كيفية تقييم المرشحين
كنا في شهر يونيو من عام ١٩٩٤، وبرغم أنه كان صيفًا حسب التقويم، لكن الثلوج كانت تتساقط على جبال الألب السويسرية.
بعد ثماني سنوات من التحاقي بشركة إيجون زندر إنترناشونال، كنت على موعد مع دان ميلاند، الذي كان الرئيسَ التنفيذي لشركتنا آنذاك. (ثم صار لاحقًا الرئيس الثاني لمجلس الإدارة، خلفًا لمؤسس الشركة.) كنا أعلى وادي إنجادين الواقع ببونتريسينا، عَشِيَّة أحد مؤتمرات شركتنا، الذي كان سيحضره جميع زملائنا من جميع أنحاء العالم.
فاجأني دان بطلبه أن أقود أنشطة التطوير المهني الخاصة بشركتنا حول العالم؛ فكان رد فعلي مزيجًا من الحماس والقلق، وجاهرت بتساؤلي عمَّا إذا كنت لا أزال محدود الخبرة بما لا يلائم الْمَهمة؛ فأجابني دان بلطف بأنني لم أَعُدْ ذلك الشاب القليل الخبرة، وأنني أتمتع بالمصداقية اللازمة للاضطلاع بهذه الْمَهمة.
كان عرض دان، بشكل ما، جزءًا من تطور طبيعي؛ ففي غُضون الشهور التي سبقت هذا اللقاء في بونتريسينا، كنت أعمل بجهد جَهِيد مع زميلي داميان أوبراين لإنجاز مَهمة تشخيصية غير مسبوقة من أجل الشركة. كنا في محاولة لفهم مدى نجاحنا في إتمام مَهمتنا الخاصة بإضافةِ قيمةٍ إلى عملائنا، كما كنا نسعى لاكتشاف فرص لتحقيق تحسُّن كبير؛ فأجرينا تحليلًا لجودة عملنا في البحث التنفيذي في كل مكتب من مكاتبنا حول العالم، وعقدنا مقابلات مع كثير من العملاء في أنحاء العالم كافة، وتعاقدنا كذلك مع استشاري إداري ماهر متخصص في شركات الخدمات المهنية.
توصلتُ مع داميان إلى عدة استنتاجات؛ أولًا: أدركنا أن عملاءنا، بصفة عامة، كانوا يقدِّرون صدقنا والتزامنا وجودة المرشحين الذين نقدمهم لهم وتفهُّمنا لاحتياجاتهم المحددة. برغم جودة أدائنا على المستوى الإجمالي، كان من الواضح أن بعض مكاتبنا واستشاريينا كانوا يضيفون قيمة أعلى إلى عملائنا من آخرين؛ وذلك في ضوء تقييمهم بالمقاييس المادية كمعدل الإغلاق (أي نسبة مأموريات البحث التنفيذي التي تنتهي بتعيين فعلي)، وسرعة الإغلاق، والنجاح النهائي للمرشح المُعيَّن في الوظيفة.
انطلاقًا من هذا الكشف، بدأنا على الفور عقب مؤتمر شركتنا في بونتريسينا مَهمة ضخمة لدراسة أفضل ممارساتنا على مستوى العالم بمزيد من التعمق، وأتممنا هذا الجهد الداخلي بالتحليل الخارجي المنهجي لكل ما نُشِر من أبحاث حول موضوعات مرتبطة بعملنا المهني. أذكر شخصيًّا أنني قد ابْتَعْتُ أكثر من ١٠٠ كتاب فيما لا يزيد على بضعة أشهر (وقرأت أغلبها) بينما كانت أقسامنا البحثية حولَ العالم تنقِّب في الدراسات الأكاديمية المتناولة لمسائل ذات صلة. بالإضافة إلى ذلك، استطلعنا عددًا من البرامج التدريبية المعنِيَّة بتقييم المرشحين؛ إذ قررنا أننا نرغب في تحسين أدائنا في هذا الجانب على مستوى العالم.
أثمرتْ كلُّ عمليات البحث والتنقيب تلك نتائجَ مختلِطة؛ فقد أدركنا أن ثَمَّةَ عددًا كبيرًا من الأبحاث المنشورة حول كيفية تحسين قرارات اختيار الموظفين من خلال تحسين عمليات التقييم، وفي الوقت ذاته صرت على قناعة بأن أغلب الأكاديميين والمهنيين كانوا غافلين إلى حد كبير عن النقطة الأساسية في هذا المجال الحيوي؛ لذلك فسوف أُوجِز في هذا الفصل أفضل الممارسات المنشورة وقناعاتي الشخصية فيما يخص كيفية تقييم الأفراد بأكبر قدر من الفاعلية.
(١) الفرصة الكبرى
قبل أن نتناولَ ماهية التقييم وكيفيته، دعنا نُلْقِ نظرة أخرى على السؤال التالي: لماذا يُعَدُّ بذلُ الوقت والجهد والمال في سبيل تحسين تقييماتك هو فرصتك الكبرى لاتخاذ قرارات صائبة بشأن اختيار الموظفين؟
وصفْتُ في الفصل الثاني كيفية التقييم الكمِّي للعائد من قرارات اختيار الموظفين، وأشرت إلى النماذج التي يمكن استخدامها لحساب القيمة المتوقعة للاستثمارات في إيجاد أفضل المرشحين المحتملين، وتقييمهم، واستقطابهم. في حال كنت مهتمًّا بالتفاصيل، فسوف تجد في الملحق «أ» شرحًا لكيفية حساب تلك القيمة بِناءً على مثال لشركة متوسطة الحجم. يكشف ذلك المثال، اعتمادًا على افتراضات غاية في التحفظ، أن شركة يبلغ ربحها المتوقع بعد الضرائب ٥٠ مليون دولار يمكن أن تزيد القيمة المتوقعة لأرباحها السنوية بنسبة ٣٤ في المائة (١٧ مليون دولار).
سرعان ما يتضح أن التكلفة المتوسطة لعملية البحث تكاد لا تُذكَر إذا قورنت بالعائد المتوقع. إن العائد المتوقع لتحقيق تحسُّن بنسبة ١٠ في المائة في جودة تقييمات المرشحين يتمثل في أرباح إضافية كلَّ عام بحوالي مليوني دولار، وإذا حافظت على الجودة العالية للتقييمات على مدار السنوات، فإن هذا سيُتَرجَم بدوره إلى زيادة في قيمة الشركة بحوالي ٤٠ مليون دولار.
(٢) التقييمات: نظرة عملية
إذن ما الذي يَفِي بالغرض في الواقع؟ أيٌّ من تلك الطرق تتنبأ حقًّا بالأداء في الوظيفة الجديدة؟
شهدت عشرينيات القرن الماضي إجراءَ عدد من الأبحاث المثيرة للإعجاب والتي تناولت طرق التقييم، كما أثبتت سلسلة من الدراسات على مدار العقود الثلاثة الماضية أن المعلومات الخاصة بصلاحية أساليب التقييم الْمُستقاة من دراسات مختلفة يمكن جمعها لتوسيع أحجام العيِّنات والتوصل إلى نتائج أقوى، فيما يسمى «تعميم الصلاحية» (يشار إليه أحيانًا باسم «التحليل التجميعي»). أتاح تعميم الصلاحية الفرصة للوصول إلى نتائج مهمة بشأن القيمة النسبية لمجموعة متنوعة من طرق التقييم، ومن بينها الاتصال بالجهات المرجعية، وأنواع مختلفة من المقابلات الشخصية، وغيرها.
سوف تجد في الملحق «ب» قائمة بأسماء ما يقرب من ٥٠ مرجعًا تتضمن بضع قراءات تمهيدية مفيدة، وعددًا كبيرًا من الكتب التمهيدية حول إجراء المقابلات والاتصال بالجهات المرجعية. ويشمل كذلك ملخصًا بمراجع أكثر تقدمًا؛ لكنني سوف أعرض بإيجاز في الصفحات التالية ما أعتبره جوهر تلك الأبحاث جميعًا.
بادِئَ ذِي بَدْءٍ، ينبغي على أي أسلوب للتقييم أن يَفِيَ بشرطين أساسيين: يجب أن يكون مقبولًا من المرشح، وأن يتنبأ بالأداء الوظيفي. عادةً ما تتحقق أنسب مفاضلة بين قبول المرشح وصلاحية التقييم (أي قدرة أسلوب التقييم على التنبؤ بالأداء الوظيفي) من خلال مزيج فعال من المقابلات الشخصية والاتصال بالجهات المرجعية.
إلى جانب كل ما سبق، دائمًا ما يُجرى نوع من التحليل للسيرة الذاتية للمرشح؛ كما أن بعض الشركات تستكمل المعلومات الواردة في السيرة الذاتية بمجموعة أقْيَم من البيانات الشخصية، التي تشمل مزيدًا من المعلومات عن الخلفية الشخصية للمرشح وخبراته الحياتية.
بدأت البيانات الشخصية تشهد تطورًا عقب استخدامها بنجاح خلال الحرب العالمية الثانية للكشف عن الكفاءات بين الضباط العسكريين؛ لكنها تراجعت في العقود الأخيرة. أثبتت البيانات الشخصية موثوقيتها كمؤشر للتنبؤ بالأداء الوظيفي في مناصب المبتدئين، إلا أنها تُعَدُّ — مقارنةً بأغلب أساليب التقييم الأخرى — مؤشرًا ضعيفًا للغاية للتنبؤ بالأداء الإداري؛ كلما ارتقيت في المستويات المؤسسية، قلَّت قدرة البيانات الشخصية على التنبؤ على ما يبدو.
عادةً ما يُستعان بالجهات المرجعية في الواقع العملي بُغية استبعاد المرشحين، بما يساعد على تحديد مجموعة صغيرة نسبيًّا من المرشحين الذين ينبغي عدم مواصلة النظر في تعيينهم. يُجمِع أغلب المتخصصين على أن الاتصال بالجهات المرجعية ليس ذا فائدة كبيرة في التنبؤ بنجاح المرشح الوظيفي، إلا أنه قد يكون الوسيلة الوحيدة للتوصل إلى معلومات تشير إلى أداء وظيفي غير مُرضٍ.
قبل الخوض في تفاصيل كيفية إجراء المقابلات الشخصية والاتصال بالجهات المرجعية، دعنا نَتَقَصَّ بمزيد من التعمق عن بعض من التحديات الكبيرة التي تواجهنا عند الشروع في تقييم الأفراد، ومن بينها الأكاذيب، والخداع، والأحكام المتعجلة.
(٣) عن الأكاذيب، والاحتيال، والفضائح
قَصَّ عليَّ مؤخرًا زميلٌ لي في بوينوس أيريس حالةَ رئيس تنفيذي ادَّعى كذبًا أنه حاصل على درجة الماجستير في إدارة الأعمال، كما أن استعراضًا سريعًا لسيرته الذاتية كشف عن أنه بالغَ في أهمية منصبيه السابقين. إن مثل هذه النماذج تقع حتى في عالم بوينوس أيريس المحدود نسبيًّا، حيث يُفتَضَح أمر مثل هذه الأكاذيب لا محالة!
كما أسلفتُ في الفصل الثالث، فإننا نعيش زمنًا يُقِرُّ فيه جميعُ طلبة الكليات تقريبًا باستعدادهم للكذب في سبيل الحصول على وظيفة؛ ومِنْ ثَمَّ، فليس بمستغرب أن تكون الأغلبية الساحقة من السِّيَر الذاتية مضللة. لقد لقيت مرة مرشحًا يزعم أنه حاصل على شهادة جامعية في الهندسة من نفس جامعتي بالإضافة إلى درجة الماجستير في إدارة الأعمال من جامعة ستانفورد، غير أن الزعمين كانا كاذبين؛ فاتصلت بمن أرسل إليَّ هذا المخادع وأعلمته بما اكتشفت؛ فأصابه الذهول مثلي، وأخبرني أنه تعرَّف على ذلك الشخص في الكنيسة وكان فيما يبدو رجلًا رائعًا.
إن النقطة التي أوَدُّ تأكيدها هي، ببساطة، أننا نشهد تَفَشِّيًا للاحتيال والخداع، حتى في المجتمعات المترابطة وفي ظل توافر محركات البحث، وأن أكثر جذور هذا الخداع متأصلة في السِّيَر الذاتية.
(٤) أحكام متعجلة بسرعة الْبَرْق
في كتابه «في لمح البصر»، يُلقي مالكوم جلادويل الضوء على ميزات ومخاطر اختياراتنا السريعة والغريزية، بل اللاواعية. من بين النماذج التي أوردها لتوضيح هذه الظاهرة مثال وارين جي هاردينج، الذي ترقَّى، بِناءً على مؤهلات تحيطها الشكوك، من وظيفته كمحرر صحفي في بلدة صغيرة ليصير رئيس الولايات المتحدة الأمريكية.
من بين الأمثلة الأخرى على مخاطر الأحكام المتعجلة المواعدة السريعة، التي انتشرت على نطاق واسع في الأعوام الأخيرة. في فعاليات المواعدة السريعة، يُمضي عدة رجال ونساء قليلًا من الوقت في تبادل الأحاديث (حوالي ست دقائق في المعتاد) قبل أن يقرر الطرفان ما إذا كانا يرغبان في تكرار اللقاء أم لا، ثم ينتقل كل منهما بعد ذلك إلى المواعدة التالية؛ ومِنْ ثَمَّ يتعرف كل منهما على ما يقرب من ١٠ أشخاص في الساعة الواحدة. بمعنًى آخر، يَلْقَى المشاركون في تلك الفعاليات عدة أشخاص في فترة زمنية قصيرة للغاية، دون إهدار وقتهم في خيارات غير مرغوب فيها.
وجد الباحثان أن المشاركين بلغ تأثرهم بالشخص الذي انجذبوا إليه حدًّا جعلهم يغيرون فورًا معايير بحثهم عن شريك حياتهم؛ فقد اتضح، بشكل مطرد، أن المشاركين كانوا مهتمين بأمور محددة قبل الفعالية، ثم صاروا — في خضم الانفعال باللحظة — مهتمين بأمور مختلفة. لكنهم عادوا، بعد مرور ستة أشهر من الفعالية، إلى معاييرهم الأصلية.
تتفق هذه النتيجة تمام الاتفاق مع خبرتي الشخصية بالأفراد الذين يعدِّلون من معاييرهم عقب مقابلتهم لمرشح حازَ على إعجابهم الشديد، بحيث تلائم معاييرهم الجديدة ذلك المرشح؛ لكن المعايير في الحالتين ليست صحيحة!
تبيَّن أن الأحكام على الأشخاص تصدر بسرعة أكبر من الأحكام على الأشياء؛ من المذهل أننا حين نلقى شخصًا ما لأول مرة، تُبادر أجزاء دماغك المسئولة عن تكوين الأحكام بإصدار حكمك الأولي (إما لصالح هذا الشخص أو ضده) في جزء من عشرين من الثانية فقط.
يتضح من ذلك شيء واحد على الأقل؛ وهو أننا نحتاج إلى التعامل مع تقييمات الأشخاص بعناية خاصة، وأن نُوليها جهدًا واعيًا لتجنُّب الوقوع في الأحكام المتعجلة.
(٥) المقابلة الوظيفية غير الفعالة
عادةً ما يحدث ذلك حين يحاول من يُجري المقابلة أن يُقنع المرشح بالمؤسسة والوظيفة؛ لكن من الواضح أن هذا بمنزلة وضع العربة أمام الحصان؛ فالهدف في هذه المرحلة هو جمع ما يكفي من المعلومات من المرشح لمعرفة ما إذا كان بإمكانه أداء الوظيفة بنجاح، وبعد أن تتحقق من أن لديك المرشح الصحيح، يمكنك أن تبدأ في إقناعه بالوظيفة.
غالبًا ما تكون المقابلات المعتادة غير منظمة بدرجة كبيرة، ودون إعداد جيد بدراسة الكفاءات المزمَع تقييمها والأسئلة الواجب طرحها؛ مما يؤدي إلى محدودية صلاحيتها بدرجة كبيرة؛ إذ تُقدَّر هذه الصلاحية بحوالي ٠٫٣، وهو ما يعني أن المقابلات بإمكانها تفسير أقل من ١٠ في المائة من التفاوت في أداء الوظيفة الجديدة؛ إلا أن إضافة الهيكل المناسب — كما سأوضح فيما يلي — يمكن أن تَزيد من صلاحية المقابلة الفعالة بأكثرَ من الضِّعف وتجعلها أفضل أساليب التقييم، لا سيما في المناصب العليا المعقدة.
(٦) من الخبرة إلى الكفاءة
تُعتبر السلوكيات الماضية أفضلَ أساس للتنبؤ بالسلوك المستقبلي؛ لذا إذا عثرت على فرد حقق المستوى المطلوب من الأداء في وظيفة مماثلة للوظيفة التي تجري التقييم لشغلها؛ فإن ذلك سيسهم في تبسيط مشكلتك كثيرًا. لكن تحقيق هذا الأمر ليس سهلًا، كما أن هذا النهج يفترض أن هذا المرشح المثالي لديه الدافع إلى أن يغادر منصبه الحالي ليبدأ في تنفيذ المهامِّ ذاتها مرة أخرى في مكان جديد نوعًا ما، ولو اتبع الجميع هذا النهج؛ فلن يترقى أحد أبدًا إلى مناصبَ أعلى أو وظائف مختلفة.
لذلك فأنت تحتاج، على أرض الواقع، إلى أن تستقر على المواصفات التي تبحث عنها (كما هو مذكور في الفصل الخامس) وأن تُعد قائمة بأهم الكفاءات المطلوبة في الوظيفة الجديدة. عليك بعد ذلك أن تقيِّمَ الأداء الذي أبداه المرشحون في وظائف مختلفة، وتفحص الكفاءات التي أثبتوها في تلك الظروف المختلفة، ثم تتحقق من ملاءمة هذه الكفاءات لتلك المطلوبة في المنصب الجديد، وعلى أساس هذه الملاءمة يمكنك التنبؤ بأداء المرشحين.
كثيرًا ما تسيء الشركات التعامل مع عملية تقييم الأداء من خلال الكفاءات؛ إذ أحيانًا ما تبرز المشكلة حين يلجأ المسئول عن التقييم إلى استخدام منهج نمطي، معتمدًا على كفاءات عامة لم تثبت صلاحيتها أو لا علاقة لها بالوظيفة المحددة، كما أنه قد يُخفق أحيانًا في التعامل الصحيح مع جانب المعادلة المعنيِّ بكفاءات المرشح. لكن برغم كل ما سبق، حين ينجز المقيِّم الصحيح وظيفته كما ينبغي، يمكن للتنبؤ بالأداء المستقبلي من خلال هذا الأسلوب أن يحقق أعلى مستويات الصلاحية بين جميع أساليب الانتقاء.
نشر ديفيد ماكليلاند عام ١٩٩٨ مقالًا (أتمه زملاؤه بعد وفاته) أثبت فيه قيمة منهج الكفاءة في التنبؤ بالأداء والاستبقاء. استطاع ماكليلاند، باتباع منهجه في تحديد الكفاءات التي تُميز أصحاب الأداء الفائق عن أصحاب الأداء المتوسط في وظائف معينة، أن يتوصل إلى الكفاءات المنتجة للأداء الفائق في نوع محدد من الوظائف. وقد شملت هذه الكفاءات (في تلك الحال): التوجه القائم على الإنجاز، والتفكير التحليلي، والتفكير المفاهيمي، وتنمية الآخرين، والمرونة، والقدرة على التأثير، والتماس المعلومات، والمبادرة، واستيعاب الآخرين، والوعي المؤسسي، والثقة بالذات، وقيادة الفريق.
تضمنت دراسة أخرى مثيرة للاهتمام (أجراها ريتشارد بوياتسيس) قيادات شركة استشارات متعددة الجنسيات. كشف بوياتسيس في هذه الدراسة أن مدى تكرار اتصاف تلك القيادات بطائفة متنوعة من الكفاءات يمكن أن يتنبأ بقوة بالأداء المالي خلال الأرباع السبعة التالية لتقييم الكفاءة. لم يكتفِ بوياتسيس بدراسة الكفاءات اللازمة للوصول إلى الأداء الفائق، بل حلل أيضًا القدر المطلوب من الكفاءة الذي يُعتبر كافيًا لإحراز الأداء الفائق.
لاحظ أن هذه الدراسة ركزت على قيادات شركة استشارات، حيث من المفترض أن يكون كلٌّ من المعرفة الفنية والذكاء التقليدي المفاتيح الضرورية للنجاح؛ لكن الكفاءات المعرفية أخفقت، في واقع الأمر، في تفسير أغلب الفروق بينما كان للكفاءات القائمة على الذكاء العاطفي تأثير ضخم؛ فعلى سبيل المثال، أشار بوياتسيس إلى مجموعة من الكفاءات التي أسماها «مجموعة إدارة الذات»؛ كاستعداد القائد لاتخاذ مواقف خطيرة، وقدرته على ضبط الذات، والتكيُّف، ويقظة الضمير، والقيم.
اقتبس بوياتسيس من نظرية التعقيد تحليل نقطة التحول واستعان به في دراسته، وذهب إلى أن حساب الإيرادات للقادة الذين وقعت إدارتهم الذاتية أسفلَ نقطة التحول بلغ حوالي ٩٠٠٠٠٠ دولار، بينما بلغ حساب الإيرادات لمن تجاوزت إدارتهم الذاتية نقطة التحول ما يقرب من ٣ ملايين دولار.
يُعد هذا مثالًا رائعًا على مبدأ «الأقل أفضل». لو حددت الكفاءات التي تتنبأ بالأداء الوظيفي الفائق وركزت عليها وحدها، فسوف تحقق تقييمات أفضل كثيرًا واختيارات أقوى للمرشحين، وستبذل جهدًا أقل في العملية.
إيجازًا لما سبق، تؤكد الأبحاث أن تحديد الكفاءات الْمُهِمَّة لأداء وظيفةٍ ما وتقييمها من خلال مقابلات شخصية فعالة إنما هو أسلوب في غاية الصلاحية والقوة للتنبؤ بالأداء الفائق.
(٧) المقابلة الشخصية الفعالة
يوجد منهجان متمايزان لإجراء المقابلات المنظمة: يضم المنهج الأول طرح أسئلة سلوكية، وهي المعنية بفهم السلوك الذي صدر عن المرشح في موقف حقيقي، الذي قد يكشف ما إذا كان المرشح يتمتع بالكفاءات الصحيحة المطلوبة للوظيفة الجديدة أم لا. أما المنهج الثاني فهو طرح أسئلة ظرفية؛ إذ يُسأل المرشحون عن أنماط التصرفات التي سيُقدِمون عليها في مجموعة متنوعة من الظروف ذات الصلة بالوظيفة. وبرغم ما للمنهجين من ميزات؛ فإنني أفضل المنهج السلوكي.
(٨) نقل مهارات إجراء المقابلات إلى الآخرين
يذكرني موضوع مهارات إجراء المقابلات بموقف عصيب مر بي في الماضي. كنت أعمل على تطوير برنامج تدريب على إجراء مقابلات في شركتنا، وكنت فأْرَ التجربة الأول للمشروع. بينما كنت أُجري مقابلة شخصية مع مرشح (كان، في الواقع، أحد طلاب الدراسات العليا وأبدى استعداده لمساعدتنا)، كان ثلاثة مدربون جالسون خلفَه يراقبونني باستمرار، مُلْمِحين إليَّ بإشارات بصرية بشأن ما ينبغي عليَّ فعله، وكان يجب عليَّ — في الوقت ذاته — أن أعالج تعليماتهم، وأن أُصغيَ إلى المرشح بفاعلية، وأقيم معه علاقة وُدِّيَّة، وأطرح عليه أسئلة وجيهة هامة، وأَسْبُر أَغْوارَه، وأسجل مع هذا كله ملاحظات مفيدة، وكان يجري تسجيل العملية بِرُمَّتِها على شريط فيديو!
لم تستغرق الجلسة أكثر من نصف ساعة، لكنها كانت بالنسبة لي كأنها الدهر. كم كان ذلك شاقًّا! على الرغم من أنني كنت أمتلك، آنذاك، تسع سنوات من الخبرة في البحث التنفيذي؛ فإنني شعرت بأنني كنت أفتقر إلى المهارة والفاعلية.
أمضينا نحن الأربعة وقتًا طويلًا في استخلاص المعلومات والتحقق من أن استنتاجاتي تتماشى مع خبرتهم. كان الجانب الإيجابي أنني نجحت، بمساعدة المدربين الثلاثة، في استخلاص معلومات مفيدة إلى حد كبير خلال النصف ساعة التي جرت خلالها المقابلة.
بالنسبة لي، أكدت تلك التجربة المضنية نتائج الأبحاث ذات الصلة؛ ومفادها أن الخبرة وحدَها لا تكفي لتحسين مهارات من يُجري المقابلة الشخصية. برغم أنني أجريت آلاف المقابلات الشخصية قبل هذه المقابلة، غير أن هذه الواحدة حسنت من قدراتي؛ لذلك، فالدرس العامُّ المستفاد من هذه التجربة هو أن التدريب والخبرة معًا يمكن أن يشكلا مزيجًا فعالًا، وأن تقمص الأدوار هو الأسلوب الأقوى للتدريب على إجراء المقابلات.
لقد أكدت التجربة داخلَ شركتنا قيمة هذا التدريب؛ فقد اكتشفت بعد مرور عامين على برنامجنا التدريبي أن زملاءنا اللامعين (الزملاء الذين نجحوا في دمج ما تعلموه من البرنامج في عاداتهم الوظيفية) حققوا معدل إغلاق أعلى بنسبة ٢٠ في المائة، وكانوا أسرع في عملية الإغلاق بشكل عامٍّ بنسبة ٤٠ في المائة.
(٩) تفسير التعبيرات الدقيقة
تهدف جميع هذه البرامج التدريبية التقليدية إلى تحسين العملية وتنمية المهارات الواعية الخاصة بإجراء المقابلات، كما تتضمن أيضًا بعض الاستراتيجيات التي تساعدنا على إدراك تحيزاتنا وأخطائنا اللاواعية وتصحيحها.
تُظهِر التطورات الحديثة فيما يبدو أننا — إلى جانب كل ما سبق — قد ننجح في تدريب أنفسنا على كشف ما يُبديه المرشحون من تعبيرات دقيقة؛ وهي إشارات عاطفية صغيرة وخَفِيَّة تبدو خِلْسَةً على الوجه في أقل من ثلث الثانية، وتظهر بسرعة خاطفة بحيث تبقى غالبًا خارجَ إدراكنا الواعي.
أورد دانيال جولمان في كتبه «الذكاء الاجتماعي» قصةَ رجل ذهب إلى سفارةٍ طالبًا تأشيرة سفر، وحين سأله مَنْ أجرَى المقابلة معه عن سبب رغبته في الحصول على تأشيرة سفر، ظهرت على وجه الرجل لحظة تردد خاطفة، ثم اختفت. قطع القائم على المقابلة الجلسة وراجع بنك معلومات الإنتربول (الشرطة الدولية)، واكتشف أن الرجل كان مطلوبًا من الشرطة في عدة بُلْدان. أشار جولمان أن قدرة من أجرى المقابلة على رصد هذا التعبير الخفي والخاطف إنما تعكس موهبته المتطورة للغاية في التعاطف الأولي.
لكن ثمة المزيد؛ إن القائم على المقابلة لم يكن يمتلك هذه الموهبة بالفطرة، بل تلقَّى تدريبًا على التعاطف الأولي باستخدام أساليب بول إيكمان، الذي يُعَدُّ مرجعية في قراءة العواطف من تعبيرات الوجه. استحدث إيكمان طريقةً لتعليم الآخرين كيفية تحسين قدرتهم على التعاطف الأولي، برغم طبيعته اللاواعية وشبه اللحظية.
يروي جولمان أنه حين لقي إيكمان لأول مرة في ثمانينيات القرن العشرين، كان إيكمان قد قضى عامًا محدقًا في مرآة محاولًا أن يتعلم كيفية التحكم الإرادي في كل عضلة من عضلات الوجه التي يقارب عددها مائتي عضلة، مستخدمًا في بعض الأوقات صدمة كهربائية خفيفة لعزل بعضٍ من عضلات الوجه التي يصعب تمييزها. نتيجة لهذه الجهود، تمكَّن إيكمان من وضع مخطط دقيق حدد من خلاله كيف تتحرك مجموعات العضلات المختلفة لتُنتج — من خلال التعبيرات الدقيقة — كلَّ عاطفة من العواطف الرئيسية وأشكالها المختلفة.
قد لا تحتاج إلى مثل هذا النمط المحدد من التدريب الذي قدمه إيكمان ما لم تكن تدرس مرشحين لمناصب أمنية أو معنية بمكافحة الإرهاب؛ لكن نموذج التعبيرات الدقيقة يذكِّرنا بأن ما خفي عن العين ربما كان أعظم، وأن تحسين وعيك ﺑ «الإشارات الضعيفة» يمكن أن يكون ذا فائدة بالغة.
(١٠) مستقبل التقييم؟
من المرجح أن يكون للتطورات المحققة في العلوم العصبية أثرها في التغيير الجذري لقدرتنا على تقييم البشر على نحو يبدو قويًّا ومخيفًا في آنٍ واحد. اخترع لورانس إيه فارويل أسلوبًا أسماه «البصمة الدماغية»، وهو عبارة عن تكنولوجيا حاسوبية تُستَخدم في تحديد مرتكب جريمة ما من خلال قياس استجابات موجاته الدماغية لكلمات أو صور متعلقة بالجريمة تُعرَض على شاشة حاسوب. يُثَبِّت فارويل، بِناءً على هذه التكنولوجيا، عصابة مزودة بالْمِجَسَّات على رأس المشتبه به، ثم يعرض على شاشةٍ أمامَه سلسلةً من الصُّوَر، ويرصد الانفعالات غير الإرادية التي يُبديها المشتبه به حيالَ هذه الصور، وإذا كان ثمة شيء مألوف في إحدى الصور بالنسبة له، فإن ذلك يطلق استجابة كهربائية تبدأ خلال ٣٠٠ و٨٠٠ جزء من الألف من الثانية عقب حدوث المحفز.
إن هذا الأسلوب، الذي يبدو وكأنه ضَرْب من الخيال العلمي، يستوفي في الواقع معايير الموثوقية والصلاحية الخاصة بالمحكمة العليا بالولايات المتحدة الأمريكية، وأحرز بالفعل بعض قصص النجاح المذهلة؛ فعلى سبيل المثال، نقضت محكمة آيوا العليا إدانتها لشخص بارتكاب جريمة قتل بعد مُضِيِّ ٢٤ عامًا؛ وذلك بعد أن أيَّد اختبار البصمة الدماغية ادِّعاء البراءة الذي رفعه الرجل الْمُدان منذ أمد بعيد. وعقب ذلك بفترة قصيرة، تراجع شاهد الادعاء الرئيسي عن شهادته، معترفًا أنه اتَّهم السجين زورًا خوفًا من أن يُتَّهم هو بارتكاب الجريمة.
وفي قضية أخرى شهيرة، مكَّن هذا الأسلوب الشرطة من إلقاء القبض على سفَّاح. كان هذا الفرد محلَّ اشتباه في قضية قتل ظلَّت معلقة لمدة ١٥ عامًا إلى أن أظهر اختبار البصمة الدماغية أن السجل المخزَّن في دماغه يطابق تفاصيل جوهرية لمسرح الجريمة لا يعلمها سوى مرتكبها فقط. أقَرَّ القاتل — بعد مواجهته بإدانة شبه مؤكدة وحكمًا محتملًا بالإعدام — بجريمته مقابل تخفيف الحكم إلى السجن مدى الحياة، كما اعترف بارتكابه ثلاث جرائم قتل أخرى كانت معلقة، كان ضحاياها ثلاث نساء.
توصل أكثر من ١٧٠ دراسة علمية للبصمة الدماغية، حسبما أفاد فارويل، إلى أن هذا الأسلوب يتمتع بدقة تبلغ ١٠٠ في المائة في تحديد ما إذا كان الخاضعون للاختبار تعرَّفوا على محفزات الاختبار أم لا، وقد تضمنت هذه الدراسات مجرمين معروفين وعملاء لمكتب التحقيقات الفيدرالي وخبراء طبيين عسكريين.
باستطاعتك وضع تصوُّر محتمل لما يمكن أن يُحدثه هذا النوع من التكنولوجيا من ثورة في عالم التقييمات، إلا أنني، بصراحة، أشك في أننا سنرى ما يشبه اختبار البصمة الدماغية مستخدَمًا في تقييمات المرشحين خلال المستقبل القريب؛ فإلى جانب مسائل الخصوصية والقضايا الأخلاقية، توجد المسألة البديهية المتعلقة بموافقة المرشحين؛ (إذا لم يتعاونوا فلن ينجح هذا الأسلوب.) لكنني أشرت إلى هذا الأسلوب في ذلك السياق لِأُبْرز، مجددًا، الخفايا التي تلعب دورًا في عملية التقييم.
(١١) منهج أفضل: المعادلة الذكية
إيجازًا للأبحاث التي أوردتها حتى الآن، يمكننا أن نحسِّن من جودة تقييماتنا بالاستعانة بمقابلات شخصية حسنة التنظيم وقائمة على السلوكيات، وذلك على افتراض أننا حددنا بالفعل الكفاءات المهمة لأداء الوظيفة. يُعتبر مثل هذه المقابلات أفضل الأساليب التقييمية حين يتعلق الأمر بالمناصب العليا والمعقدة، وبوسعك أن تُجيد هذه المقابلات من خلال الجمع بين الممارسة المكثفة والتدريب المناسب.
هذا هو الجانب الإيجابي. أما الجانب السلبي فهو أنني، منذ ما يقرب من عشر سنوات وبعد إنجازي لأول استعراض شامل لجميع الأبحاث ذات الصلة التي كانت موجودة آنذاك، توصلت على مَضَض إلى الاستنتاج القائل بأن أغلب الأكاديميين كانوا في أكثر الأحيان يغفلون عن الجوهر الحقيقي للمسألة، ويقعون في فخ التوصل إلى نتائج ذات أهمية إحصائية لكنها غير ذات صلة من الناحية الإدارية؛ لقد كانوا منغمسين في التفاصيل وعاجزين عن رؤية الصورة الكلية.
أجل، قد تساعدك المقابلات جيدة التنظيم على تحقيق مستوًى من الصلاحية أعلى مما تحققه أية وسيلة تقليدية أخرى، لكن أقصى قدر من الصلاحية قد تأمُل تحقيقه هو ٠٫٧ تقريبًا، وصلاحية بهذا القدْر تَعني أن التقييم لن يفسر التفاوت في الأداء إلا بنسبة تقل قليلًا عن ٥٠ في المائة. ماذا عن النصف الآخر المفقود؟ أيجدر بك حقًّا أن تعيِّن شخصًا في وظيفة مهمة اعتمادًا على أدواتٍ قدرتها التنبؤية ضعيفة نسبيًّا؟
علاوة على ذلك، ركَّز أغلب الأبحاث الضخمة إلى الآن على المناصب الدنيا. إذا كان فارق الأداء الإداري في المناصب العليا أكبر ودرجة تعقيدها أعلى (كما رأينا في الفصول السابقة) فإن صلاحية تلك الأساليب ستكون بالضرورة أقل في تلك المناصب العليا.
كما أن ثمة عوامل أخرى مهمة يقصر عن تناولها أغلب الجهود الأكاديمية الخاصة بالتقييم؛ فأغلبها، مثلًا، يُعير اهتمامًا ضئيلًا للفرد القائم على التقييم (في مقابل الأسلوب المُستخدَم)؛ يهمل معظمهم الاتصالات بالجهات المرجعية أو يقللون من شأنها؛ ويتجاهلون في المجمل المسألة الأساسية المتعلقة بعدد التقييمات الواجب إجراؤها.
أما الجانب الأيسر من المعادلة فيمثل الفوائد المتوقعة من التقييم الجيد. لو كان لديك أشخاصٌ أَكْفاء يَستخدمون الأساليب الصحيحة ويَعملون بطريقة منسَّقَة داخلَ مؤسستك؛ فسوف تحظَى بتقييم ممتاز يتيح لك تعيين مرشحين يقدِّمون أداءً وظيفيًّا أعلى ويبقون في مؤسستك لفترة أطول، وسوف يعكس ذلك، في الوقت ذاته، صورة قوية جدًّا لمؤسستك في السوق، وأخيرًا، ستعمل بكفاءة أكبر بِمَنْأًى عن التقييمات غير المهمة، أو عديمة الصلاحية، أو الزائدة عن الحاجة؛ ومِنْ ثَمَّ ستحمي وقت فريقك الإداري من الإهدار.
انظر إلى المعادلة الذكية باعتبارها قائمةً مرجعية للتقييم. هل تُعَدُّ جميع هذه العوامل عناصر فاعلة في مؤسستك؟ أتحصل مؤسستك على جميع الفوائد المذكورة؟ إذا كانت الإجابة بالنفي، فما التغييرات المطلوبة؟
(١٢) جهات مرجعية لا تُقدَّر بثمن
قُبيل نهاية عام ١٩٩٤، وبعد بضعة أشهر من مؤتمر شركتنا في بونتريسينا، عقدْنا اجتماعًا في أمستردام لفريق التطوير المهني الخاص بشركتنا حولَ العالم، وكان من بين المشاركين صاحب هذه السطور، وعدة زملاء من جميع أنحاء العالم، ومدير شركتنا التنفيذي، دان ميلاند. كنا قد أجرينا، بحلول هذا الحين، بحثًا داخليًّا وخارجيًّا كبيرًا، وكنا نتناول بالتحليل المفصَّل العوامل المنتجة لِمَا أحرزَتْه عدةُ مكاتبَ لنا من أداءٍ متميز. لقد تمكَّنَتْ، في واقع الأمر، مجموعةٌ صغيرة من المكاتب من جمع سجلات أداء مذهلة وبناء سمعة ممتازة لها.
كان لدى دان آراءٌ راسخة بشأن ما كان يراه السبب الأوحد والأهم خلفَ ذلك الأداء المذهل. في رأيه، لا يُقدِم الاستشاريون في تلك المكاتب على تقديم مرشح دون أن يدرسوه دراسة متفحِّصة بالتعاون مع عدة أفراد، على علاقة وثيقة مع هؤلاء الاستشاريين، وسبق أن رأوا المرشح أثناءَ أداء عمله، وبإمكانهم منحنا جهات مرجعية زاخرة وتتسم بالموضوعية والرؤية المتبصِّرة والموثوقية. كما أن لتلك المكاتب الناجحة تقليدًا يتجمعون بمقتضاه بشكل منتظم ويتقاسمون تلك الجهات المرجعية الثمينة بين الاستشاريين.
تحدَّث دان بقناعة مطلقة حول موضوع الجهات المرجعية. كانت النقطة الضمنية التي طرحها، كما سمعتها منه، هي أن علينا دائمًا أن نتحلى بالتواضع، وأن نتذكر أنه مهما بلغت خبرتنا في عقد المقابلات الشخصية، فسيوجد في النهاية دائمًا مرشحون محتملون قادرون على خداعنا وتضليل عملائنا، وأن هذه مجازفة لا يَسَعُنا خوضها.
استوعبت مَقْصِد دان؛ لكنني سألته عن مدى واقعية الحصول على تلك الجهات المرجعية الواسعة وغير المتحيزة من مصادر معروفة في أسواق كبيرة للغاية. (كان بعض من مكاتبنا الأعلى أداءً يعمل في أسواق يتراوح حجمها بين الصغير والمتوسط.) أجاب دان أن من خلال تخصص الاستشاريين، إما بحسب القطاع أو الْمَهمة، يمكن لأكبر الأسواق أن تتحول إلى عالم صغير في نهاية المطاف وأن يكون لدينا دائمًا أشخاص معروفون لواحد منا أو أكثر مِمَّن قد عملوا عن قُرب مع أي مرشح محتمل في أحد المستويات العليا.
في لحظة ما من مناقشتنا، سار دان إلى سبورة ورقية مدون عليها قائمة موجزة لمختلف العوامل التي ساهمت في النجاح الباهر لهذه المكاتب اللامعة. تناول دان قلمًا أسودَ خطاطًا ورسم بجانب كل عاملٍ نجمةً أو نجمتين أو ثلاثًا؛ فكانت «الاتصالات الملائمة بالجهات المرجعية» هي العامل الوحيد الذي نال ثلاث نجمات.
واليوم، بعد مرور أكثر من عَقد على هذا الاجتماع، لا زلت أعتقد أنه كان أنفع درس تلقيته في كيفية إنجاز تقييم ذي صلاحية وموثوقية. استثمرت شركتنا، منذ ذلك الحين، أموالًا طائلة لتنمية رأس مالنا الفكري، وتحديد الكفاءات المطلوبة للنجاح في المستويات العليا، ووضع مجموعة متميزة من الكفاءات المقيَّمة التي أضافت قوة عظيمة إلى تقييماتنا، بالإضافة إلى تدريب الاستشاريين العاملين في مكاتبنا. ومع جميع تلك الاستثمارات الضخمة، لا زلنا على قناعة بأن الاتصالات الملائمة بالجهات المرجعية شرط جوهري لتحقيق النجاح في أي تقييم.
لا شك أن القادة المتميزين خارجَ مجالنا يتبعون المبدأ ذاته؛ حين سألت جاك ويلش عن كيفية وصوله — بكل ما تحمله الكلمة من معنًى — إلى حقيقة المرشح في تلك المرات القليلة التي بحث فيها عن مرشحين خارجيين؟ أجابني بأن لديه داخل الشركة موظفين يتصلون بأفراد في نفس المجال (لا في نفس الشركة) لتجميع صورة متكاملة للمرشح. وأخبرني كذلك أنه لم يثق قَطُّ بالجهات المرجعية المقدمة من المرشح، أما آراء أقران المجال فكانت مصدرًا ثمينًا للمعلومات.
(١٣) الاتصال الصحيح بالجهات المرجعية
يخدم الاتصال الصحيح بالجهات المرجعية ثلاثة أغراض؛ أولًا: يمكن الاستعانة بهذه الجهات في مرحلة مبكرة للتحقق من مؤهلات المرشح الأساسية. ومن أمثلة ذلك، مراجعة الجامعات الواردة في السيرة الذاتية للتأكد من الخلفية التعليمية، والاتصال بالشركات الواردة للاستيثاق من التواريخ والدرجات الوظيفية، بل إن إشراك الشركات المتخصصة في تحريات السير والسلوك قد يقطع شوطًا طويلًا نحو استبعاد المحتالين والمخادعين. ربما يبدو ذلك بديهيًّا، غير أن عددًا مذهلًا من الشركات تُخفق في الوفاء بهذا الشرط المبدئي.
يُعد استبعاد المحتالين الواضحين مستوًى أساسيًّا من الاتصال بالجهات المرجعية، أما المستوى الثاني فيشمل إيجاد الأشخاص القادرين على التحقق من أن الإنجازات التي أوردها المرشح نفسه حقيقية، وأن المرشح يتمتع بالقدر الذي يزعمه من الكفاءة. من خلال هذا النوع الثاني من الجهات المرجعية، من المهم التحقق من الكفاءات الأساسية القائمة على الذكاء العاطفي. برغم طبيعتها غير الملموسة ومن ثَمَّ صعوبة تقييمها؛ فإن هذه الكفاءات حيوية لتحقيق النجاح.
أخيرًا، يساعدك النوع الثالث من الجهات المرجعية على توجيه انتباهك إلى الكفاءة والإمكانيات الكامنة؛ بُغْيَةَ اتخاذ قرار التعيين، والتأكد من نجاح المرشح في المنصب الجديد، وجمع المعلومات الضرورية لدعم عملية دمج المرشح المُعيَّن في سياق المؤسسة.
لكن كيف ستتعامل مع هذه الجهات المرجعية بالفعل؟ هناك ممارستان أساسيتان هما الأفضل؛ أولًا: عليك أن تقرر الجهات التي ستتواصل معها، وهو ما يعتمد على نوع الكفاءات التي تحاول تقييمها؛ فلكي تقيِّم كفاءاتٍ مثل التوجه إلى النتائج، أو التوجه الاستراتيجي، أو التوجه التِّجاري، يُعَدُّ المدير السابق للمرشح جهةً مرجعية جيدة جدًّا، أما زميل العمل فوضعه يتيح له تقييم مهارات التعاون والتأثير، بينما يمكن لمرءوسي المرشح المباشرين سابقًا أن يقدموا تعليقاتٍ مفيدةً على كفاءة المرشح في جوانب قيادة فِرَق العمل وقدرته على تنمية الآخرين. عليك في جميع الأحوال ألَّا تُقيِّدَ نفسك بالجهات المرجعية التي قدمها المرشح ابتداءً، بل اتفق معه على جهات إضافية لخدمة أهدافك. وبينما تُعِد هذه القائمة، حاول أن تفهم طبيعة العلاقة بين الجهة والمرشح، بما في ذلك الصراعات المحتملة (كما هو الحال حين يرشح الموردون أفضل عملائهم).
ثاني أفضل الممارسات الخاصة بالتعامل مع الجهات المرجعية هي أن تتواصل معهم بنفس الطريقة المتبعة عند إجرائك مقابلة منظمة قائمة على السلوك مع مرشح ما، بمعنى أن تبدأ بوضع مخطط لأسئلتك الرامية إلى التحقق من الكفاءات المهمة التي تَوَدُّ تقييمها. عند الاتصال بالجهات المرجعية، عليك أولًا أن تتحقق من علاقتهم بالمرشح، ثم توضح لهم نوعية الموقف الذي تدرس لأجله المرشح، وتتأكد منهم ما إذا سبق لهم ملاحظة المرشح في موقف مشابه. تعرَّف، في تلك الحالة، على ما فعله، والطريقة التي حقق بها النتائج، وأية دلائل تشير إلى مستوى كفاءته. يجدر بك أن تنتهز الفرصة لجمع أية حقائق أخرى ذات صلة قد تساعدك على إنجاز تقييم أكثر موثوقية وإبرام قرار التعيين أو رفضه، وكذلك الاستعداد لإدماج المرشح المعيَّن على نحو أكثر فاعلية.
يمكن للمهنيين، في بعض الأحوال، أن يُضيفوا قيمة ملموسة في هذه المرحلة. تأكد، مرة أخرى، من أن الاستشاريين العاملين لديك يتمتعون بقدر كبير من الاستمرارية والتخصصية في الأسواق والمهام والقطاعات ذات الصلة. وتحَقق، كلما أمكن، أن لديهم ثقافة داخلية تحثُّ على الاجتماع وتبادل المعلومات المرتبطة بالمصادر، والجهات المرجعية، والمرشحين. إن المعرفة التي يمتلكها هؤلاء الاستشاريون ينبغي أن تتدفق بحرية بين المهنيين العاملين في الشركة لكي تتحقق الاستفادة منها.
(١٤) انتقاء مَن ينتقي
هل تفضل الاستماع إلى عازف بيانو متوسط وهو يعزف على آلة بارعة أم تستمع إلى عازف بيانو بارع وهو يعزف على آلة متوسطة؟ أنا على يقين أنك ستختار، مثلي، الخيار الثاني في كل مرة.
الأمر ذاته ينطبق على التقييمات؛ فالسر يكمن في المهني أكثر من الأسلوب. إن تقييم البشر غاية في الصعوبة، وإلا لما لجأ المتزوجون إلى الطلاق، ولكسدت المهن القانونية، ولصرتُ أنا عاطلًا عن العمل.
يستحق ذلك المدى أن نتناولَه بمزيد من التدقيق. إن صلاحية بمقدار −٠٫١٠ لا تعني أن مُجْرِيَ المقابلات الخاضع للدراسة قد حقَّق صلاحية متدنية، بل تعني أن صلاحيته كانت سالبة. يمكنك أن تفسر هذه النتيجة على أنه ربما ينبغي عليك أن تخالف هذا الشخص المحدد في كل ما يوصي به!
والخلاصة هي أنه في عالمٍ يشهد تغيرًا متسارعًا في الأشكال المؤسسية والكفاءات الإدارية، واحتياجًا دائمًا لكفاءات جديدة، وصعوبة بالغة في تقييم بعضٍ من أهم الكفاءات، لا شك أنك في حاجة إلى اختيار الأفراد الملائمين لإنجاز عملية الانتقاء.
ما أهم ما يميز هؤلاء المقيِّمين الأَكْفاء؟ أولًا: وبالنظر إلى صعوبة الْمَهمة، من المنطقي أن تختار أشخاصًا أذكياءَ ومُلِمِّين أيضًا بمجموعة الخبرات والكفاءات المرتبطة بالمنصب لإجراء المقابلات؛ مما يعني، عادةً، الاستعانة بكبار المقيِّمين لتقييم كبار المرشحين. ثمة سمات أخرى ترتبط كذلك بالصلاحية العالية للتقييم على المستوى الفردي، ومن بينها القدرة على ترجمة السلوكيات غير اللفظية، ومراقبة الذات، ومهارات الاستماع، والقدرة على التخطيط والتنفيذ بالتوازي.
(١٥) كم تقييمًا ستُجري؟
حين أعود بذاكرتي إلى مَهمتي البحثية الأولى منذ ما يقرب من عشرين عامًا، أجد أن ذلك صحيح. لم يكن لديَّ أية نقاط قوة سوى الدافعية، والعميل الجيد بالتأكيد. كنت، بلا شك، أُنجز مَهمتي الخاصة بدراسة عدد كبير من المرشحين ومقابلتهم والاتصال بالجهات المرجعية بتفصيل مستفيض؛ لكن الذي أحدث الفارق الحقيقي هو وجود ثلاثة أفراد لدى العميل على درجة عالية من الكفاءة أَجْرَوْا تقييمات متعاقبة وتتسم بالاستقلالية والشمولية.
كان أول من أَجْرَوُا المقابلة لدى العميل هو الرئيس التنفيذي المتقاعد لشركة كيلمس، فرانك بينسون، وهو الخبير المحنَّك ذو المناوشات المؤسسية التي لا عد لها. كان فرانك على دراية بحقيقة كيلمس وتحدياتها الراهنة من جميع النواحي. أما الثاني فكان ديفيد جانلي، الرئيس التنفيذي المرتقب للشركة، الذي كان في طور الانتقال إلى منصبه الجديد أثناء إجرائنا للبحث. وبرغم حداثة عهده بالشركة، فإنه كان على إحاطة تامة بأهم مسائل التسويق والمبيعات داخل شركة سريعة الوتيرة تقدِّم منتجًا استهلاكيًّا، وكان يتحلى بفهم عميق للمستهلكين المحليين. وأخيرًا، كان المقيِّم الثالث هو الرئيس التنفيذي لشركة كوينسا القابضة، نوبيرتو موريتا، وصاحب القدرة المتميزة على تقييم الأفراد.
كيف يحدث ذلك؟ افترِضْ أن لديك، قبلَ إضافة الْمِصْفاة الثانية، ١٠٠ مرشح، وأن ٥٠ في المائة منهم يمثلون حقًّا أفضل المرشحين، فستدفعك دقتك البالغة ٩٠ في المائة إلى تقييم ٤٥ من المرشحين الأَكْفاء باعتبارهم الأفضل، بينما معدل الخطأ البالغ ١٠ في المائة سيجعلك تقيِّم خمسة من المرشحين غير الأَكْفاء باعتبارهم الأفضل. بعد إضافة الْمِصْفاة الثانية، ستجد أن من بين الخمسين مرشحًا الذين سيمرُّون عبر هذه الْمِصْفاة الثانية، فإن ٤٥ (أو ٩٠ في المائة) سيكونون بالفعل أفضل المرشحين. واتباعًا للمنطق ذاته، إذا حسبت الأرقام، فستجد أن إضافة مِصْفاة متعاقبة ثالثة ستخفض من الخطأ التقييمي النهائي ليصل إلى ١ في المائة فقط.
(١٦) كثرة الطُّهاة تفسد الطبخة
في المثال الذي ناقشناه لتوِّنا، والذي يوجد فيه ثلاث مصافٍ ودرجة دقة بنسبة ٩٠ في المائة، تبلغ احتمالية تقييم مرشح غير كفء باعتباره من أفضل المرشحين ١ في المائة فقط، وهو شيء إيجابي بالتأكيد؛ لكنك، في الوقت ذاته، ستستبعد ظلمًا ٢٧ في المائة من أفضل المرشحين! في الواقع، لكي تجد مرشحًا واحدًا متميزًا، ستحتاج إلى إيجاد ١٤ مرشحًا وإجراء ما مجموعه ١٧ تقييمًا، وهو عمل شاقٌّ! إن زيادة عدد المصافي لن تضيف الكثير من ناحية الدقة، بالنظر إلى انخفاض احتمال التقييم الإيجابي الخاطئ بالفعل؛ لكنها ستزيد من احتمالية التقييم السلبي الخاطئ وستكلفك مزيدًا من العمل.
يثبت هذا التحليل بما لا يدع مجالًا للشك الحاجةَ إلى الاستعانة بالمقيِّمين ذوي الكفاءة العالية فقط، وأن يكون عددهم محدودًا؛ وذلك في سبيل الفوز بكل ميزات الجانب الأيسر من المعادلة الذكية: تقييم ممتاز، ومرشحون ذوو أداء مرتفع، وانعكاس قوي للصورة المؤسسية، واستغلال فعَّال لوقتك.
(١٧) المقابلات الجماعية
ثمة منهج أخير تجدر دراسته، وهو المقابلات الجماعية، أو المقابلات على هيئة لجان، حيث يشترك عدة أشخاص في مقابلة المرشح في آنٍ واحد.
ينبغي النظر إلى المقابلات الجماعية باعتبارها أداةً مفيدة في المراحل اللاحقة من النموذج التعاقبي السابق؛ إذ ليس من المنطقي إشراك عدة أشخاص ممن يُجرون المقابلات في العملية إلا بعد أن يجتاز المرشح بعض مراحل التصفية المبدئية على الأقل. تشير الأبحاث إلى أن صلاحية المقابلات الجماعية تزيد قليلًا عن صلاحية المقابلات الفردية، ويُعزى ذلك جزئيًّا إلى إمكانية معارضة الأشخاص مجري المقابلة لبعضهم فيما يخص الأساس الذي تقوم عليه التقييمات. تبدو المقابلات الجماعية أكثر فاعلية كذلك بالنسبة للمناصب العليا، والوظائف الأكثر تعقيدًا، والوظائف التي تتضمن التفاعل مع جهات متعددة. بالإضافة إلى ذلك، تمتاز المقابلات الجماعية بالحد مما تحمله المقابلات المتلاحقة من ازدواجية واستنزاف للموارد، كما تضمن الاستغلال الرشيد لوقت المقيِّمين رفيعي المستوى.
لكن يجب أن تراعي المقابلات الجماعية ضوابط معينة لكي تحقق مزيدًا من الفاعلية؛ فينبغي أن يكون الأشخاص مُجرو المقابلة على درجة عالية من الكفاءة والدراية بالكفاءات محل التقييم، وأن يكونوا منضبطين أثناءَ تنفيذهم لعملية طرح الأسئلة والتقصي.
(١٨) فريق اتخاذ القرارات
قد تشترك عدة جهات في تحديد الحاجة إلى تعيين الموظفين؛ لكن حين يتعلق الأمر بقرار التعيين النهائي، فعادة ما تنبثق أفضل النتائج من فريق صغير، كفء، خالٍ من الصراعات. إن تكليف شخص واحد باتخاذ القرار قد لا يتيح المجال للتشكيك في الافتراضات، ومحاربة التحيزات، ومناقشة المفاضلات الصعبة بين المرشحين. كما أن إشراك عدد أكبر من اللازم من الجهات في اتخاذ القرار من شأنه أن يزيد من التقييمات السلبية الخاطئة (استبعاد مرشحين أَكْفاء)، ويضعف من دافعية المرشحين بسبب طول العملية، ويقلل من كفاءة فريق اتخاذ القرار وأهميته.
عند بُروز الحاجة إلى تعيين رئيس تنفيذي، ينبغي أن يقود فريق صغير عالي الكفاءة (ثلاثة من أعضاء مجلس الإدارة مثلًا) العملية بأكملها، بَدْءًا من تحديد الحاجة إلى تعيين رئيس تنفيذي جديد وانتهاءً بدمجه في السياق المؤسسي. يمكن الاستعانة بفريق بالحجم ذاته عند إجراء تعيينات في المستويات الدنيا، على أن يتضمن الفريقُ الرئيسَ المباشر، ورئيسَه، وأكبرَ مسئول تنفيذي في قسم الموارد البشرية (على افتراض أن يكون أعلى في درجته من المنصب المراد شغله). لا تقدِّم أية تنازلات إذا تطوع مسئول تنفيذي غير كفء بالانضمام إلى فريق التعيين، حتى إذا كان هذا المسئول رفيعَ المستوى، بما في ذلك أعضاء مجلس الإدارة؛ فالمخاطر في هذا الموقف عالية للغاية.
يبرز مثال شركة منتجات الألبان الوارد في الفصول الأولى بعضًا من أفضل الممارسات المرتبطة باتخاذ القرارات النهائية. عقدت لجنة التعيينات والأجور تقييماتها النهائية، وتحققت من الكفاءة والملاءمة الثقافية. ضمت هذه اللجنة رئيس مجلس إدارة الشركة، وأربعة من أعضاء مجلس الإدارة الثلاثة عشر، وكان الأربعة على درجة عالية من الكفاءة. اتسمت العملية بالصرامة والشمولية، وتضمنت فحصًا لما شملته سِيَر المرشحين من دلائل أظهرت المستوى المطلوب في كل كفاءة ذات أهمية حيوية لإحراز النجاح في الوظيفة.
نتيجة لأن هذا الفريق الصغير من الأعضاء ذوي الكفاءة والدافعية كان يعرف بوضوح ما يبحث عنه، فقد نجح بسهولة في الوصول إلى القرار وتعيين أفضل مرشح تقدَّم إليه.
(١٩) أفضل الممارسات في مرحلة القرار النهائي
حين تدنو مرحلة اتخاذ القرار النهائي، يصير للانضباط الصارم أهمية مطلقة؛ ففي عدد كبير جدًّا من الحالات، تتدخل النزعة النفعية، ويُقوَّض الانضباط، وتُرتَكَب أخطاء جسيمة في اختيار المرشحين.
يعني «الانضباط» المراجعة الثانية لتوقعات الأداء المحددة كتابةً في المراحل الأولى من العملية، ومراجعة الدلائل المتعلقة بكل كفاءة أساسية على حِدَة، بالإضافة إلى مراجعة إمكانية التطور لدى المرشح. تتضمن هذه الخطوة سرد ومراجعة أهم الأفعال التي أتى بها كل مرشح، وأهم إنجازاته وسلوكياته ذات الصلة بكلٍّ من التوقعات الرئيسية.
وأخيرًا، يعني الانضباط التنبؤ السلوكي، لا سيما في حال وُجِدَ بعض الثغرات البسيطة في بعض الكفاءات، أو في حالِ أَمْكَنَ عدة مرشحين الوفاء بالتوقعات، لكن بطرق مختلفة. أيُّ رهان تودُّ أن تتخذَه؟
متى وجِدَت ثغرات بسيطة في الكفاءات، قد يضم تنبؤك السلوكي ربطًا بين إمكانيات المرشح والدعم التنظيمي القائم أو المزمع؛ وذلك كي تعرف ما إذا كان من الممكن أن ينجح المرشح برغم تلك الثغرات وكيفية ذلك.
لقد طُورت عملياتٌ ونماذجُ أكثر تقدمًا لاتخاذ القرار من أجل المؤسسات الضخمة التي تُجري تعيينات كثيرة في المناصب ذاتها، وكذلك من أجل شركات الخدمات المهنية المتخصصة. على سبيل المثال، تستعين شركتنا بنموذج متقدم لمقاييس للكفاءة لحالات التعيين في مناصب المسئولين التنفيذيين في المستويات الإدارية العليا، علاوة على أننا نحدد بصرامة مستويات مستهدفة مؤكدة جيدًا لكل منصب. وفي بعض الحالات وضعت نماذج ارتباط متعددة، تقيِّم كل كفاءة أساسية باستخدام أنواع مختلفة من قواعد اتخاذ القرار (تتابعي، أو غير تتابعي؛ تعويضي، أو غير تعويضي). وأخيرًا، جرَّب بعض الأشخاص أسلوبًا ذاتيًّا في اتخاذ القرار، حيث يوضع نموذج لاتخاذ القرار بِناءً على التوقعات الْحَدْسِيَّة لخبير، وعند استخدام النموذج تكون النتيجة المثيرة للدهشة أنه يتفوق على الخبير. وعلى ما يبدو فإن هذا النموذج يحصل على أفضل ما لدى الخبير، مع الحد من الضوضاء العشوائية الناتجة من التعب والملل والضغط والقلق.
(٢٠) التعامل مع الْحَدْس
لقرارات تعيين المرشحين هدف أخير، ألا وهو تحقيق التوازن الصحيح بين العقلانية والحدس، وهو التوازن الذي سيشهد تغيرات بمرور الوقت.
مع بداية اتخاذك لأول قرارات تعيين المرشحين، ستعاني من صعوبة بالغة في التمييز بين الحقائق والقوالب النمطية أو العواطف. عادةً ما يؤدي الاعتماد على حَدْسك مع قلة خبرتك في التقييمات إلى قرارات غير سديدة.
ولكن مع زيادة خبرتك، يجب أن تُصغيَ بمزيد من الاهتمام إلى حَدْسك؛ لأنه سيدمج جميع الدروس المستفادة من قراراتك السابقة. أجل، افحص الحقائق الكامنة خلف ذلك الحدس، وأنصت إليه أيضًا.
(٢١) أكبر كوابيسي
أذكر نفسي وأنا أتساءل: كيف يمكن أن يحدث ذلك؟ أهو كابوس؟ تمنيت لو أستيقظ، لكن للأسف لم أفلح.
كنت أقابل أحد عملائنا ولم يكن راضيًا مطلقًا. عَيَّن هذا العميلُ، بمساعدتي المهنية، مديرًا للتسويق قبلَ بضعة أشهر، وكان هذا التعيين كارثيًّا. على الورق، كان هذا المرشح المعيَّن يتمتع بمؤهلات لا تشوبها شائبة، ومن بينها درجة الماجستير في إدارة الأعمال من إحدى أفضل كليات إدارة الأعمال في الولايات المتحدة الأمريكية إلى جانب مسيرة مهنية مثيرة للإعجاب. برغم كل هذه المؤهلات، فإنه لم يكتفِ بسوء علاقته بفريقه، بل كان يتصرف أيضًا بطريقة تُناقض الثقافة السائدة تمام التناقض وبدت منافية للأخلاق.
لا أذكر طوال حياتي موقفًا شعرت فيه بكل هذا القدر من الإحراج لسبب مهني. كيف يحدث ذلك معي؟ كنت أمتلك آنذاك خبرة تقارب الخمسة عشر عامًا في البحث التنفيذي، وكان لديَّ سجل قوي: في أكثر من ٩٠ في المائة من مئات مهامِّ البحث التي أجريتها، حقق المرشحون المعيَّنون نجاحًا باهرًا. لم أواجِه قط إخفاقًا كهذا.
أين مَكْمَن الخطأ؟ أدركتُ في النهاية أن السبب فيما جرى لي كان الرضا عن الذات. تذكرْتُ، بعدَ فوات الأوان، تحذيرَ مؤسس شركتنا، إيجون زندر، الذي طالما قال إن الرضا عن الذات هو توأم نتائج الأداء الرائعة، الذي ينمو معه جنبًا إلى جنب.
لقد تغاضيت عن إحدى السياسات المقدسة في ممارستنا المهنية، ألا وهي الامتناع مطلقًا عن تقديم مرشح دون اتصالات موثوقة بالجهات المرجعية تُجرَى مع أفراد عَمِلُوا عن قُرْب مع المرشح. أُحِيل إليَّ هذا المرشح من طرَف شخصين أعرفهما جيدًا وأثق بهما، كما تلقيت تعليقات عامة إيجابية من زميل له في رابطة الخريجين التي ينتمي إليها. أقنعتني عدة عوامل بتجاوز تلك الخطوة الجوهرية، من بينها رغبة العميل في المضيِّ قُدمًا بأقصى سرعة، وسفره الوشيك في رحلة عمل طويلة، وثقتي بنفسي.
أسوأ ما في القصة أنه كان بوسعي كشف حقيقة المرشح بسهولة من خلال أشخاص أعرفهم جيدًا وعملوا معه في الشركة «أ». اكتشفت، بعد فوات الأوان، أن المرشح المعيَّن سبق أن طُلِبَ منه مغادرة الشركة «أ» لأسباب تشبه تلك التي شهدها عميلنا لاحقًا؛ وذلك برغم إقرار الشركة «أ» (ربما كانت النية من وراء ذلك تجنُّب أية مقاضاة قانونية محتملة) بأنه غادرها من تِلْقاء نفسه. مهما أكدت هذه النقطة فلن أفي حقها في التأكيد: تَحَلَّ بالانضباط أثناءَ اتصالك بالجهات المرجعية، ولا تسلك أية طرق مختصرة. تأكد أن المرشح الناجح يمتلك كل ما هو مطلوب للنجاح في وظيفته الجديدة.
(٢٢) بناء القوة المؤسسية
إذا اتبعت التوصيات السابقة، فمن المحتمل أن تتمتع بنتائج متميزة وتتخذ في الوقت ذاته قرارات سديدة عند اختيار المرشحين. نحن في مؤسستنا، كما أشرت سابقًا، نعيِّن أشخاصًا بلا خبرة سابقة في البحث المؤسسي، ولكن من خلال الدمج الصحيح بين المهارة العامة، والدافعية، والتدريب، سرعان ما يصل موظفونا إلى الإجادة البالغة. ويشهد على ذلك أن ٩٠ في المائة من المرشحين الذين نقدمهم لعملائنا لا يزالون يعملون معهم بعد خمس سنوات من تعيينهم، ولا يحققون أداءً ناجحًا فحسب، بل يَرْتقون في كثير من الحالات متجاوزين مناصبهم الأصلية. علاوة على ذلك، وكما ذكرت سابقًا، قدرتنا على التنبؤ بإمكانية التطور لدى مديرٍ ما فاقت قدرة المؤسسة التي يعمل بها هذا المدير بما يصل إلى ثلاثة أضعاف؛ وذلك برغم معرفتها له لسنوات.
لا أعيد ذكر هذا على سبيل المباهاة؛ بل لأؤكد أن مثل هذا المستوى من الدقة التقييمية يمكن أن يتحقق على يَدِ أشخاص يتمتعون بالدافعية الصحيحة ويحصلون على فرص للممارسة وتلقِّي التقييم الملائم.
إن تنمية مهاراتك التقييمية، كما أوردت في الفصل الأول، ستكون مِفتاحًا رئيسيًّا لنجاحك المهني، كما أن هذه المهارات ستساهم مساهمة كبيرة في الميزانية العمومية لشركتك وقائمة الدخل الخاصة بها. حين يكون منصب الرئيس التنفيذي في شركة كبيرة على الْمِحَكِّ، يمكن لقرار تعيين أفضل أن يعني الفوز بمليارات الدولارات أو خسارتها، كما أن القرارات السديدة فيما يتعلق بتعيين المرشحين تمثل قيمة ضخمة في المستويات الدنيا كذلك، خاصة عند تجميعها من مختلف أنحاء المؤسسة وحين تعكس القيمة المستقبلية للإمكانيات العالية التي تلتحق بالمؤسسة. هكذا يمكنك أن تنشئ جنرال إلكتريك أخرى — تنشئ شركة أخرى ذات رؤية استشرافية، قادرة على الصمود على مر السنين — ويمكن للشركة أن تتجاوزَ مستوى الجودة إلى مستوى الامتياز.
لكي تجعلَ من قرارات اختيار الموظفين مصدرًا أساسيًّا للقوة المؤسسية (أحد أجزاء المعادلة الذكية)، ثمة أمور عديدة عليك وعلى مؤسستك تنفيذها:
أولًا: تأكد من أن لديك أفرادًا على مستوًى عالٍ من الكفاءة يتوَلَّوْنَ تقييم المرشحين. لا تُوكِل هذه الْمَهمة الحاسمة إلى أفراد محدودي الخبرة أو غير أَكْفاء، أو أولئك مِمَّن قد لا يمتلكون الدافعية الصحيحة (كالمرءوسين المباشرين).
ثانيًا: استثمر في تدريب الأفراد الذين كثيرًا ما سيؤدون أدوارًا تقييمية، متبعًا أفضل الممارسات المُجرَّبة في التقييم والتدريب.
رابعًا: احرص على مراجعة التقييمات، لا قبل اتخاذ القرار النهائي فقط، بل بعد عام أو عامين من القرار. إن الإحاطة بتبعات القرارات تمثِّل تقييمًا مفيدًا للمقيِّمين، ويساعدك على تقييم المهارات التقييمية لمؤسستك، كما يرشدك إلى اختيار أفضل المُقيِّمين في المستقبل.
لن تحقق النجاح الكامل كل مرة، ولست مضطرًّا إلى هذا. اتضح أن آليات تقييم الحياة أولى مراحل مسارهم المهني لا تقل أهمية عن آليات التعيين؛ ذلك لأن الطريقة الوحيدة لمعرفة شخص ما على وجه اليقين هي أن تعمل معه. لكن بإمكانك، في الوقت ذاته، العمل على توفير مخزون من المرشحين المتميزين عن طريق التقييمات المتميزة.
•••
إذا اتبعت المبادئ التي تناولناها في هذا الفصل، ستحصل على تقييمات صالحة وموثوقة، وستقدم على تعيين أفضل الأشخاص في العالم أو ترقيتهم. ولكن لأنك تتعامل مع اختيارات متبادلة، فإن الموضوع التالي محل المناقشة هو كيفية جذب أولئك الأفراد الممتازين وتحفيزهم، وهو ما سنتناوله في الفصل الثامن.