إدراك متى يكون التغيير ضرورة
لنبدأ تناولنا لهذا الموضوع الصعب — إدراك متى يلزم إجراء تغيير كبير في الموظفين — باستعراض سيناريوهين من واقع الحياة. كما سيتضح لك، فكلا السيناريوهين تترتب عليهما نتائج مختلفة تمامًا.
«السيناريو الأول»: كانت تبدو على الرجل الجالس أمامَ مكتبي ملامحُ ضياع حقيقي، ويكاد يكون ذاهلًا. لكنه، لحسن الحظ، لا يزال يتمتع بحضور الذهن مما يمكِّنه من التصرف. ففي خِضَمِّ مأساة شخصية مُوجِعة، وبدلًا من الاستسلام الجبري لضياع ثروته وتجارة أسرته، وحتى معنى حياته، قرر هذا الرجل أن يلتمس المساعدة؛ ولهذا السبب كان موجودًا في مكتبي في عصر ذلك اليوم بعينه.
أسس والدُه شركةَ منتجات غذائية باهرة النجاح ثم خلف والده في منصب الرئيس التنفيذي. ونظرًا لتخصصه في الجوانب الفنية من عملية التشغيل، كان عنصرًا فعالًا في قرارات كبرى؛ كالاستثمارات الرأسمالية والمنتجات الجديدة. وقد أدت هذه القرارات في مجملها إلى نمو الشركة وتحقيق أرباح مثيرة للإعجاب، وساهمت في إنشاء البنية الأساسية التي جعلت الشركة ثالث أكبر لاعب في مجالها.
لكن العالم تغيَّر في السنوات القليلة الماضية؛ فعمليات التركيز الهائلة داخلَ القطاع عبر نشاط الدمج والاستحواذ المكثف، والظهور المفاجئ للاعبين دوليين جدد، والتغيرات في قنوات التوزيع، كلها عوامل أضعفت مكانة الشركة التنافسية في فترة قصيرة إلى حد مثير للدهشة. كان نمو الشركة في تلك الأثناء تموله قروض قصيرة الأجل في أسواق مالية محلية، وهي القروض التي كانت أسعار فوائدها تسجل ارتفاعات مفاجئة. وصارت الشركة واقعةً بين مِطْرَقة خسائر التشغيل المتنامية وسندان سداد الفوائد المتصاعدة، والتي اجتمعت لتجعل الاقتراض من دائنين دوليين أمرًا مستحيلًا. نتيجة لكل ذلك، صارت الشركة على شَفا الإفلاس بالمعنى الحرفي للكلمة.
بعد أن عجز عن إيجاد مخرج لهذه المعضلة، لجأ إلى محامي شركات يتسم بالبراعة والرفق، الذي أحاله إلينا في نهاية المطاف. «لذا فالسؤال هو» هكذا التفت إليَّ قائلًا — وقد بدا متألمًا من السؤال الذي سيطرحه: «هل يمكن لرئيس تنفيذي جديد أن ينقذ شركتي؟»
كان هذا هو السؤال الصحيح، وكانت الإجابة في نهاية الأمر: «نعم.» مما يُحسَب لعميلنا أنه تصرَّف بسرعة وحزم؛ فبمجرد تقديمنا مرشحًا مقبولًا له، سلَّم له مسئولياته التنفيذية وتنحَّى جانبًا. استطاع الرئيس التنفيذي الجديد للشركة، برغم ما مرت به من ظروف عصيبة، أن يقودها إلى برِّ الأمان، ثم ما لبثت أن تطورت وازدهرت منذ ذلك الحين ولمدة تقارب عشر سنوات.
«السيناريو الثاني»: في نفس الفترة تقريبًا، أتاني شقيقان مساهمان في شركة ناجحة لتصدير المنتجات الزراعية الصناعية. لم يكن الشقيقان المالكين الأساسيين للشركة وحسب، بل كانا أكبر مسئوليها التنفيذيين أيضًا. وبرغم أن الشركة آنذاك كانت لا تزال في وضع جيد إلى حد معقول، فإنها بدأت تواجه مصاعبَ مالية نتيجة لهيكلها الرأسمالي المثقل بالديون وإدارتها المالية غير المستقرة.
من جانبنا، كان من الواضح حاجة الشركة الماسَّة إلى إدارة أقوى، وأخبرناهما بذلك. (في مجال عملنا هذا، علينا أن نتصف بالصراحة.) شكرَنا الشقيقان على رأينا لكنهما قررا أن يواصلا إدارة الشركة بنفسيْهِما. في غُضون عامين، انزلقت الشركة في دوامةِ اقتراضِ مبالغَ باهظةٍ بدرجات متزايدة، أدت بها في النهاية إلى الإفلاس والتصفية.
بالنظر إلى السيناريوهين معًا؛ فإنهما يشيران إلى النقاط الأساسية في هذا الفصل. أولها أن الوصول إلى قرار بإجراء تغيير في الموظفين، خاصة على مستوى المناصب العليا، ليس يسيرًا على الإطلاق، وفي بعض الأحيان، تصعب حتى رؤية الحاجة إلى ذلك. استطاع بطل قصتنا الأولى — برغم ما بذله من استثمار شخصي في تلك المأساة المتصاعدة لشركته — أن يستوعب وجود تحديات جديدة تتطلب كفاءات مختلفة، وأن عليه النظر إلى مجموعة أكبر من الكوادر من أجل العثور على تلك الكفاءات. أما في التصور الثاني، فالشقيقان لم يَرَيا ضرورة التغيير (أو لم يُقِرَّا برؤيتها)؛ ومِنْ ثَمَّ سارا سويًّا نحو النهاية الحزينة لرحلة شركتهما.
ثانيًا: من الصعب تنفيذ مثل هذه التغييرات، حتى بعد إقرارها؛ فقد يؤذي ذلك المشاعر ويدمر السمعة.
لكن الصعوبة ليست عذرًا، وهذا هو درسنا الثالث؛ فحين يتبيَّن ضرورة إجراء تغيير، يجب أن يتحمل أحدهم مسئولية هذا الموقف، ويجب أن يكون الهدف في هذه المرحلة هو إجراء التغيير كما ينبغي.
يوضح هذا الفصل طرقًا لتحديد ما إذا كانت هناك ضرورة لاستبدال مسئول تنفيذي، أو مهني، أو مدير رفيع المستوى. سوف أستعرض بإيجاز متى يحدث التغيير في الحياة الواقعية ولماذا؟ لكني سأركز أغلب النقاش على تحديد متى يصبح إجراء التغيير ضروريًّا؟ لذلك، فإن هذا الفصل أقرب إلى الكشف عن المشكلة منه إلى علاجها. سوف أُجْمِل في الفصول اللاحقة استراتيجيات تطبيق التغييرات على نحو مناسب ومنصِف.
(١) متى يحدث التغيير عادةً؟
تُظهِر قاعدة بيانات مركز القيادة الخلَّاقة أن اختيار الموظفين للمناصب التنفيذية، كما قد تتوقع، كثيرًا ما يَجْرِي في سياق أوضاع مؤسسية استثنائية؛ كحالات النمو المفاجئ، أو إنقاذ المؤسسة من التصفية، أو وقوع تغيير ثقافي أو استراتيجي كبير، أو إعادة هيكلة المؤسسة. بل في أحيان أكثر، يعكس إجراء التغيير في صفوف كبار المسئولين التنفيذيين قرارًا تطويريًّا؛ مثل خلق فرصة للمسئولين التنفيذيين لتطوير مجموعة أوسع من المهارات عن طريق تداول الوظائف. غير أن السيناريو الأكثر تكرارية إلى حد كبير للتغيير على المستوى التنفيذي لا يتضمن ثغرة مؤسسية ولا هدفًا للتطوير، بل يشمل قرارًا بالإبقاء على الشركة. في الحقيقة، كان التغيير التنفيذي في أكثر من ٦٠ في المائة من الحالات التي أوردها المركز يهدف إلى الإبقاء على الوضع الراهن.
تطرقت البيانات التي نقلها المركز إلى: (١) أثر الظرف المحدد الذي يحيط بعملية التعيينات، و(٢) معدلات النجاح النسبية للمرشحين الداخليين مقارنةً بنظرائهم الخارجيين. على سبيل المثال، حسبما أفاد المركز، لم ينجح سوى ٣١ في المائة من المسئولين التنفيذيين المعيَّنين في حالات الدمج والاستحواذ. وبالمثل، لم يرصد المركز سوى فرص محدودة للنجاح (٥٠ / ٥٠ تقريبًا) في حال كان الهدف المؤسسي هو دعم تغيير ثقافي أو استراتيجي، أو تدشين شركة ناشئة. وفي كلٍّ من الظرفين الأخيرين، كانت التعيينات الخارجية في العينة التي درسها المركز أقل نجاحًا من التعيينات الداخلية.
(٢) متى «ينبغي» أن يحدث التغيير؟ ولماذا؟
أجرت شركتنا عدة دراسات حول أحدث أساليب إدارة المسيرة المهنية للمسئولين التنفيذيين، وأجرت شركة ماكنزي آند كومباني للاستشارات دراسات مشابهة بالتوازي. وقد أكدت مصادر البحث في كلتا الحالتين أن أغلب الشركات يعاني قصورًا كبيرًا عن تطبيق أفضل الممارسات فيما يخص قرارات اختيار الموظفين. بالنسبة لي، النتائج مذهلة؛ فأكثر من ثلاثة أرباع المسئولين التنفيذيين الذين شملتهم الدراسة الاستطلاعية يعتقدون أن مؤسساتهم:
-
لا تستقطب الأشخاص ذوي الكفاءات العالية.
-
لا تميز أصحاب الأداء المرتفع عن أصحاب الأداء المنخفض.
-
لا تستبقي أفضل الكفاءات، ولا تولي أفضل الكوادر الوظائف التي تتضمن ترقيًا سريعًا.
-
لا تُحمِّل المديرين المباشرين مسئولية جودة الموظفين.
-
لا تُنمِّي الكفاءات على نحو فعال.
إن الطبيعة البشرية تميل بنا — كما ذكرت في الفصل الثالث — إلى التسويف في اتخاذ قراراتنا المتعلقة بالأشخاص؛ حتى حين تتدهور الأمور، نتحرك ببطء. وبخلاف المطلوب، نُحجم عن المجازفة — على غير العادة — حين تسير الأمور على ما يرام (لا تصلح ما لم ينكسر بعد). كل هذه الأمور تؤدي في النهاية إلى شيء واحد: في كلٍّ من السرَّاء والضَّرَّاء، نَجْنَح إلى تأجيل اتخاذنا للقرارات المهمة المرتبطة باختيار الموظفين إلى أن يفوت الأوان.
لا يكتفي المديرون غير الأكْفاء بأداء وظائفهم على نحو سيئ، بل يدمرون أيضًا أداء من حولهم (وإمكانياتهم الكامنة). استعرض جيفري فيفر وروبرت ساتون نتائج الأبحاث المعنية بالْمُناخ المؤسسي على مدار الخمسين عامًا السابقة، وذلك في كتابهما الحديث الذي يدور حول ما أسمياه «الإدارة القائمة على الأدلة». أشار المؤلفان إلى أن «٦٠ إلى ٧٥ في المائة من الموظفين في أية مؤسسة — بغض النظر عن وقت إجراء الدراسة الاستطلاعية أو مكانها والفئة المهنية التي شملتها — أفادوا أن رؤساءهم المباشرين يمثلون أسوأ جوانب وظيفتهم أو أشدها إرهاقًا.»
أؤكد مجددًا أن تركيز هذا الفصل منصبٌّ على كشف المشكلة. بالنظر إلى ما نتسم به من ذلك الميل البشري نحو التسويف، كيف نخلق بداخلنا تحيزًا تجاه الفعل، تجاه اقتلاع مشكلاتنا من جذورها والعمل على حلها؟ أعتقد أن الخطوة الأولى هي أن نَعِيَ ونترقب أنواع المواقف التي تستدعي التغيير على نحو أكثر إلحاحًا وأشد قوة.
(٣) الأقدار الإلهية وأفعال البشر
أحيانًا تبرز الحاجة إلى التغيير من قلب حدث هائل، بل مروِّع.
في ذروة كل هذا النجاح، تحطمت طائرة إستنسورو. لم تستعِدِ الشركة زخمها أبدًا ثم استولت عليها في النهاية شركة ريبسول، أكبر شركات النفط الإسبانية. لم يقتصر الضرر على واي بي إف وحدها؛ فيعتقد أغلب المحللين أن انعدام القيادة في واي بي إف الذي خلفته وفاة إستنسورو تسبب في انخفاض كبير في التنقيب عن النفط، وما نتج عنه من إخفاق في استكشاف المزيد من احتياطيات النفط والغاز في الأرجنتين.
لا نستطيع — بطبيعة الحال — أن نرُدَّ الأقدار الإلهية أو حتى نتنبأ بها. كل ما يمكننا فعله هو أن نستوعب أن هذه الأحداث إذا ومتى حلت بنا؛ فربما يكون لها تأثير مدمر على مؤسستنا. هل تمتلك شركتنا خطة تعاقب متينة؟ وعلى أقل تقدير، هل لدينا مرشح توافقي ليتقدم ويأخذ بزمام الأمور حين تقع حوادث طارئة؟ سأعود إلى تلك الموضوعات في فصول لاحقة.
غير أن الأقدار الإلهية هي الاستثناء النادر؛ ففي مجال الأعمال، كما هو الحال في أغلب مناحي الحياة، ما يجب أن يثير قلقنا هو أفعال البشر. إذن، ما هي السيناريوهات التي يصنعها البشر، والتي ربما تستدعي تغييرات في الأشخاص، والتي بإمكاننا التنبؤ بها والاستجابة لها بنجاح؟
ما مدى اتفاق قيادة شركتك — بما فيها مجلس إدارتك — مع هذه الصورة؟ أتتطلع إلى المستقبل أم تنظر إلى الماضي؟
وختامًا، فكثيرًا ما تُجرى تغييرات الموظفين كردِّ فعل للتغيرات المفاجئة في الأداء المؤسسي، من بينها إطلاق مشروعات جديدة، وإجراء عمليات دمج واستحواذ، ووضع وتطبيق استراتيجيات جديدة، والتعامل مع مشكلات مرتبطة بالأداء، ومواكبة حالات النمو والنجاح.
لنلقِ نظرة على هذه السيناريوهات الخمسة للتغيرات المفاجئة في الأداء المؤسسي واحدًا تِلْو الآخر، مع التركيز على الحاجة إلى إجراء تغييرات في الموظفين التي قد تبرز مع كل سيناريو.
(٣-١) إطلاق مشروعات جديدة
مبدئيًّا، ليس أمام الشركات سوى خيارين: إما أن تنمو أو تموت، ويعد تدشين مشروعات جديدة واحدًا من سبل النمو الحيوية بالنسبة لأغلب الشركات؛ لكن — كما أشارت أبحاث مركز القيادة الخلاقة — في حالات المشروعات الناشئة، فإن معدلات إخفاق المسئولين التنفيذيين في إجراء الترقيات الداخلية والتعيينات الخارجية ترتفع ارتفاعًا كبيرًا جدًّا.
على الجانب الآخر، لا يُعتبر اختيار مرشح خارجي عند بدء مشروع جديد فكرة سديدة دائمًا، حتى لو لم تتوافر المعرفة المطلوبة بالمجال داخل مشروعاتك الحالية. لماذا؟ لأن إطلاق مشروع جديد بنجاح يتطلب من الفريق التنفيذي أن يكون قادرًا على التعامل الفعال مع المسائل السياسية والاجتماعية والثقافية داخل الشركة الأم، ولا يتفوق في هذه المهمة عادةً سوى المرشحين الداخليين. باختصار: حين يستدعي إطلاق مشروعٍ جديدٍ تغييرًا في الموظفين، ينبغي النظر إلى المرشحين جميعًا، داخليين كانوا أو خارجيين، بعين الاعتبار.
من الأخطاء التي كثيرًا ما ترتكبها الشركات عند اختيار الموظفين لتولِّي مسئولية المشروعات الجديدة هو وضع شخص محدود الكفاءة أو الأقدمية موضع المسئولية. يعكس هذا القرار — عن وعي أو غير وعي — الحجم المبدئي الصغير للمشروع، لكنه قد يكون لذلك مردوده السلبي الفعلي على المشروع. حسبما أشار جاك ويلش في نفس المحادثة التي ذكرتها سلفًا، ينبغي وضع أفضل الأشخاص حيث تتوقع أعلى المكاسب.
إن لاتخاذ القرارات الصحيحة عند اختيار الموظفين أهمية جوهرية عند الدخول في مشروعات جديدة، ولا تُعزى هذه الأهمية فقط إلى التحديات البارزة التي تواجهها المشروعات الناشئة ومعدل نجاحها المنخفض، بل إلى ما تعانيه الشركة من انعدام خبرتها بالقطاع الجديد أيضًا. يُعتبر رصد الأداء أحد التحديات التي تواجه المشروعات الجديدة؛ إذ غالبًا ما يصعب رصد الأداء في السياقات غير المعتادة، وربما لا تطلق صافرات الإنذار إلا بعد فوات الأوان.
(٣-٢) عمليات الدمج والاستحواذ
بعد خمس سنوات من التحاقي بالعمل في إيجون زندر إنترناشونال، وجدت نفسي أتعامل مع مجال يضج — بكل معنى الكلمة — بمعدل غير مسبوق من الطلب على المهارات الإدارية.
المكان في الأرجنتين، والزمان أوائل تسعينيات القرن العشرين، حين أطلقت حكومة جديدة موجة من عمليات الخصخصة للشركات المملوكة للدولة في قطاعات كبرى؛ كالاتصالات عن بُعد، وتوليد الكهرباء وتوزيعها، وتوزيع المياه، والنفط والغاز، وخطوط الطيران، وكثير غيرها. كانت هذه المجالات تشكل في مجملها نسبة كبيرة من إجمالي الناتج المحلي والعمالة المحلية للأرجنتين.
جابَهَ قادةُ الشركات في هذه المجالات تحديًا جسيمًا للتكيُّف مع المتطلبات الجديدة للسوق المحررة، والمنافسة المتنامية، وأهداف المساهمين المختلفة اختلافًا جذريًّا، كل ذلك في وقت واحد. اتضح منذ البداية أنه من الأهمية بمكان تحقيق مستوًى أعلى بكثير من الإنتاجية والفاعلية في هذه المجالات.
لكن ذلك لم يكن سهل المنال؛ فبعض الشركات كانت تعاني من مستويات غير معقولة من انعدام الفاعلية، والتي تبدأ (ولا تنتهي!) بموظفين وهميين. (في أكثر من حالة، كانت ١٠ في المائة من كشوف الرواتب تختفي بمجرد إجراء عمليات التحقق من الهوية كما ينبغي.) لم يكن أغلب هذه الشركات يفتقر إلى البنية الأساسية الضرورية للاتصالات فحسب، بل أيضًا إلى البيانات اللازمة لتسيير العمل بمجرد تشغيل كابلات الألياف الضوئية وأجهزة الراوتر والخوادم في نهاية المطاف. لقد استشهدت لتوِّي بمثال واي بي إف، تلك الشركة العاملة في مجال النفط والغاز والتي ساعد خوسيه إستنسورو في تحويلها. فبفضل جهود إستنسورو وغيره، والتي تضمنت عمليات إعادة هيكلة وإنشاء شركات فرعية، وبعض الاستحواذات، تضاعفت إنتاجية واي بي إف عشرة أمثالها.
كان من الخطوات المحورية في دمج تلك الشركات وتحويلها تحديد المهارات الضرورية للنجاح في البيئة الجديدة، والمديرين الحاليين الذين يتوقع منهم تنمية هذه المهارات، والاتفاق على المناصب التي يمكن شغلها فقط عن طريق الاستقطاب الخارجي.
ومما لا يقل أهمية عمَّا سبق، بل ربما يفوقه إثارةً للقلق، ما ارتبط بعمليات الدمج من تحدٍّ في التعامل مع ظاهرة «شخصان لكل منصب» (على سبيل المثال، حين تندمج شركتان، يحتاج الكيان المدمج إلى مدير مالي واحد.) من حسن الحظ أن المساهمين في تلك الشركات سرعان ما أقروا بالفائدة التي ستتحقق من إجراء عملية تقييم متخصصة ومستقلة لتحديد من سيبقى ومن سيُطوَّر ومن سيُستبدَل.
في مثل هذه الحالات، من الأهمية بمكان تجنُّب المحاباة، لكن من المهم أيضًا تجنُّب ظاهرة المساومات: سوف أختار مرشحًا أقل كفاءة من ذلك الفريق لأني اخترت لتوِّي مرشحًا قويًّا من هذا الفريق. كل هذه الأساليب تؤدي مباشرة إلى سوء اختيار الموظفين.
فيما يلي أقدِّم إليك مثالًا يوضح ما للتقييم الموضوعي والمتخصص والمستقل لكبار المديرين من قيمةٍ لا تُقَدَّر بثمن، خاصة حين يتعلق بالبَتِّ فيمن سيرحل ومن سيبقى، وإن كان ذلك قد يصورني وكأنني أخدم مصالح المجال الذي أعمل به.
من أُوليات الحالات التي شاركت فيها من هذا النوع كانت عملية خصخصة مرفق خدمي كبير. كان الوفاء بأهداف الاستثمار والخدمات خلال إطار زمني محدود تحديًا غاية في الصعوبة، وكانت المؤسسة — في الوقت ذاته — تفتقر كليةً إلى أي توجه قائم على النتائج، وكانت مقسمة داخليًّا تمامًا نتيجة لتعدد اللغات التي يتحدث بها الفريق الإداري، والتي تُمثِّل مختلف الشركاء في المشروع المشترك الذي فاز بعملية الخصخصة؛ مديرون محليون من الشركة القديمة المملوكة للدولة، ومديرون آخرون من مساهم محلي جديد، ومديرون أجانب من جنسيتين مختلفتين.
قرر الرئيس التنفيذي اتخاذ إجراءات بِناءً على هذه التقييمات في وقت كان ما يقرب من نصف المناصب الأكثر حيوية في الشركة يتولاها مديرون مشكوك إما في كفاءتهم العامة أو مدى ملاءمة خبرتهم لمتطلبات المنصب. كان من الواضح أن عملية ترميم هذه الشركة أبعد ما تكون عن السهولة، لكن بفضل استعداد الرئيس التنفيذي للتحمل واتخاذ إجراءات شاقَّة على المدى القصير، سرعان ما حققت الشركة مستويات لافتة من النمو والربحية. وتفوَّقت، في الحقيقة، لسنوات عديدة على منافستها الكبيرة العاملة في نفس المجال، والتي لم تُعانِ من التعقيدات المتمثلة في مشروع مشترك له مديران فنيان وعدة شركاء يمثلون ثلاث جنسيات مختلفة.
(٣-٣) وضع استراتيجيات جديدة وتنفيذها
بجميع المقاييس المعقولة، شهد التغيير في المؤسسات نموًّا هائلًا في وتيرته ونطاقه خلال العقود العديدة الماضية. لقد تطرقتُ في حديثي إلى تأثير العوامل الاقتصادية والتكنولوجية العالمية التي تدفع الشركات إلى خفض التكاليف، وتغيير عملياتها، وتحسين جودة منتجاتها وخدماتها، ورصد فرص جديدة للنمو، وزيادة إنتاجيتها، بل — وفي أغلب الأحيان — يمتد نطاق التغيير ليطول الاستراتيجية الأساسية للشركات.
ربما يبدو ذلك بديهيًّا؛ لكن بعد فترة قصيرة من بدء تجربتي في مجال البحث التنفيذي، بدأت أركز على الامتداد المنطقي لهذه المقدمة: أن الاستراتيجيات المختلفة تتطلب مديرين مختلفين. أما الأسطورة الشائعة للمدير الكامل القادر على إدارة أي شيء تحت جميع الظروف، فليست أكثر من أسطورة. فحين تُغيِّر استراتيجياتك، ينبغي عليك غالبًا أن تُغيِّر فرسانك.
من أوائل العملاء الذين عملت معهم كانت مجموعة كبرى تضم حافظة استثماراتها جميع أنواع الأنشطة، ويوجد في الصفوف العليا من الإدارة المتوسطة لهذه الشركة المتشعبة مدير شابٌّ مَثار إعجاب بالغ؛ إذ أتم حديثًا عملية إنقاذ كبرى للشركة في ظرفٍ بَدا النجاحُ فيه شِبْه مستحيل؛ لدرجة أن كثيرًا من المسئولين التنفيذيين المحنكين رفضوا تولي الوظيفة.
للتفاصيل أهمية في قصتنا. لقد تولى هذا المدير المتميز زِمام الأمور في شركة تحقق خسائر تزيد عن ٣٠ في المائة من مبيعاتها، وتعاني من وضع مالي مثقَل بالديون الطائلة، وبدا أن تسريح موظفيها مستحيلًا نتيجة التأثير الذي يلعبه اتحاد العمال بالغ القوة. على الرغم من هذه العقبات الحقيقية، تمكَّن نجمنا الشاب من خفض النفقات وزيادة المبيعات في الوقت ذاته لاستعادة ربحية الشركة، واستطاع في النهاية — مخالفًا كل التوقعات — أن يبيع الشركة مقابل ربح معقول.
تسير الأمور على ما يرام إلى هذه النقطة. وبِناءً على ما أحرزه من نجاح، ترقَّى هذا النجم ليدير واحدًا من ألمع المشروعات الاستثمارية في حافظة المجموعة؛ شركة منتجات استهلاكية عالية التنافسية في سوق سريعة النمو. بعد عام من هذا التعيين الرائع، أقيل المدير؛ لقد تدهور أداؤه إلى الحد الذي حوَّله من بطل إلى فاشل. فماذا حدث؟ ربما يمكنك توقع الجواب؛ فأسلوب إدارته القاسي ذو القبضة الحديدية — الملائم لخفض التكاليف وانتزاع الربحية من سوق محدودة للغاية — لم يناسب السياق الجديد الذي يحتاج إلى مهارات في التحليل التنافسي والقدرة على الإنصات لمتطلبات السوق الجديدة وسرعة الاستجابة لها؛ بعبارة أخرى، كان السياق الجديد يحتاج إلى أسلوب مختلف تمامًا في القيادة.
ذهب الكاتبان (مثلًا) إلى أن إنشاء شركة ناشئة يحتاج إلى قائد ذي رؤية واضحة للنشاط، ودراية بالجوانب الفنية الأساسية وبأساليب التسويق، وقدرة على بناء فريق إداري. أما عملية تصفية شركة ضعيفة الأداء أو بيعها فتحتاج — على النقيض — إلى مهارات مختلفة كليةً؛ كتقليل الخسائر، والتقشف من دون الإضرار بالروح المعنوية لما بقي من الموظفين، وهكذا. إذن كل موقف من هذه المواقف السبعة يستدعي مجموعة مختلفة من السمات القيادية.
بالنسبة لأهداف هذه المناقشة، فإن الدرس المستفاد هو أن أي تغيير في الاستراتيجية يجب أن تمتد آثاره عبر عدة مستويات داخل أي مؤسسة معقدة؛ لذا لا يكفي أن تدرس تغيير المستويات القيادية العليا، بل ينبغي أن تعير اهتمامك للتغييرات في مواقع أخرى من المؤسسة.
ثاني الدروس المستفادة، الذي ينطوي على مفارقة بشكل ما، هو أن كل موقف فريد بذاته. برغم أني أدعو إلى اتخاذ القرارات المتعلقة بالموظفين في ضوء الموقف الاستراتيجي، فإنني لا أحبذ التطبيق الصارم لنموذج التوفيق بين الاستراتيجية والمدير؛ فما قد يبدو توافقًا حكيمًا ربما يأتي في الواقع بنتائج عكسية أو لا يحقق أقصى فائدة مرجوة. على سبيل المثال، ربما يبدو منطقيًّا أن نقرن مديرًا يمر بمرحلة هدوء مؤقتة من مسيرته المهنية بمنتج يشرف على نهاية دورة حياته، لكن لعل الخطوة الأذكى هي أن نعيِّن في هذا المنصب مديرًا شابًّا حازمًا وطموحًا، ذلك النوع من القادة الذين قد يبثون بعضًا من الحياة في هذا المنتج الواهن. للاستراتيجية أهمية حيوية؛ لكن السياق هو ما يجعل لهذه الاستراتيجية معنى.
سوف نعود في فصول لاحقة إلى تناوُل التحديات المرتبطة بمن ينبغي أن يستقل الحافلة ومن عليه أن يغادرها، لكن النقطة التي أطرحها الآن هي أن التغييرات في الاستراتيجية، ومِنْ ضِمْنها التغييرات المرتقبة، عادةً ما تحفز تغييرات في الموظفين.
(٣-٤) التعامل مع مشكلات الأداء
فيما لا يقل عن أربعٍ من بين كل خمس حالات يلجأ إليَّ فيها عملاء لمساعدتهم في إيجاد مدير جديد، كان السبب الموجِب للتغيير وجود مشكلة مرتبطة بالأداء أو بالعلاقات. لا شك أن المشكلات ذات الصلة بالعلاقات توجد دائمًا (فالأفراد يواجهون دائمًا تحديات في التفاعل فيما بينهم) لكن خبرتي المهنية تخبرني أن المشكلات المرتبطة بالأداء يتزايد تكرارها باعتبارها أحد أسباب تغييرات الموظفين، لا سيما في الشركات المساهمة؛ حيث يواجه كبار المسئولين التنفيذيين ضغوطًا متنامية فيما يخص الأداء (كما أوضحنا سلفًا) ورقابة مشددة من المحللين ووسائل الإعلام.
تضمنت الأبحاث التي أُجريت في الآونة الأخيرة تحليلًا دقيقًا لتأثير أداء الرؤساء التنفيذيين على تغييرهم. من أُوليات نتائج هذه الأبحاث أن مجالس الإدارة عند اتخاذها قرارات تغيير الرؤساء التنفيذيين تركز بوجه عام على الانحراف عن الأداء المتوقع بدلًا من التركيز على الأداء وحدَه؛ ومن ثَمَّ فإن احتمال إقالتك في حال أخفقت في تحقيق الأهداف الموضوعة لك أقوى من ذات الاحتمال في حال حققت نتائج محدودة متسقة مع توقعات مجلس الإدارة المحدودة. يصح هذا القول بوضوح في حال وجود حشد كبير من المحللين يتابعون شركتك.
الخلاصة هي أنك في حاجة إلى الانفتاح على خيار تغيير الإدارة إذا شهدت شركتك مشكلات في الأداء، ويجب أن تستعد أيضًا لإمكانية تعيين مرشح خارجي؛ لكن عليك أن تتذكر كذلك أن هذه الاستنتاجات قائمة على التجربة والخطأ، وأن ما يبدو كقاعدة قد يتحول في حالتك الخاصة إلى أسوأ خيار.
ضع أمام ناظِرَيْكَ التحدي الحقيقي والحل الفعلي. ما السبب الحقيقي وراء مشكلات الأداء قصيرة المدى التي تواجهها شركتك؟ أتُبحر سفينتك على غير هدًى وتحتاج إلى يدٍ أقوى تدير دفَّتها؟ أم أن قادتك وصفوا لشركتك دواءً، برغم مرارته على المدى القصير، فإن هذا الدواء بالتحديد هو ما تحتاجه الشركة على المدى الأطول؟ أمِنَ المحتَّم أن تسوء الأمور مؤقتًا قبل أن تتحسَّن؟ ضعْ في اعتبارك ذلك الفخ الذي وصفه علماء النفس بخطأ العزو الأساسي؛ حين يلاحظ الأفراد نتيجة ما؛ فمن الأرجح أن يعزوها إلى الشخص المسئول بدلًا من الملابسات الخارجية. من المنطلق ذاته، تُظهر الأبحاث الحديثة أن المساهمين والمحللين، في كثير من الحالات، يَعْزُون الأداء الضعيف خطأً إلى الرئيس التنفيذي بدلًا من الجاني الحقيقي؛ الظروف الخارجية الخارجة عن سيطرة أي إنسان.
هل تعاني من مصاعب عند قيادة سيارتك؟ حسنًا، هل المشكلة في السيارة؟ لو كانت الإجابة نعم إذن اشترِ سيارة جديدة. هل المشكلة في الطريق؟ لو كانت الإجابة نعم، فلا تتخلص من السيارة. فكر في طيف أوسع من الخيارات.
(٣-٥) مواكبة حالات النمو والنجاح
يَعجب الناس أحيانًا من وضعي هذا السيناريو ضمن قائمة الأسباب التي تؤدي إلى ضرورة تغيير الموظفين، غير أن البعض لا يجيدون التعامل مع النجاح.
دُعيت مؤخرًا إلى إلقاء كلمة على تجمُّع من شركات رأس المال الجريء حول كيفية بناء شركة ناجحة. كانت هذه المجموعة من رءوس الأموال الجريئة تستثمر في ذلك الوقت بشكل أساسي في شركات عاملة في مجال التكنولوجيا الحيوية في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية. ألقيت عليهم قراءتي للأوضاع التي لم يكونوا بالضرورة راغبين في سماعها. أخبرتهم أنه غالبًا ما تجد أن الشركات الناجحة في هذا القطاع تُضْطَرُّ في النهاية إلى الاستغناء عن مؤسسها (اللامع)، ليس فقط لتحافظ على نجاحها، بل حتى لتبقى على قيد الحياة! لماذا؟ لأن العلماء بطبيعة الحال يضعون ثقة شديدة في عجائب العلم وثقة ضئيلة في فن الإدارة، لكن العربة التي جلبت لهم النجاح حتى الآن — العلم العبقري — لم يَعُدْ بوسعها حَمْلهم أبعد من ذلك؛ لقد حان وقت التغيير.
إذا تحقق إجماع على ضرورة إجراء تغيير؛ فعليك أن تتأكد أنه سيكون بداية جديدة تمامًا؛ ففي الحالات التي يتم فيها التعاقب بشكل إجباري مُتضمِّن للكثير من التسويات لحفظ ماء الوجه (كإعطاء المؤسِّس رقابة فعلية على مجلس الإدارة) لا يترك ذلك للرئيس التنفيذي المقبل مساحة كافية لإدارة الشركة، وهذا يفسر ما تراه غالبًا من ضغوط لإجراء تغييرات إدارية بالجملة، ليس فقط في نطاق المسئوليات، بل الصلاحيات أيضًا، عندما يشارك أصحاب رءوس الأموال الجريئة في مواقف التمويل الحساسة. إذا استعنت بمحارب ساموراي، فلا تجرِّدْه من سيفه!
(٣-٦) التنبؤ بالتحديات المستقبلية
تضمنت جميع النماذج الواردة سابقًا أشكالًا بارزة من التغيرات المفاجئة في الأداء المؤسسي والتي عادةً ما تكون واضحة بشكل أو بآخر بالنسبة للمراقبين الحاذقين. (المسألة ليست ما إذا كنا في حاجة إلى التصرف أم لا؛ فبإمكاننا رؤية المشكلة! بل تتمثل المسألة في كيفية التصرف.) مما يمثل وضعًا أكثر صعوبة هو ذلك الذي لا تتضح فيه أي حالات تغيُّر مفاجئ في الأداء المؤسسي؛ لكن لا تزال تلوح الحاجة إلى التغيير. لعله من الضروري للشركة أن تتنبأ بتحدٍّ جديد تمامًا وتتعامل معه، تحدٍّ قد يشكل خطرًا وشيكًا أو فرصة سانحة.
انظر إلى النسبة السائدة في الطبيعة ثم فكر في مؤسستك؛ ما نسبة «موارد الرؤية» المتاحة لديك والموجهة إلى المستقبل مقارنةً بتلك الموجهة إلى الحاضر؟ إذا كان جوابك «ليس بما يكفي»؛ فربما حان الوقت لتغيير الموظفين.
جاءنا منذ بضع سنوات القائمون على صندوق من صناديق رأس المال الخاص والذين وضعوا استثماراتهم في سلسلة كبرى للبيع بالتجزئة تعمل في سوق ناشئة، وكان هدفهم مناقشة وضعهم معنا. كانت شركة التجزئة، عند تنفيذ الاستثمار الأصلي، على شفا الإفلاس جَرَّاء انهيار اقتصادي في البلاد (عامل خارجي) وقدر شبه مدمر من سوء الإدارة (عامل داخلي). في ظل هذا المنعطف، عُيِّن رئيس تنفيذي جديد، وعادت الشركة إلى نقطة التعادل في أقل من عام بفضل مزيج من تحسُّن الممارسات الإدارية وانتعاش الإنفاق الاستهلاكي على مستوى البلاد. تم تحقيق جميع الأهداف التشغيلية، وتمكَّنت الشركة من إعادة هيكلة ديونها بنجاح.
لكن الصندوق لم يقنَع بالاكتفاء بما أحرزه من نجاحات، وقرر أن يقيِّم قيادة الشركة في ضوء التحديات المستقبلية، وسرعان ما أدرك، على إثر ذلك، أنه لكي تنتقل الشركة إلى المستوى التالي لمجرد البقاء على قيد الحياة؛ فمن الضروري زيادة مستوى التوجه الاستراتيجي في القيادة العليا، ليس فقط لاستحداث فئات جديدة من المنتجات وقطاعات جديدة من السوق، بل لإقامة تحالفات جديدة أيضًا؛ أي إنه بإتمام عملية الإنقاذ الأولية الشاقَّة بنجاح، احتاجت الشركة إلى مجموعة مختلفة تمامًا من المواصفات القيادية؛ فمن يرمم ليس بالضرورةِ يجيدُ البناء.
استطاعت الشركة — لحسن الحظ وبفضل التحسُّن الهائل في صورتها العامة — أن تجذب طائفة رفيعة المستوى من المرشحين للاضطلاع بهذا الدور القيادي بعد إعادة تحديد معالمه؛ كما أدى هذا التحسُّن إلى تقوية فريقها القيادي على نحو ملحوظ. حققت الشركة منذ ذلك الحين مستوًى من النمو والربحية فاق بكثير أهدافها المبدئية المرتبطة بالبقاء على قيد الحياة.
إن مواجهة التحديات الجديدة وتقبُّلها، حتى عندما تسير الأمور على ما يرام نسبيًّا وبينما تشهد المؤسسة نجاحًا؛ يتطلب شجاعة وبُعد نظر. وبرغم أنه أصعب ظرف يبدأ في ظله تغيير الموظفين، فإنه قد يجلب أكبر المكاسب لو تم اتخاذ القرار المناسب كما ينبغي.
الخلاصة هي أنه يجب على المؤسسات في عالم سريع التغير أن تتطلع دوريًّا إلى المستقبل وتحدد الصورة المحتملة لهذا المستقبل؛ ثم تقرر ما إذا كانت تملك الموارد البشرية الملائمة للتعامل معه.
(٤) كيف تعرف أين تقف؟
لنتخيل أن مؤسستك تواجه تغييرًا مثيرًا للاضطراب في محيطها (مرتبطًا بالبيئة أو المجال) أو تشهد واحدًا أو أكثر من التغيرات المفاجئة في الأداء المؤسسي الموضحة سابقًا، أو تُجابه تحديًا جديدًا في نشاطها. ماذا تفعل؟
الأولوية الأولى هي أن تحدد أين تقف. سوف تتناول الفصول اللاحقة من هذا الكتاب بالتحليل الدقيق الأمور التي يجب أن تبحث عنها عند اتخاذ القرارات المرتبطة بالموظفين، والأماكن التي تبحث فيها عن المرشحين، وكيفية تقييم الأشخاص؛ لكن قبل تنفيذك تلك الخطوات ينبغي أن تتحقق من أنك تبذل وقتًا وجهدًا كافيين في تقييم إدارتك بأسلوب موضوعي.
يمكن للمشورة الخارجية أن تكون ذات قيمة خاصة في ظل ظروف التغيير والتبدُّل المفاجئ في الأداء المؤسسي. (لعل مؤسستك لم تشهد هذا الظرف من قبل، لكن ربما ثَمَّة أشخاص خارجَها في مجالات وضع الاستراتيجيات أو البحث التنفيذي ممن شهدوا أمرًا مماثلًا.) وبصرف النظر عما إذا اخترت الاستعانة بمساعدة خارجية أم لا، يلزمك تحديد الكفاءات الرئيسية الضرورية للنجاح — بالنظر إلى تفهُّمك للحاضر والمستقبل — وتقييم إدارتك الحالية مقارنةً بتلك الكفاءات اللازمة بأكبر قدر ممكن من الموضوعية.
كيف تصل إلى تكوين هذه النظرة؟ في الفصل القادم سنناقش التفاصيل المتعلقة بالأمور التي يجب البحث عنها، لكن الخطوة الأولى هي التوصل إلى اتفاق داخل المؤسسة بشأن العوامل الرئيسية المحددة للإسهام الإداري المتوقع وكيفية تقييم إمكانية التطور كذلك. إن مجرد إجراء هذه المناقشة داخل الشركة أمر صحي؛ إذ يدفع الأفراد إلى وضع إطار لتقييم المديرين، وهو ما يختلف عن التقييم الذاتي المحض البعيد عن الموضوعية. لاحظ كيف يؤدي التقسيم الواضح للتقييمات وفقًا لبُعدين — الإسهام الإداري المتوقع حاليًّا وإمكانية التطور مستقبلًا — إلى فتح نافذة مطلة على كلٍّ من الحاضر والمستقبل. وليس بالإمكان البدء في مرحلة التقييمات الفردية إلا بعد إتمام هذه المناقشات.
في هذا المثال تحديدًا، كانت النقاط المعبرة عن الكفاءة الإدارية وإمكانية التطور تتسم بفارق شاسع؛ فجمعنا المديرين الذين قيمناهم في أربع فئات: الموارد الاستراتيجية، والمديرين الثقة، وعلامات الاستفهام، والخلفاء. كان هناك عديد من الموارد الاستراتيجية في الشركة (أي الأشخاص المتفوقين في كلا البعدين)، وعدد كبير من المديرين الثقات الذين يمكن الاعتماد عليهم لإحراز إسهامات مهمة في السنوات القادمة، وقليل من علامات الاستفهام، ولم يكن ثمة خلفاء. أكثر الدروس الملحَّة المترتبة على هذه الدراسة هو أن على الشركة الاجتهاد لتعيين الخلفاء وتنميتهم إذا كانت تأمُل في تحقيق خططها الطموحة للنمو.
(٥) ماذا تفعل بعد أن عرفت؟
دعنا نواجه الحقيقة: عادةً ما يمثل تنفيذ تغييرات الموظفين صعوبة بالغة حتى إذا كان هناك ما يبررها، ويصح ذلك بشكل خاص في حالات الاستغناء عن أشخاص عيَّنَّاهم بأنفسنا أو عملنا معهم لفترات طويلة.
أؤكد مجددًا أن هدفك يجب أن يكون تحديد معالم عملية اتخاذ القرار التي ستقوم بها مسبقًا، بحيث تكون منضبطة وموضوعية بأكبر قدر ممكن. إنني أفترض بالطبع أن ما يدفعك هو الرغبة الحقيقية في تحقيق أفضل نتيجة لمؤسستك، وأنه ليست هناك أية دوافع خبيثة. حسنًا، إذا كان الأمر كذلك؛ فالتحدي الحقيقي الذي تواجهه هو أن تجعل العمليات شفافة ومتوقَّعة؛ أي أن تثبت نواياك الحسنة والشريفة؛ فالناس يمكنهم تقبُّل النتائج، حتى لو كانت غير مرغوب فيها، إذا اقتنعوا أن العملية التي أدت إلى تلك النتائج تتسم بالإنصاف.
لقد شاركت منذ بضع سنوات في تقييم الفريق الإداري لشركة اتصالات على قدر كبير من النجاح. برغم ما حققته من تميز على مستوى الأداء، والسمعة، والربحية، والوضع المالي، فإنه كان واضحًا للغاية بالنسبة للكثيرين داخل الشركة أن ثمة مجموعة جديدة من التحديات من المحتمل أن تبرز خلال السنوات القادمة؛ من بينها إلغاء القيود على الخدمات وتزايد المنافسة في السوق المحلية، بينما كان يتوجب على هذه الشركة أن تسعى بقوة لإنشاء عملياتها الدولية. أما داخليًّا، فستتطلب هذه الاستراتيجية المستقبلية مزيدًا من الدمج الفعال بين مختلف المشروعات، وتحولًا في ثقافة الشركة بما يسمح لفريق المبيعات بتوجيه مزيدٍ من الاهتمام إلى الخدمات والحلول. وأخيرًا وليس آخِرًا، ستكتسب إدارة الكوادر أهمية رئيسية؛ نظرًا إلى الحاجة إلى تطوير مهارات جديدة والإبقاء على أهم موارد الشركة الاستراتيجية في ظل بيئة يتزايد فيها التحرر من القيود والروح التنافسية. ومن المؤكد أن العديد من الشركات الجديدة في المجال ستحاول ملاحقة هؤلاء الكوادر من أجل الاستفادة من مهاراتهم.
وتحسبًا لمقاومات كثيرة للتغيير، قررنا نحن وعميلنا أن نرسم مخططًا مبدئيًّا لتسلسل القرارات يوضح النتائج المحتملة للتقييم الإداري بما يغطي المجموعة الكاملة من القرارات؛ بدايةً من إقرار بعض الموارد الاستراتيجية التي كان تعيينها في مواقعها مقبولًا، واستبقائها وتطويرها؛ وصولًا إلى الاستبدال الفوري للمديرين المشكوك في صلاحيتهم والذين يتولَّوْن مناصبَ حساسةً عند وجود بدلاء محددين لهم وتكاليف تغيير منخفضة. لم نبدأ مناقشة الحالات الفردية إلا بعد الاتفاق على العملية المنطقية الواجب اتباعها وتقييم كل مدير على حِدَة.
(٦) القوى المقاومة للتغيير
لنفترض أنك تعرف على وجه الدقة أين تقف؛ و(بناءً على هذا الفهم) تعرف ما يلزمك فعله، من حيث تغييرات الموظفين الضرورية لدفع مؤسستك قدمًا.
للأسف، هذا ليس جيدًا بالقدر الكافي؛ فالمعرفة شيء والتصرف بِناءً على هذه المعرفة شيء آخر تمامًا. سبق أن أشرت إلى صعوبة تنفيذ التغيير عندما يكون المرءوسون المقربون أو الزملاء القدامى جزءًا من عملية مطروحة لإعادة تنظيم المؤسسة. دعنا نُلْقِ نظرة أعمق إلى العوامل القوية التي تعمل على مقاومة التغيير. وسوف أشير هنا إلى ثلاثة عوامل.
الأمر ذاته ينطبق على تغييرات الموظفين. ربما تتفق أنت وزملاؤك من رواد التغيير اتفاقًا مطلقًا على إمكانية تحقيق مكاسب على المدى المتوسط والطويل، لكن المدى القصير يبقى غامضًا؛ من المرجح أن تتحمل المؤسسة تكلفة مرتفعة للبحث عن بدلاء وتعيينهم، ناهِيكَ عن التكاليف العاطفية شبه المؤكدة الناجمة عن إحباط بعض الموظفين الموجودين في المنصب، والاستبعاد المضني للبعض عن المؤسسة، وقطع روابط دامت طويلًا مع آخرين.
في ظل هذا السياق، من المرجح أن تعلوَ أصوات يسهل توقُّعها قائلة: إن الحاجة إلى التغيير ليست ماسَّة إلى هذا الحد؛ فلماذا ننفذه الآن؟
المشكلة المعتادة الثانية هي الاختلافات في القيم والثقافة. حسبما شهدْتُ من خبرات؛ فإن المدير ذا التقاليد الأنجلو-سكسونية المعتاد يكون أكثر ميلًا إلى تنفيذ ما يمليه التقييم الموضوعي من تغييرات في الموظفين مقارنةً بمدير معتاد يتبنى تقاليدَ أخرى تتغلب فيها العلاقات الشخصية على القواعد.
(٧) النزاهة
في ضوء هذه العوامل القوية المقاوِمة للتغيير (وأحيانًا تكون مجتمعةً!) تحتاج إلى بذل مجهود استثنائي لتبقى نزيهًا؛ أي عليك أن تتصرف بِناءً على ما تعلم أنه الصواب، حتى لو قَلَّ سالِكُو هذا الدَّرْب.
بينما أكتب ذلك اليوم، أنهيت لتوِّي لقاءً مع هاورد ستيفنسون، الذي يُعد أسطورة في مجال ريادة الأعمال والذي يعمل بجامعة هارفارد. طلبت منه خلال اللقاء أن يصف لي الأخطاء الأكثر شيوعًا والتي صادفها خلال اتخاذ القرارات المرتبطة بالموظفين، وذلك من واقع تجارِبه (في الوسط الأكاديمي، والأنشطة الخاصة بريادة الأعمال، وعدة مؤسسات عامة وخاصة)؛ فأجاب دون تردد قائلًا: «إن الإقالات لا تتم في مرحلة مبكرة بما فيه الكفاية.» أي إننا، بدلًا من التصرف بأمانة، نلجأ إلى المماطلة، والخداع، والمراوغة.
المسارعة بإقالة الموظفين؟ غالبًا ما ستطرح هذا السؤال. وماذا عن القيمة المؤكَّدة للولاء؟ أليس من المهم التمسك برجالك ومنحهم الاستقرار والأمن والفوز بولائهم وإنتاجيتهم؟
ما الذي يعنيه ذلك في المجريات اليومية لمجال تطوير الموظفين؟ يعني أن تضع قواعد واضحة وأن تلتزم بها. يتميز بعض شركات الخدمات المهنية في هذا الجانب؛ ففي شركة ماكنزي آند كومباني مثلًا يوجد نظام صارم يقضي بالترقية أو الرحيل ويطبَّق تطبيقًا حثيثًا، والاستشاريون الذين يلتحقون للعمل بالشركة يعلمون يقينًا أنه ليس أمامَهم سوى احتمال ضئيل للغاية كي يرتقوا في المناصب إلى أن يصيروا أعضاء في مجلس إدارة الشركة؛ احتمال يقل بالتأكيد عن ١٠ في المائة. ربما يبدو ذلك ظاهريًّا خيارًا مرًّا لتلك الشخصيات المثابرة رفيعة الإمكانيات والتي اعتادت النجاح في كل شيء تقريبًا؛ إذ لماذا أقبل وظيفة تبلغ فيها نسبة الإخفاق ٩٠ في المائة؟ لكن الواقع أن ما تتميز به قواعد الشركة من وضوح واتساق، إلى جانب الإدارة البارعة لعلاقات الشركة مع موظفيها السابقين، كل ذلك يتحد ليجعل من استقطاب الأشخاص المتميزين عملية أكثر سهولة؛ لذلك حين يتعلق الأمر بالأشخاص، يسعك أن تكون حازمًا حسب الضرورة طالما التزمت بالإنصاف.
-
(١)
الأمانة.
-
(٢)
الرؤية التطلعية.
-
(٣)
الكفاءة.
-
(٤)
القدرة على تحفيز الآخرين.
لطالما جاءت هذه الصفات الأربع بهذا الترتيب على رأس الصفات التي ذكرها المشاركون في الاستبيان، وذلك منذ ١٩٨٧، وهو العام الذي نشرت فيه نتائج الدراسة الاستطلاعية لأول مرة؛ فالناس يرغبون حقًّا في أن يلمسوا الأمانة في قادتهم. هل ستدفعك القرارات المرتبطة بالأشخاص إلى سحق نرجسية البعض وتدمير صداقاتك؟ بالتأكيد على الأرجح. هل سيحترم الناس قراراتك إذا اعتقدوا أنك التزمت بالأمانة في اتخاذها؟ من المؤكد تقريبًا. حين يتعلق الأمر بالقرارات الصعبة الخاصة بالأشخاص؛ فإن اتخاذ إجراءات حكيمة وعاجلة شرط أساسي للأداء المؤسسي ولنجاحك الشخصي.
(٨) تنفيذ التغيير
من أجل تنفيذ التغيير كما ينبغي، عليك أولًا أن تُبرم القرار بتغييره فعليًّا؛ فكما أشرت سابقًا، فإن تلك العملية ليست سهلة على الإطلاق؛ ليس فقط بسبب الجانب البشري والروابط الاجتماعية، بل أيضًا بسبب ميلنا إلى إنكار فشلنا؛ مما يزيد من التزاماتنا.
أما الخطوة الثانية فهي استخدام خارطة طريق للطوارئ التي تضع علامات إرشادية عند نقاط فاصلة وضعت سلفًا ليستدل بها صناع القرار في اتخاذ خياراتهم على مدار مدة المشروع أو عمر الشركة (وهذه الخارطة سأعتبرها المعادل لشجرة تسلسل القرارات الموضحة سابقًا) وذلك بمجرد إجراء التقييم.
•••
ماذا بعدُ؟ بعد أن تقرر تغيير أي مدير، ينبغي أن تنجز عملك وتتَّبع عملية منهجية لتحدد بالضبط ما يجب أن تبحث عنه في المدير الجديد.
وهذا هو موضوع الفصل التالي.