهو يختار من هذا الواقع، وأساس اختياره هو جدوى ما يختار في الكشف عن الحقائق النفسية وإيضاح خفاياها.
(٢) وظيفة المسرحية في الحياة
ولا شك أن «أرسطو» عندما قال بها كان قد نسي أو تناسى الأصول الدينية لنشأة المسرح، فالمسرح قد نشأ في عبادة الإله «ديونيسوس»، ولكن «أرسطو» وقد وضع أسس التفكير المجرد لم يرَ بدًّا من أن يلتمس للمسرح مصدرًا إنسانيًّا لا يخضع للملابسات ولا يتقيد بزمن أو عبادة.
ولعل الإنسانية لم تنسَ قط ما ذكره «أرسطو»، فالمعرفة التي نشبت حول المسرح — ولا تزال حتى اليوم ناشبة — هي: هل وظيفة المسرح نفسية فحسب، أم له رسالة أخلاقية اجتماعية قومية يؤديها؟ وهذه هي المشكلة الجوهرية في الأدب المسرحي.
فمن يقولون بتوفر المسرح على شق الحجب عن الحقائق النفسية، يرون في ذلك زيادة لفهمنا لأنفسنا، ونحن في أشد الحاجة إلى هذا الفهم، والمسرح عندئذ لا يعدم أن يلهينا أيضًا عن همومنا اليومية، ونحن في أشد الحاجة إلى هذه الملهاة، ثم إنه بتحريكه للخيال يضيف إلى حياتنا حيوات من المشاهد.
ومن يقولون بأن المسرح رسالة أخلاقية أو اجتماعية، يريدون أن يتخذوا منه مدرسة قومية، ومحك هذا الرأي هو أولًا القيمة التي يمكن أن تتوفر لأدب الملابسات؛ إذ يُخْشَى أن يفنى بفنائها تأثيره، ثم لا بد من التساؤل: إلى أي حد يستطيع المسرح أن ينجح في أداء تلك الرسالة إذا أودعناها بين يديه؟
ومن الراجح أننا لا نذهب إلى المسرح بروح التعلم، بل بروح من يلتمس متعة عقلية أو فنية، ولتلك الروح أثر كبير في نجاح المسرح في أداء رسالته أو عدم نجاحه.
هذا … ومن الملاحظ بوجه عام في ميدان الحياة العملية أن قلما يستفيد الإنسان من تجارب الغير، ولا بد — لسوء حظنا — من أن يقوم كلٌّ منا بتجاربه الخاصة، وأن يدفع ثمن هذه التجارب بحيث تتعاقب الأجيال، وكل جيل يقع في أخطاء الجيل السابق، وإذا كان هناك شيء يظن استحالته على الوراثة فهو التجارب.
وإذا صح هذا من الناحية الإنسانية جاز لنا أن نتساءل: كيف يستطيع المسرح أن يؤدي إذن رسالته التعليمية على نحو فعال مؤثر دائم؟ ثم إنه من واجبنا أن نسأل أيضًا: هل إذا اكتفى المسرح بمجرد العرض لم يؤدِّ ذلك إلى خدمة القيم الأخلاقية والاجتماعية، مع أن من المفكرين مَنْ قال: لو عرفت أن الشر شر ما ارتكبته، ولو عرفت الخير وفهمته لعشقته. وقديمًا اتخذ سقراط من قوله: «اعرف نفسك بنفسك» أساسًا لحياتنا الأخلاقية، وكم من مرة تلتوي بنا النفس، فتلبس الحق بالباطل وتبرر الشر بسفسطة عقلية واهية، وإذا صح كل هذا، أَوَما يكون في فَهْمنا للنفس البشرية على حقيقتها ما يُعيننا على تسديد سلوكنا في الحياة نحو أنفسنا ونحو الغير؟ ثم أي متعة في الحياة ألذ من متعة الفهم؟ وإذا عجز الفهم عن أن يرضينا فبماذا عسانا نرضى؟
وأخيرًا يجب أن نفرق بين المسرحية ذات الفكرة، والمسرحية التي تكتفي بمجرد عرض الحياة كما هي، ومن المستطاع أن نتوسع في هذه المشكلة؛ فننظر في المؤلفات الأدبية ذات الموضوع والمؤلفات التي لا موضوع لها، ونقصد بالموضوع الفكرة الفلسفية أو الأخلاقية أو الاجتماعية التي تُبْنَى عليها المسرحية أو القصة.
وليس من الضروري أن تشتمل كل قصة أو مسرحية فكرة أو موضوعًا، بل إن منها ما يضيق بالموضوع أو الفكرة.
وأدب الفكرة بوجه عام أيسر من أدب الملاحظة والعرض، والجمع بين الفكرة والعرض غير ميسور إلا لكبار الكُتَّاب، فهم وحدهم الذين يستطيعون علاج الفكرة مع دقة الملاحظة، ومع المحافظة على تصوير الشخصيات تصويرًا واقعيًّا، فرواية «التلميذ» ﻟ «بول بورجيه» مثلًا تدلك على فكرتها بذاتها، وهي أن الدراسات الفلسفية خليقة بأن تقوض الأخلاق، وأنه خير للمرء أن يحافظ على تقاليده الأخلاقية الموروثة؛ وذلك لأن كرم الأصل خيرٌ من الثقافة، ولكن المؤلف كان أقل توفيقًا في تصوير شخصيات الرواية على نحو واقعي متماسك.
(٣) كيف تنقد مسرحية
-
(١)
يجب أن يسير البحث من العموم إلى الخصوص، وينبني على ذلك الترتيب الآتي:
- (أ)
تحديد العصر الذي كُتِبَتْ فيه هذه المسرحية، والإلمام بنواحي الحياة التي سادت في العصر، سواء من الناحية السياسية أو الاجتماعية أو الثقافية، حتى يمكن فهم الروابط، التي قد تكشفت بين هذه المسرحية وبين ذلك العصر، سواء بطريق مباشر أو غير مباشر.
- (ب)
البحث عن حياة المؤلف ونشأته وثقافته وبيئته لاكتشاف الروابط التي يمكن أن توجد بين شخصية المؤلف وروايته وتأثير إحداهما في الأخرى، خصوصًا إذا كانت الرواية موضع النقد هي الأولى مما كتب، أو الأولى بعد أن اهتدى إلى السبيل الذي هُيِّئَ له؛ لأنه كثيرًا ما يحدث أن تسيطر فكرة الروابط الأولى الناجحة لأحد الكتاب على اتجاهه العام، فيظل خاضعًا لها في كل إنتاجه اللاحق، وفي ذلك يقول أحد كبار الكُتَّاب ما معناه: إن أي كاتب لا يستطيع أن يُنتج غير كتاب واحد في حياته.
- (جـ) إلمام بمؤلفات الكاتب كلها بقدر المستطاع، حتى يمكن تحديد مكان هذه الرواية من مجموعة ما أنتج وعلاقاتها برواياته الأخرى؛ وذلك لأنه كثيرًا ما يحدث أن يُتابع الكاتب الواحد نفس الموضوع في عدة روايات، كما فعل «بومارشيه» حيث تتبع شخصية «فيجارو» في ثلاث روايات، وكما حدث في مجال القصة على نحو واضح بارز عند «بلزاك» حتى لقد اضطر عالمان فرنسيان إلى وضع فهرس لشخصيات «بلزاك»، نستطيع بمراجعته أن نتتبع كل شخصية — كشخصية «رستنياك» — في عدة روايات تصف وتحلل مراحل حياته المختلفة منذ ظهوره للمرة الأولى في رواية «الأب جوريو Goriot» كطالب في كلية الحقوق بجامعة باريس، حيث ينتهي الأمر بانزلاقه إلى حياة المغامرة، ولكن هذه الرواية تقف به عند باب تلك الحياة. والمؤلف يتابع شخصيته في الروايات اللاحقة، حيث صوره مغامرًا كبيرًا، ومتمردًا على كافة الأوضاع، ومضاربًا في البورصات ووزيرًا … إلخ؛ ولهذا السبب جمعت مؤلفات «بلزاك» وكأنها وحدة باسم «الكوميديا البشرية».
- (د)
البحث عن مصادر المسرحية في بطون الكتب إذا كانت تاريخية، وفي بيئة المؤلف وحياته الخاصة إذا كانت معاصرة، وتقصي المؤثرات التي خضع لها الكاتب بمعرفة الكتاب الذين قرأهم وأخذ عنهم وتتلمذ لهم، وأخذ بمذاهبهم، ثم تأثير هذا الكاتب أيضًا في اللاحقين؛ لأنه كثيرًا ما يحدث ألا يتضح مذهب الكاتب إلا عند تلاميذه.
- (أ)
-
(٢)
قراءة النص: وليست هناك لإجادة النقد غير قاعدة واحدة هي دقة القراءة، وعدم الاكتفاء بفهم الحوار، بل يجب أن نتصور المواقف والحركات التي يمكن أن تلازم النص، ولو لم يدلنا عليها المؤلف، ومن المهم إذا كنا سنشهد هذه الرواية على المسرح أن نقرأها قبل الذهاب إلى المسرح، وإلا كان عجزنا على نقد التمثيل عجزًا تامًّا.
-
(٣)
مرحلة النقد: وهذه تشمل نقد التأليف، ونقد الإخراج، ونقد التمثيل «إذا شاهدنا الرواية على المسرح».
- (أ)
نقد التأليف: في نقد التأليف ننقد نقدًا عامًّا، وننقد نقدًا موضوعيًّا، وقد ننقد نقدًا مقارنًا.
- (١)
النقد العام: ينصب على هيكل الرواية، وطريقة بنائها، وارتباط حلقاتها واستخراج العقدة وكيف هُيِّئَت، وكيف حُلَّت، وهل نجح المؤلف في الاحتفاظ بحب الاستطلاع يقظًا عند المشاهدين أم لا. هذا من جهة، ومن جهة أخرى نستخلص الفكرة أو العاطفة التي تقوم عليها المسرحية، وإذا كنا بإزاء كاتب كبير يجب أن نحذر دائمًا التبسيط؛ فلا نحاول رد روايته إلى فكرة واحدة أو عاطفة واحدة وإلا أفقرنا الرواية، بل نترك لها غناها، وإن يكن من الصحيح أن معظم الروايات لها ما يُسَمَّى بمركز الاستثارة، إلا أن هذا المركز له دائمًا إشعاعات يجب تقصيها بإيضاح فروع الفكرة أو مولدات الإحساس. وعندما يقول النقاد: إن رواية «هاملت» مثلًا تُمثل الانتقام، و«الملك لير» العقوق، و«عطيل» الغيرة الجنسية، و«تاجر البندقية» الجشع المادي؛ يجب أن نحذر مثل هذه العبارات المركزة، وإن كنا نتخذ منها هاديًا للنقد؛ لأنها وإن كانت في جملتها حقيقية، إلا أنها لا تصور الحقيقة كاملة، فإلى جوار الانتقام في «هاملت» سنجد شل التفكير للإرادة البشرية وتبدد الحماسة ألفاظًا، وإلى جوار الغيرة في «عطيل» نجد الدس والدجل والبراعة وهكذا. وليس من الضروري أن يكون بطل الرواية هو حامل مغزاها أو المعبِّر عن آراء كاتبها، فكثيرًا ما يحدث أن يزج المؤلف بشخصية ثانوية تكون هي المعبرة عن آرائه الخاصة في الموضوع الذي يعرضه، وهذه الظاهرة واضحة في مسرحيات «موليير»، والسبب في وجودها عنده هو وجودها في الأدب اللاتيني واليوناني في الكوميديا. ومن المهم عند القيام بالنقد العام — بل من الواجب — أن نرجع إلى مصدر الرواية، وبخاصة إذا كانت تاريخية؛ لأننا سنلمس عندئذٍ كيف عملت عبقرية المؤلف، بل كيف خلقت أحيانًا من شيء تافه موضوعًا كبيرًا. والكثير من المسرحيات يكون مردها إلى أسطر معدودات من أحد المؤرخين على نحو ما فعل «شكسبير»؛ إذ أخذ عن «بلوتارخ» اليوناني وعن «تاسيت» اللاتيني، بل والمؤرخ «ستيو» الإيطالي، وأحيانًا عن مؤرخين مجهولين كمؤرخ الدنمارك، الذي أمده القصة «هاملت» في عدة أسطر أَلَّفَ منها مسرحية كبيرة. وليس أنفع في فهم العمل الأدبي من تتبُّع المؤلِّف في خطوات خلقه؛ لنرى كيف استطاع من هذه المادة البسيطة أن يشيد ذلك البناء الضخم.
وإذا واتتنا الفرصة للعثور على عدة طبعات للرواية الواحدة، واستطعنا أن نتابع التغييرات التي أدخلها المؤلف من طبعة إلى أخرى ربما خرجنا في فهم المؤلف بنتائج قد لا تعطيها قراءة مؤلفاته كلها.
وسيثير البحث عن المصدر مشكلةً كبيرةً هي مدى تصرُّف المؤلف في وقائع التاريخ وحقه في هذا التصرف، والحكمة التي دفعت إليه، والنتيجة التي انتهى إليها.
والقاعدة هي أنه لما كان التاريخ هو فن الخاص، أي الظواهر الفردية والأحداث القائمة بذاتها، وكان المسرح أو الأدب هو فن يجنح إلى العموم وتصوير جانب إنساني بأكمله؛ فإن المؤلف المسرحي كثيرًا ما يضطر إلى إعادة ترتيب الوقائع التاريخية أو التحوير في نتائجها؛ لينتهي إلى هذا العموم، كما أن طبيعة المسرحية تقتضي وقائع خاصة مرتبة على نحو خاص قد لا يواتينا بها التاريخ الدقيق. والحكم بوجه عام هو المنطق الداخلي للرواية، واتساق حوادثها، وعدم مناقضة الخاتمة للمقدمات، وعدم إفساد التسلسل داخل الرواية، وما يحدث في التاريخ يحدث أيضًا في الأساطير، وإن تكن حرية المؤلف في الأساطير أوسع.
- (٢)
النقد الموضعي: ينصب على الحوار والتعبيرات واللغة، ومن الواضح أن هذا الأساس؛ لأنه لا بد أولًا من فهم النص فهمًا صحيحًا في التفاصيل، وتُثَار عادةً عند العرض لمثل هذا النقد مشاكل، كشعرية اللغة وواقعيتها وفصاحتها وعاميتها؛ والمقياس العام هو ملاءمة اللغة للموضوع، فاللغة الفصيحة إذا صلحت في التراجيديا فلا شك أنها أقل صلاحية في الكوميديا، واللغة الشعرية في المسرحيات الرمزية أو العاطفية أصلح من اللغة الواقعية الجافة، والمهم دائمًا هو أن ينم الوعاء عن محتوياته. ويجب أن نلاحظ أنه في مسألة اللغة لا يمكن أن نترك لكل شخصية في الرواية لغتها، وإنما نترك لكل شخصية حقيقتها الإنسانية؛ فاللغة عندئذٍ — وإن لم تخلُ من اصطناع — إلا أنها لن تسلب الشخصية تلك «الحقيقة» الإنسانية، بل ولا يجوز أن نحاسب المؤلف باعتبار أن ما تقوله شخصياته هو ما يحدث بالفعل في الحياة؛ إذ يكفي أن يكون ذلك مما يمكن أن يحدث إذا تهيأت للشخصية الظروف الخاصة والملابسات التي يضعها فيها المؤلف.
وتدخل في هذا النقد مسألة واقعية اللغة، وهنا يجب أن نذكر أن أحدًا لم يقل بترك شخصية من شخصيات الرواية تتحدث بلغتها الخاصة «الصعيدي بلغة الصعيد والبحراوي بلغة بحري مثلًا»، وإلا جاءت المسرحية خليطًا غير مفهوم، وإنما يلجأ الكُتَّاب إلى مثل هذا لقصد يعمدون إليه وبطريقة عرضية، وإنما المقصود بواقعية اللغة ملاءمتها لشخصيات الرواية، فهي الواقعية النفسية والعقلية والعاطفية، فلا يتحدث أُمِّيٌّ بأفكار الفلاسفة. وأما الواقعية اللفظية فليست بمقصودة في التأليف الأدبي الذي لا يخرج عن أن يكون فنًّا — وكل فن صناعة، وليست الواقعية اللفظية بالتي تعطي الحوار قوة مشاكلته للحياة، وإنما تأتي هذه القوة من الواقعية الإنسانية قبل كل شيء، ودراسة اللغة تستتبع استخلاص روح المؤلف؛ فهي روح تقريرية، أو روح ساخرة، روح جادة أو منهمكة، مظلمة أو مضيئة، فكرية أو عاطفية، مجردة أو حسية وهكذا. وللروح أهمية كبيرة في الحوار، فهي التي تعطيه لونه الحقيقي، وبخفته أو ثقله، بل وتعطيه موسيقاه، وهناك صفة يعلق عليها النقاد أهميةً كبيرةً هي المسماة ب«الدعابة Humour» وحتى ليرى جورج دي هامل أن الكاتب الذي لا يمتلك الهيومر ولا الروح الشعرية يعتبر فاقدًا لكل شيء. - (٣)
النقد المقارن: بعد الفراغ من النقد الموضعي والنقد العام للرواية يستطيع الناقد أن يعطي أحكامه وطريقة فهمه للمسرحية قوة كبيرة بمقارنتها بغيرها، وذلك مع الحذر من الوقوع في مقارنات بعيدة متلمسة، فمن الممكن مثلًا أن نقارن بين البخيل لموليير وإيوجين جرانديه لبلزاك، على أن يكون موضوع المقارنة صفة البخل النفسية، وكيفية تحليل الكاتبين لها، واستخلاص تأثيرها على السلوك العام وعلى نفسية مَنْ تملَّكته. ومن الممكن أن نقارن بين بروميثيوس عند أيسكيلوس، وشيللي وجيته وأندريه جيد على أن تتناول المقارنة — لا صفة إنسانية بذاتها — بل الشخصية الخرافية بأكملها «شخصية بروميثيوس» وكيفية التصرف في الوقائع التي تدور حول هذه الشخصية، وطريقة تحميل تلك الوقائع؛ لما أراد كل كاتب من حقائق إنسانية، وكذلك مقارنة بيجماليون في الأسطورة القديمة مع بيجماليون لشو وبيجماليون لتوفيق الحكيم مثلًا، فتكون كمقارنة بروميثيوس. وبالجملة يجب قبل المقارنة أن نحدِّد زاويتها، وألَّا نتعسَّف كما يحدث أحيانًا كثيرة عندما يتلمَّس الكُتَّاب أوجهًا للمقارنة لا تنعقد، وكثيرًا ما تؤدي إلى إفساد فهم القراء لطرفي المقارنة؛ كما فعل الكثيرون في مقارنتهم للكوميديا الإلهية برسالة الغفران، وليس من الضروري أن تقتصر المقارنة على البحث عن أوجه الشبه، بل قد يقوم الجانب الأكبر فيها على الاختلافات وتوضيح أوجهها، ولكن المنهج الصحيح يقضي بأن تكون هناك رابطةٌ بين طرفي المقارنة؛ وذلك حتى لا تبدو مقارنة مفتعلة، وتلك الرابطة إما أن تكون وحدة في الفكرة أو في الإحساس المعالج أو في الموضوع أو في الشخصية.
ولقد نشأ في الربع قرن الأخير بنوع خاصٍّ في الجامعات الأوربية علم يُسَمَّى علم الأدب المقارن، وهو وإن استند إلى الأصول العامة في النقد إلا أنه أوسع منه مدى وأكبر موضوعًا، وباستطاعة الناقد أن يستفيد من أبحاثه؛ إذ سيقع على حقائق ومبادئ عامة تساعده على المقارنة الجزئية، وهذا الأدب المقارن يعمل في مجموعات، فيتناول مثلًا الآداب الجرمانية بأن يقارن بين منتجاتها في البلاد المختلفة، مثل: ألمانيا واسكندينا وإنجلترا. أو الآداب الرومانية فيقارن بين أدب فرنسا وأسبانيا وإيطاليا، أو الآداب السلافية — الصقلبية — فيقارن بين أدب روسيا وبولونيا ودويلات البلطيق (لتوانيا وإستونيا … إلخ)، وقد تتسع دائرته فيقارن بين مجموعة وأخرى. وهذه دراسات شاقة؛ لأنها تتطلب معرفة بالكثير من اللغات، فمن الممكن مثلًا المقارنة بتتبع أسطورة «فاوست» عند مختلف الجرمانيين، وقد تناولها بالفعل مارلو في إنجلترا، كما تناولها جيته في ألمانيا، كما أنه من الممكن مقارنة أسطورة أخرى عند كاتب جرماني وآخر روماني كأسطورة «أفيجينيا» عند راسين وعند جيته، ومقارنتهما معًا بأفيجينيا عند يوروبيدس. وكتب الأدب المقارن تمد الناقد بكثيرٍ من الخصائص العامة للكتَّاب والشعوب وأوجه المفارقات بينها، ففيها عادةً لمحات دالة على الصفات التي تشترك فيها بعض الشعوب أو تتفاوت؛ وكل هذا ينير للناقد السبيل.
- (١)
- (أ)
(٤) نقد التمثيل
- الفهم: وليس الفهم مجرد قابلية بل هو أيضًا عمل إيجابي؛ فالممثل الذي يجيد الفهم يضيف إلى الشخصية التي يُمثلها ويساهم في خلقها؛ لأنه في الواقع هو الذي ينفث فيها الحياة التي لا تحدُّها عبارات المؤلف، وإنما تشير إليها مجرد إشارة، وطريقة فهم الممثل للدور الذي سيلعبه من مواضع النقد المهمة؛ وذلك لنعرف إلى أي حد قد جارى المؤلف وإلى أي حد خالفه، وهل أصاب في هذه المخالفة أو أخطأ، وهل هي من حقه أم لا، وموقف الممثل شبيه بمواقف النقاد. وإذا كان النقاد قد أضافوا إلى ما أراده المؤلفون أنواعًا من الفهم لا حد لها؛ حتى جرت على ألسنة كبار المفكرين ومؤرخي الأدب جمل، مثل قولهم: «ليس هاملت ما خلقه شكسبير، ولكن هاملت هو الإناء الذي سكب فيه النقاد أفكارهم» — إذا كان هذا ما فعله النقاد، فإن القياس بينهم وبين الممثلين يعطي التوجيه نحو مدى حرية الممثل، وحقه فيه عندما يحاول فهمَ دور من الأدوار. وليست هناك قاعدة عامة بالضبط، فالأمر كله راجع إلى حسن تقدير الناقد، والمقارنة بين النصوص وبين طبيعة الفهم التي اختارها الممثل؛ لإيضاح إمكان هذا النوع من الفهم أو عدم إمكانه، وفطنة الممثل أو غباوته.
- الحركة: والصفة الأساسية التي يجب أن تتوفر للممثل هي
قوة الخيال حتى يجعل المتصور حقيقة، وبذلك يحيا
دوره، والخيال هو الذي يحرك الانفعال، ويخلق
بواعثه ويجسمها، والملاحظ عادة أن المقدرتين: قوة
الخيال، والمقدرة على الانفعال — متلازمتان؛ وذلك
لما هو بديهي من أن الإنسان لا يستطيع أن ينفعل
إذا كان عاجزًا عن تصور بواعث هذا الانفعال
وتجسيمها بقوة الخيال، كما أنه من الشاق أيضًا أن
نتصور خيالًا قادرًا على تجسيم الواقع، ثم لا
يتحرك صاحبه إلا في الحالات الشاذة، والأمر كله
متوقف على الجهاز العصبي للممثل.
ويتصل بالقدرة على الانفعال ضرورة توفر خصائص عضوية، وبخاصة في الوجه والملامح ومرونة العضلات، وإن تكن هذه الصفة ألزم في السينما منها في المسرح؛ إذ إن السينما هي التي تستطيع أن تمكن المشاهدين من مراقبة الحركة العضلية للوجه، وهذا هو السبب في نجاح بعض كبار الممثلين في السينما نجاحًا فاق نجاحهم في المسرح، ولعل من أصدق الأمثلة على ذلك الممثل الفرنسي «هاري بور».
وأما حركات الجسم بوجه عام، فللمخرج فيها دور يفوق دور الممثل، وهو عادة المسئول عن اتجاهاتها، وإن كان الممثل هو المأخوذ بنسبها، وللنسب أهمية بالغة؛ لأنه كثيرًا ما يتوقف عليها تسديد الإحساس أو إفساده، والوقوف عند الطبيعة أو تجاوزها إلى التصنُّع، والأمر فيها مرده إلى حسن تقدير الممثل وجودة فهمه للدور الذي يلعبه. ولثقافة الممثل ونوع حياته ووسطه الاجتماعي دخل قوي في تكوين هذا التقدير وغرس الفطنة في نفسه لفهم قيمة النسب.
وتأتي الصعوبة من أن حركات وسكنات الممثل لا يقوم بها لذاتها، وإنما للتأثير بها في المشاهدين، وطريقة التأدية إنما تكونت الفكرة عنها خارج المسرح وفي حياته الخاصة؛ وهو يكيف حركاته وسكناته تبعًا لهذه الفكرة.
- الإلقاء: وطريقة الإلقاء مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بفهم
الممثل لدوره، وبقوة خياله ومقدرته على الانفعال،
وإحساسه بالنسب، وضرورة التجسيم، ومدى اندماجه في
الدور الذي يمثله، يضاف إلى كل ذلك بالطبع معرفته
باللغة أو على الأصح إحساسه باللغة؛ وذلك بمعرفة
تتابع الجمل وأنواعها المختلفة: تقريرية، أو
إنشائية من حضٍّ إلى تمنٍّ إلى استفهام إلى تعجب
إلى أمر إلى نهي، ثم الوصل والقطع وأنصافهما،
ولهذا علم قائم بذاته يُسَمَّى عند الغرب بعلم
الأساليب، وهو يقابل علم المعاني عند العرب، وإن
اختلف عنه في تعليقه أهمية كبيرة على الجانب
العاطفي في اللغة.
ومسألة الإحساس باللغة — مفردات كانت أم جملًا — مسألة جوهرية، فلكل لفظة لون عاطفي، وحتى الألفاظ التي تعبر عن معانٍ عقلية لا بد من أن نعطيَها شيئًا من حرارة العقل.
- صمت الممثل من ناحية الإلقاء: وليس التمثيل كله إلقاءً وكلامًا، بل هو أيضًا
صمت وإدراك لقيمة هذا الصمت ومواضعه وطوله أو
قصره، ولما كان المؤلفون قلما يشيرون إلى هذه
المواضع؛ فإن هذا الإغفالَ يترك للمخرج والممثل
عملًا إيجابيًّا في تحديد مواضع الصمت وزمنه.
وهناك أمارات يستطيع المخرج والممثل أن يقع عليها
في ثنايا الحوار لتحديد مواضع الصمت وزمنه، كأن
تكون هناك مفاجأة أو انفعال شديد أو حركة مسرحية
أو استجمام أو ضعف في الذاكرة أو تقطع في
الحوار.
وأشق موضوع في الإلقاء هو المنولوجات، وهي تحتاج في إلقائها لفن دقيق حتى لا يغمرها الإملال، ولعل هذا هو السبب في أن المسرح الحديث يحاول دائمًا تجنبها، والممثل يحتال بالحركات على تمثيل المنولوجات غير مكتفٍ بالإلقاء فحسب. والمنولوج إما أن يتناول حياة الممثل الماضية، وهنا يتغير الإلقاء بحسب فترات تلك الحياة وما سادها من رخاء أو شدة، ومن فرح أو ألم — وإما أن يتناول نجوى النفس وما فيها من أسرار، لا تريد الشخصية الروائية أن تبوح بها أمام الغير؛ فالحديث هنا يكون موجهًا من النفس وإليها، ويجب أن يسود الإلقاء حينئذٍ معنى الألفة والإخلاص؛ فالكلام عندئذٍ أشبه بالصور العقلية التي تتوارد على الخاطر منه بالألفاظ المنظومة التي تُلْقَى كخطبة.
وهذان النوعان أقل مشقة من نوع ثالث، هو الذي يقص جانبًا من أحداث الرواية، وبخاصة وأن هذا النوع لم يلجأ إليه إلا كبار الكُتَّاب الذين يؤمنون بأنهم يملكون من قوة القصص ما يُغني عن المشاهدة، بل يفوقها تأثيرًا.
ولقد ضرب الكاتب الفرنسي «جورج دي هامل» لهذا النوع من المنولوجات مثلًا بمأساة «هيبوليت»؛ إذ آثر «راسين» أن يرويها مصاحب له نجا من الموت، وعاد ليخبرنا بما لاقى المسكين من موت وتمزيق أوصال؛ فالمؤلف قد فضل القصص على المشاهدة، وهنا يُلْقَى على الممثل عبء جسيم؛ إذ المطلوب عندئذ ليس فقط تجسيم الحادثة، بل الجمع بين هذا التجسيم وبين الأثر الذي يحدثه، وإظهار كل ذلك في التمثيل والإخراج.
- تمثيل المناظر الشاذة: وتعرض للممثل حالات كثيرة يمثل فيها شخصيات شاذة، والمقياس هنا أيضًا هو الطبيعية في الشذوذ ذاته، ولكي يتقن الممثل تمثيل دور شاذ لا بد من تكراره عدة مرات؛ حتى يألفه وينجح في المطابقة بين الأقوال والحركات وتعبيرات الجسم المختلفة، ولا شك أن إلمام الممثل بشيء من علم النفس وعلم الأمراض العقلية مما يساعد على حسن القيام بمثل هذه الأدوار وفهمها الفهم الصحيح.
- الإخراج: نقد الإخراج يتناول مسألتين:
- الأولى: فهم المخرج للرواية، وتوجيهه للممثلين، وتوزيع الأدوار عليهم، وحسن اختيار كل ممثل للدور الذي يصلح له.
- والثانية: هي طريقة استخدام المخرج للوسائل المسرحية المختلفة من ضوء إلى ملابس إلى مناظر.
والمسألة الأولى في الفن المسرحي هي المسألة الرئيسية؛ لأن الوسائل المسرحية الأخرى مهما بولغ في قيمتها لم تعد إلا ثانوية بعد اختراع فن السينما وتقدمه هذا التقدم الرائع، بل لعل الخير في ألَّا يسرف المخرج في استخدام الوسائل المسرحية؛ وذلك لكي يترك للمسرح صفته الأساسية، التي يُرجى أن يستطيع بها مقاومة السينما، وهي أنه فن يقوم على الحوار أكثر مما يقوم على المناظر واللوحات.
ولقد عرضنا فيما سبق لحالة خاصة توضِّح هذه الحقيقة، وهي حال تفضيل المؤلف استخدام القصص بدلًا من المشاهدة، فإنه من الخطأ في مثل هذه الحالة أن يحاول المخرج عن طريق الإيهام أو الإيحاء بأية وسيلة من الوسائل المسرحية — الجمع بين المشاهدة والقصص، وإلا كان هناك تناقض وبلبلة للمشاهدين، الذين سيتأرجحون عندئذ بين الخيال اللفظي والخيال البصري، فضلًا عن خروجه عمَّا قصد إليه المؤلف من إحداث أثر معين بواسطة القصص، وإيثاره لهذه الوسيلة دون غيرها وحرصه على الاكتفاء بها دون شغل المشاهدين ببعض صور بصرية عاجزة عن إحداث أثر أكيد.
(٥) تمييز أنواع الدراسات الأدبية المختلفة
- (١)
كيفية تولد العمل الأدبي في نفس الكاتب.
- (٢)
تأثير العمل الأدبي في الجمهور.
(٦) تولد العمل الأدبي في نفس الكاتب
هذه الدراسة تقوم على أسس المبادئ النفسية، وهي دراسة تحليل وفهم ومعرفة إنسانية يُسْعَى إليها لذاتها، وهي تختلف عن النقد الأدبي الذي مهما كان نوعه فإنه لا يمكن أن يخلو من الحكم وتحديد القيم؛ فهو إذًا قد يفيد الناقد، ولكنه ليس موضوع عمله.
ويتناول هذا العلم العناصر التي تَكَوَّنَ منها الكِتَاب وكيفية تفاعلها في نفس الكاتب، وأخيرًا طريقة صياغة ما أسفر عنه هذا التفاعل. ومن البيِّن أنه يعتمد على دراسة تاريخ حياة المؤلف وثقافته ووسطه، وما إلى ذلك مما يكون الكاتب. وهنا يتسع المجال لنظريات علم النفس المختلفة التي تتناول التحليل النفسي وازدواج المشاعر وتناقضها والتواءها وتنكرها، ثم ما يصيبها من أحداث كالخبو والعودة إلى الظهور. ولا شك أن للأبحاث المتعلِّقة بالذاكرة وتركزها في إطار الزمان والمكان أو إفلاتها منهما وتحول الأفكار إلى إحساسات، أو ضياع تلك الأفكار من النفس غير مخلفة إلا مجرد واقع؛ وكل هذه الحقائق من الأسس الهامة التي يقوم عليها علم الجمال الأدبي عندما يتناول تكوُّن المؤلفات الأدبية في نفوس أصحابها.
وهناك نظرية «النغم» التي يقول بها مذهب الرمزية في الشعر، وهي التي تنظر إلى نغمات الكلام وأوزانه كرموز لأنواع من مشاعر؛ ولذلك يكون حرصها الأول على توافق تلك الأنغام واستجابة المشاعر التي يراد إثارتها لتلك الأنغام.
(٧) تأثير العمل الأدبي في الجمهور
تتناول هذه الدراسة الأدب وعلاقاته المختلفة بالفرد وبالجماعة كما، تتناوله في ذاته من حيث عوامل الإثارة فيه: العابرة والباقية.
-
(١)
أما عن علاقة الأدب بالفرد، فتدور حول الحاجات الإنسانية التي يمكن أن يشبعها كفن جميل وكأداة للتعبير عند الفرد، وأهم مبحث في هذا الباب هو تحليل حاسة الجمال عند البشر، والبحث عن أصولها وأهدافها المختلفة، والتمييز بين مفارفاتها فهناك الشيء الجميل والشيء اللطيف والشيء الجليل.
-
(٢)
ومن حيث إن الأدب تعبير، يقف علم الجمال الأدبي عادة عندما يُسَمَّى بنظرية «انتقال المشاعر»، كأن يحب العاشق مثلًا كلب معشوقته من أجلها؛ ويستخلص الباحثون هذه الحقائق من المؤلفات، ومن استجابات القراء النقاد، ومن تجاربهم الخاصة.
-
(٣)
وأما عن علاقة الأدب بالجماعة، فهنا تتطاحن النظرية النفسية مع النظرية الاجتماعية؛ فيتناقشون حول وظيفة الأدب الأساسية: أهي التعبير عن الفرد، أم التصوير لحياة الجماعة؟ كما يبحثون عن الدور الذي يلعبه الأدب في حياة الجماعة، ومدى أثره في نهضات الشعوب، وأحيانًا في ثورتها السياسية والاجتماعية؛ فيتناولون مثلًا كيف مَهَّدَ الأدب الفرنسي لثورات ١٧٨٩، ١٨٣٠، ١٨٤٨، أو كيف مَهَّدَ الأدب لحركة الوحدة الإيطالية في القرن التاسع عشر، أو للثورة الروسية سنة ١٩١٧، أو الفاشية ١٩٢٢ في إيطاليا، أو النازية في سنة ١٩٢٣ في ألمانيا، وهكذا …
وهم في أبحاثهم هذه يعتمدون على تنقيب المؤرخين، فإلى اليوم مثلًا لا يزال العلماء يتباحثون لمعرفة إلى أي مدى أَثَّرَ كُتَّاب القرن الثامن عشر في فرنسا في الجماهير لإحداث الثورة الكبرى؛ حتى يتبينوا هل كان هؤلاء الكُتَّاب هم العامل الأساسي فيها، أم أن فساد الحياة السياسية والاجتماعية قد كان هو ذلك العامل؟!
وتتناول هذه الدراسة أيضًا الوظيفة الكفاحية للأدب؛ من حيث إنه يمكن أن يتجه نحو تحقيق الأهداف السياسية والاجتماعية للمجتمع، وهذه الملاحظة الأخيرة تنتهي بنا إلى بحث أدب الملابسات، والأدب الإنساني المجرد، وتحليل عوامل النجاح في كل منها، وقدرته على البقاء من عدمه.