الفصل السابع
وحمل أيضًا ذلك الجيل من الفلاحين المصريين أعباء تنفيذ المشروع الخطير: مشروع إحياء العالم العثماني، رسمه محمد علي منذ الأيام الأولى وسار في تنفيذه بخطًى ثابتة متئدة، رَسْمُه حاضرٌ في ذهنه وإنْ خفى على معاصريه ومؤرخيه، وسعيه إلى تحقيقه متواصل وإن بدا أحيانًا في لغة الكلام أو لغة الفعل منحرفًا عنه إلى هدف آخر، ولم يكن ذلك الانحراف الظاهريُّ إلا أسلوب السياسي الحاذق يعدل المظهر ليكسب الجوهر، أو القائد الماهر يولي وجهه وجهة أخرى في حركة التفاف توصله إلى غرضه الأصلي.
والسر في خفاء المشروع على معاصري محمد علي الأوروبيين ومؤرخيه المحدثين يرجع إلى أن القاعدة التي اتخذها محمد علي أساسًا لعمله — وهي مصر — عظيمة في حد ذاتها، يصح جدًّا أن تكون ملكًا قائمًا بنفسه ولنفسه، من حقه أن يملك ولكن لنفسه وبمقتضى حاجاته، وهي جزء — إذ ذاك — من كل، ولكنه جزء يستطيع ويحق له أن يكون الكل، هذا الوضع للمسألة كلها هو الوضعُ الأوروبي المعاصر لمحمد علي، أخذه المؤرخون المحدثون — وإن أدهشهم هذا.
وكل الفرق في الصياغة وفي إضافة حقوق الفتح والتغلب «للكل» المصري، وهي مسألة نسبية: تريد أوروبا المعاصرة أن يكون الفتح والتغلب «للكل» المصري في المجاهل الأفريقية، أو — عندما تسخو — في بعض «الباشويات» العثمانية الشرقية والغربية حينًا ما، وتفضل — على كل حال — أن ينصرف «الباشا» لإسعاد رعيته البائسة، ويريد مؤرخوه أن يكون «للكل» المصري كل ما يستطيع أن يمد إليه يده، ويتفقون جميعًا في أن مصر عالمٌ قائمٌ بنفسه.
ولم تستطعْ أوروبا المعاصرة أن تجعل محمد علي كما تريد، ولا نستطيع نحن أن نجعله كما نريد، فالرجل — كما كان — لم يكن جماع باشويات، بل كان رجلًا عبقريًّا نشأ في عالم ذي موقع فذٍّ وسَمَتْ هِمَّتُهُ لأنْ يعيد لذلك العالم حيويته ومكانته وسيرته، موفقًا بين غابره وحاضره، ملائمًا بين حاجاته وحاجات الإنسانية جمعاء، ورأت أوروبا المعاصرة أن مصالحها تقتضي بقاءَ ذلك العالم على حاله، فكان تَأَلُّبُها على إفساد المشروع وفشله.
ينتمي محمد علي لطور من أطوار التفكير الإنساني لا يعرف لتنظيم الحياة السياسية إلا أساسًا واحدًا، هو: وحدة الحضارة، أو ما يُمْكننا أن نسميه: وحدة التمسك التاريخي. وهذه الوحدة لا تتنافى مع انفصال الأوطان بل ولا تتعارض مع تعلُّق الناس بأوطانهم الخاصة، ولا تَشترط إلا عدم فناء الكل في الأجزاء، فلا يُضيرها نماءُ جزء لإحياء الكل، وهذا النوع من التنظيم لا يستلزم حتمًا وحدة الحكومة فيكتفي أحيانًا بغير الحكومة من النُّظُم العامة، وقد تكون دينية أو ثقافية أو قانونية، وهكذا.
وفي ظل هذا النوع من التنظيم السياسي تتنوع طرقُ زعمائه تبعًا لظروف أزمنتهم؛ فمنهم مَنْ يحاول منع قيام الوحدة السياسية؛ حرصًا منه على استقلال جزئه، ومنهم من يحاول تقويةَ الجزء ليؤثر به أو يسير بواسطته في السلطة العامة السياسية عند وجودها، كما أن منهم مَنْ قَدْ يهدم تلك السلطة العامة أو ينقلها لنفسه، هذا من حيث العلاقات الداخلية في الوحدة، أما عن العلاقات الخارجية فوِجْهَة نظر الزعماء إليها تتنوع هي الأخرى بحكم ظروف الأحوال، منهم من يتأثر بفكرة المحافظة على نوع الحضارة فيتجه عملُهُ للجهاد، ومنهم من يتأثر بفكرة بَسْط سلطان الحضارة بالاستعمار، كما أن منهم مَنْ يحاول — في ظلال السِّلْم — تنمية العلاقات الاقتصادية والثقافية، وما إلى ذلك.
هذا مثل العالم الذي نما فيه محمد علي وغيره من أعلام الإسلام، اخترنا منهم صلاح الدين لتقريب فكرتنا عن محمد علي، وقد لاحظنا عند ذاك أنه اتخذ من مصر قاعدةً لإحياء دار الإسلام للحرب، وفَرَّقْنا بينه وبين محمد علي لذلك، والآن نعرض مثلًا آخر، نختاره من عالم آخر: العالم اليوناني بعد موت الإسكندر، والعلم الذي سندرسه يتفق مع محمد علي في أن القاعدة التي عمل منها كانت مصر.
قال مؤرخ مصر البطليموسية الرومانية الأستاذ بييرجوجيه في تحليله لسياسة بطليموس الأول: «لكي يخلق من مصر ملكًا غنيًّا قويًّا عمل بطليموس على أن يضم إليها مكملاتها الطبيعية، برقة في غربيها وسوريا (وعلى الأخص أجزاؤها الجنوبية) شرقيها؛ ذلك لأن مصر كانت تستورد من سوريا ما تحتاج إليه من الأخشاب والمعادن، كما أنه عمل على أن يُهيمن على الطُّرُق التجارية التي كانت تنتهي عند الإسكندرية أو مراسي البحر الأحمر، كطريق النيل الآتي من قلب القارة الأفريقية ومسالك الصحراء التي تنتهي عند مراسي البحر الأحمر … وهذه المراسي كانت تصل إليها أيضًا حاصلاتُ بلاد العرب وسواحل أفريقية والشرق الأقصى، وكطرق البحر المتوسط بصفة خاصة، وقد تَرَتَّبَ على ذلك أنه سعى لربط مملكته بالجزائر القريبة: كريد وقبرص ورودس وجزائر بحر الأرخبيل، وذلك بواسطة التحالف والصداقة أو السيطرة والحماية، كما ترتب على ذلك أيضًا محاولته بسط نفوذه في مدن الساحل الفينيقي والأناضولي؛ إذ كانت تلك المدن نهايات الطرق الآسيوية الكُبرى الآتية من بلاد الحرير والتوابل. ويتضح من هذا كله أن تلك السياسة تتنافى مع بقاء وحدة الإمبراطورية المقدونية سياسيًّا، وتعمل دائمًا على منع عودة تلك الوحدة بمحاربة كل من يسعى لإقامة دولة الإسكندر من جديد»، وآثر البطالسة وحدة من نوع آخر، وحدة الثقافة، فكانت جامعة الإسكندرية.
هذا إلى أن الفواصل بين البطالسة وأهل مصر ألزمت الملوك بتأكيد المظاهر الفرعونية في ملكهم المنفصل عن العالم اليوناني، كما أن ذلك العالم لم يشهد بعد انتشار قوة الجمهورية الرومانية في البحر المتوسط، فلم تكن الحاجة إلى العمل لتوحيده سياسيًّا ظاهرةً ظهورَ الحاجة لبقائه مُشَتَّتًا، وفي الأمرين يختلف موقف محمد علي عن موقف بطليموس؛ يختلف أولًا: في أن محمد علي ورعيته ينتميان إلى عالم واحد، ويختلف ثانيًا: في أن العالم العثماني متصلٌ بأوروبا من جهة وبالأقطار الأُخرى من دار الإسلام من جهات أُخرى، فكانت السلامة في الوحدة لا في التجزئة، وكانت القوة والرفاهية في إدارة عقل واحد لملك متنوع الموارد، متنوع السكان، يملك أقصر الطرق بين الشرق والغرب.
وإنا بهذا التصوُّر للخطة المحمدية العلوية؛ نذلل كل الصعوبات التي تعترضنا في فهم أعماله ونستغني عن «اختراع» تفسيرات لها، فلا نحتاج عندما نتكلم على شرح حملته على بلاد العرب أو إخماده الثورة اليونانية أو فتوحه في السودان إلى أن نقول: إنه لم يستطع عصيان أمر السلطان إذ ذاك فلم يسعه إلا الرضوخ، أو أنه أحب أن يتخلص من هذه الجماعة أو تلك من العسكر، أو أحب أن يجد ذهبًا … هذا كله — وأمثاله — موضعه تاريخ «الدايات والبايات والباشويات والزعامات» لا تاريخ محمد علي.
فهو يقضي على البغاة أو الثائرين؛ لأنه يعمل على إحياء العالم العثماني، ولأن الإحياء خطته هو، والعمل عمله هو، ولا نحتاج عندما نتكلم على حروبه مع حكومة السلطنة إلى البحث فيما وعد السلطان ولم ينجز، أو إلى الفصل فيما بينه وبين والي عكا من خصام، بل نرتفع بالبحث إلى مرتبة أرقى فنقول: أَتَعَذَّرَ على محمد علي أم لم يتعذر المضيُّ في عمله بلا إرغامٍ لحكومة السلطنة على التسليم له بحرية العمل؟ وهكذا نتصور الأمر.
•••
في فترة توازُن القوى التالية لمعاهدة تلست، وفي سواحل وأراضي البحار العربية التي كانت تُكوِّن الحدود المبهمة للعالم العثماني؛ كانت أعمال محمد علي الأولى لإحياء القوة العثمانية، وكانت الدولة منذ أن عجزت عن إقصاء البرتغاليين ومن جاء بعدهم من رجال البحر والتجارة الأوروبيين عن البحار العربية، ومنذ أن تخلت عن سواحل اليمن في منتصف القرن السابع عشر قد تركت — فيما عدا الاهتمام الذي لا غنى لها عنه بالحجاز — شئون البحار العربية ومناطقها لأهلها وللاستعمار الأوروبي، فنمت أنواعٌ مختلفةٌ من السلطان العربي في مناطق الخليج الفارسي، وسواحل بلاد العرب الجنوبية وسواحل البحر الأحمر والمحيط الهندي في أفريقية وآسيا، وانعزلتْ تلك الشياخات والإمارات والسلطنات عن الحياة العثمانية العامة السياسية والاقتصادية، واضطرتْ إلى تدبير معاشها والاحتفاظ بكيانها بالعمل في التجارة البعيدة والقريبة وفي مناطق الاستعمار العربي، على الساحل الأفريقي أو في الجزائر والسواحل الهندية وما وراءها، كما سعت إلى إنشاء صِلات نظامية بالأُمم الأوروبية صاحبة المستعمرات والوكالات التجارية في تلك المناطق.
وكان لحكومة السلطنة نوعٌ مبهمٌ من حقوق السيادة، تُباشرها وتتولاها من عدة قواعد: القاعدة الأولى؛ ولاية جدة، وتلحق بها الدولة عادة ولاية الحبش (والطريفُ أن بعض المطلعين على وثائق ذلك العهد «يصححون» لقب إبراهيم باشا والي الحبش إلى والي الجيش) والمفهومُ أن ولاية الحبش تمتد امتدادًا لا يمكن تحديده على ما نعرفه الآن بسواحل السودان وإريترية والصومال الفرنسي، أما مقدار امتدادها للأراضي الداخلية فلا تحديد له، وينبغي أن نُلاحظ هنا أن وصل فتوح محمد علي السودانية بمناطق النفوذ العثماني على البحر الأحمر أضبطُ تاريخيًّا وأدقُّ مِنْ وَصْل تلك الفتوح — كما يفعل المحدثون — بالفكرة النيلية البحتة، وكانت ولاية جدة أيضًا إحدى قواعد العمل في الحجاز، قلنا العمل؛ لأن الدولة لم تستطع أن تمنع قيام نوع من الحكم الثنائي في مكة يتركب من حكم بيوت من الأشراف والنفوذ العثماني.
أما القاعدةُ الثانية للسياسة العربية: فباشوية مصر، ففي تلك الباشوية الأرزاق والخيرات التي رصدها السلاطين على الحرمين، ومن تلك الباشوية أيضًا تجهيزُ التجريدات الكبيرة أو الصغيرة التي تضطر السلطنة من وقت لآخر لإرسالها للحجاز لضبط أحواله، وباشوية مصر أيضًا كانت النافذة التي أَطَلَّ منها الباب العالي على البحر الأحمر، وراقب منها حركات الأوروبيين أو ما هَمُّوا به من الحركات. والقاعدة الثالثة: باشوية دمشق، ومهمتها مهمة القاهرة، لحد ما؛ فهي أيضًا مركز تجميع لأرزاق أهل الحرمين، وهي أيضًا قاعدة تجريدات عثمانية لضبط الأمن، ولكنها ليست مركزًا للعمل ذي الصبغة السياسية.
أما القاعدة الرابعة: فكانت باشوية بغداد، لا تقل شأنًا عن القاهرة إن لم تَفُقْها؛ ففي نطاقها الخليج الفارسي وطريق الفُرات إلى حلب والبحر المتوسط، ومن مهماتها الأساسية مراقبة ما يجري في نجد (وما يخرج من نجد)، وفي أرضها مزاراتُ الشيعة، وهي النافذةُ التي أَطَلَّ منها الباب العالي على العالم الإيراني وما وراءه، وراقب منها حركات الإيرانيين والأوروبيين أو ما هَمُّوا به من الحركات.
من هذه القواعد الأربع عملت الحكومة العثمانية على ألا تكون تلك البحار العربية شريانًا من شرايين الحركة التجارية، بل على أن تكون «بِرَكًا» آسنةً، شأن حكومات الضعف تخشى أبدًا سياسة الحركة، وكانت الدولةُ قد حصلت في القرن الثامن عشر على درجة من السكون أو الركود في تلك المناطق قَرَّتْ بها عينُ السلطان، ولكنْ حَدَثَ ما عَكَّرَ الصفو ونبه السلطان إلى تلك المناطق المتعبة، فها هم الأوروبيون قد تركت الدولة لهم تلك البحار يتاجرون فيها، وينشئون الوكالات على سواحلها ويُحاربون أو يُسالمون شيوخ العرب وأمراءهم، ورخصت لهم بنقل بريدهم وما خف من متاجرهم من البصرة إلى حلب والإسكندرية، ولم تطلب منهم إلا أن لا يتعدوا جدة شمالًا، فهل قنعوا بذلك؟ لم يقنعوا بذلك؛ شأن الأوروبيين، لا يستريحون ولا يريحون، بل حدثت لهم محاولاتٌ ومساعٍ لفتح طريق آخرَ للسويس ثم القاهرة ثم الإسكندرية، وهذا سيئ في حد ذاته، وأسوأ منه دخول هؤلاء الأوروبيين في مفاوضات ومساومات مع العصاة في القاهرة «الأمراء».
وليت المحاولات كانت من جانب دولة أوروبية واحدة أو حتى من جهة أوروبية متحدة؛ فيستطيع الباب العالي أن يعرف أين هو، ولكنه وجد منافسةً أوروبية قوية حول استعمال الطريق بين الإنجليز والفرنسيين والهولنديين بل والنمسويين، كأن هؤلاء قد أدركوا — على آخر الزمان — أنهم ورثةُ جمهورية البندقية! وأَشَقُّ من هذا أن الإنجليز أنفسهم أو الفرنسيين أنفسهم؛ انقسموا فيما بينهم واختلفتْ آراؤهم فيما يجب أن يكون الأمر عليه بحكم المصالح الخاصة لكل فريق، فمن الإنجليز من كَرِهَ الفتح المطلق لطريق البحر الأحمر ومصر وآثروا عليه الطريق الطويل، طريق المحيط، هذا رأي «شركة الهند الشرقية» سلطانة الهند البريطانية، وصاحبة الاحتكار في التجارة الهندية، وكل ما ترجوه الشركة طريقًا لبريدها وموظفيها أقصر وأسلم من طريق الخليج الفارسي والفرات وبخاصة بعد ازدياد الاضطراب في باشوية بغداد وفي بحارها، وعملتْ على فتح البحر الأحمر ومصر لذلك الغرض المحدود، ولم يرض هذا جماعة الناقمين على الاحتكارات الهندية من الإنجليز، فعملوا بالاتفاق مع الأمراء على فتح الطريق المصري كاملًا لكل شيء.
وتود الحكومة البريطانية — فهي أيضًا حكومة محافظة وسكون يسرها سكون السلطان — أَنْ لو بقى كل شيء على حاله، ولكنها لا تستطيع أن تترك مشروعات رعاياها دون رعاية، إن فعلت ذلك تغلب عليهم منافسوهم من الفرنسيين، هذا والشركة نفسها يرضيها العمل على نيل الترخيص بنقل البريد في الأرض المصرية، فلم يسع الحكومة إلا التدخل رسميًّا؛ لتأييد ذلك على الأقل، ودارت الحوادث في الأعوام الأخيرة من القرن الثامن عشر على هذا النحو من الاضطراب والتصديع لرجال الدولة، تسوءهم تلك البوادر، وقد أثبتت التجربة أن لها دائمًا ما بعدها، وحرص السلطان على أن يحذر الشريف في مكة والأمراء في القاهرة من عواقب التورط مع الأوروبيين، وقال لهم بصريح العبارة: تذكروا الهند وما جرى فيها؛ نزلها الأوروبيون، تُجارًا ثم انقلبوا لها سادة، وأنذرهم بنتائج اقتراب غير المسلمين من ساحل الحجاز.
ثم نزل بونابرت في مصر واحتلها، وتحالفت الحكومة العثمانية مع الروسيا وإنجلترة لإجلاء بونابرت ورجاله عن مصر، وتقدمت السفن الحربية البريطانية نحو السويس، وقدم قسمٌ من الجيش البريطاني الهندي للبحر الأحمر للاشتراك في الحرب ضد الفرنسيين في مصر، ونزلت حامية إنجليزية هندية في جزيرة بريم في مضيق باب المندب للسيطرة على مدخل البحر الأحمر، أدى هؤلاء الإنجليز والهنود جميعًا واجبهم ورجعوا لقواعدهم، ولكن هل زالت بذلك ذكرى ما حدث؟ ذكرى ما يستطيع هذا الطريق أن يؤديه، ذكرى وجوب المراقبة والاستعداد.
وعلاج الباب العالي لذلك الاضطراب في البحار العربية الصبر والمطاولة وفرصة الانقسام فيما بين الأوروبيين، ولكن جَدَّ في البر اضطرابٌ آخرُ من نوع آخرَ، تطلَّب أكثر من الصبر وطول البال، ذلكم كان الانفجارُ الوهابي؛ لم تستطع حكومة السلطنة أن تغمض عينها عن تلك الحركة وآثارها كما كانت تفعل بإزاء حركات القبائل وما جرى على نمطها، فالدعوة الوهابية والإغارات الوهابية في جميع الاتجاهات في البر وعلى البحر، والسيطرة الوهابية على الحرمين، كل هذا كان شيئًا جديدًا لا يمكن تركه يجري مجراه، ولا تستطيع الدولة بصفتها حكومةً نظاميةً إلا أن تقمعه، فأصدرتْ أوامرها لأصحاب القواعد في دمشق وبغداد والقاهرة للقيام به، وتَقَاعَسَ أو عجز صاحبا بغداد ودمشق، وتولاه صاحب القاهرة ابتداءً من سنة ١٨١١م.
لم يتقاعس صاحب القاهرة ولم يعجز؛ وقد انفتح أمامه ميدانٌ فسيحُ الأرجاء خليقٌ ببذل الهمة وبالنظرة النافذة وبالأمل الواسع، فالبحار العربية وسواحلها أجزاء أساسية من العالم العثماني، أهملها السلاطينُ إهمالًا معيبًا، وهي شرايين الحياة بين الشرق والغرب، تصلبت ولا بد من أن يجري فيها الدم من جديد، وخلف تلك السواحل في أفريقية أجزاءٌ من دار الإسلام، مشتتة فاترة الحياة، لا بد من وصلها بعضها ببعض وبالعالم العثماني ومن جعل ذلك العالم وحدة حية، انفتحت أمام محمد علي هذه الآفاق منذ سنواته الأولى في مصر، شهد بعينيه في القاهرة الجنود الهنود القادمين عن طريق البحر الأحمر والقصير والسويس لطرد الفرنسيين من مصر، وتحدث إلى رجال أوروبيين وعرب حضروا عهد الأمراء واشتركوا في محاولات القرن الثامن عشر لإحياء الطريق المصري لأوروبا، ولهم بالتجارة الهندية والعربية صِلاتٌ، وفي الواقع سعى محمد علي في تلك السنوات الأولى ليوجد صلاتٍ بينه وبين السلطات البريطانية في الهند.
ولكن الواجب الأول كان تأمين الحجاز ورد القوة الوهابية لموطنها الأصلي، وعهد لابنه طوسون قيادة تجريدة من الأخلاط الذين كانوا يُكَوِّنون جيشه في ذلك العهد، وأبدى محمد علي من الهمة في الاستعداد والتموين وأدوات النقل وتنظيم «المخابرات» ما أدهش معاصريه، وحدث لطوسون ورجاله ما يمكننا أن نتوقعه لشاب لا يملك خبرة عسكرية ما على رأس شراذم الألبانيين والدلاة ومَنْ على شاكلتهم، واضطر محمد علي للسفر لبلاد الحجاز بنفسه، وقد قضى فيها وقتًا طويلًا تم فيه استخلاصُ الحرمين، وهذه الأشهر التي قضاها في بلاد العرب أكسبتْه علمًا وثيقًا بمختلف الشئون العربية في الحجاز وغير الحجاز: شئون الحكم، علاقات الإمارات والقبائل، مدن السواحل، مصالح الأوروبيين، ومكة المكرمة — نِعْمَ المركز للدراسة والاستطلاع.
وبعد عودته من الحجاز واستقرار الأحوال في القاهرة — بعد أن اضطربت بعض الشيء في أثناء غيابه — انتقل للمرحلة الثانية من خطته العربية، وكانت المهمة فيها إزالة السلطان السياسي والحربي للوهابية بالاستيلاء على نجد، وتَوَلَّى هذه المهمةَ ابنُه الأكبر إبراهيم؛ وقام بها قيامًا فيه كل الدلالة على ما سيقوم به في المستقبل، كتب القنصل الإنجليزي هنري صولت في رسالة من القاهرة في أوائل ١٨١٧: «لقد دلت معاملة إبراهيم للقبائل البدوية على امتلاكه ثلاث ميزات تبشر بالفوز في النهاية: حزم في معاملة أعدائه، سخاء في البذل، وفاء بالعهد»، وفاز إبراهيم — كما توقع له صولت — ودخل الدرعية قاعدة السلطان الوهابي.
تَلَتْ هذا الانتصار سنواتُ استقرار واستعداد في مناطق النفوذ المصري من الجزيرة العربية، وقف التقدم فيها نحو الشرق إلى الخليج الفارسي ونحو الجنوب إلى اليمن أمران: أولهما؛ انتظار تأليف قوات عسكرية نظامية (وهذا كان مما يعمل فيه إذ ذاك)، وأما الثاني: فاستخدامُه قواته غير النظامية في فتوح أخرى أَوْحَتْ بها — كما قَدَّمْنَا — سياسة البحر الأحمر؛ إذ هي أَلْصَقُ بها، فقصد للفتوح في المناطق الممتدة خلف ما عرفناه باسم ولاية الحبش أو مايعرفه المحدثون باسم فتوح السودان.
يعرفها المحدثون بهذا الاسم؛ لأنَّهم ينظرون إليها في ضوء ما يزيد على مائة سنة للتطور المصري السوداني، أما نحن فنحاول أن ننظر إليها بعين ذلك العصر، ولا نستطيع أن نغفل اتجاه تلك الإمارات العربية في السودان، إذ ذاك نحو البحر الأحمر، والجزيرة العربية عمومًا، ومكة المكرمة خصوصًا: مصدر حياتها الروحية، وسوقها للحاجات الحسية، فوصل فتوح السودان بنمو الخطة المحمدية العلوية في الجزيرة العربية وبحارها أَدَقُّ وأَضْبَطُ تاريخيًّا من وصلها بأية فكرة عامة أُخرى نحاول أن ننسبها لتلك الأيام، بل إن الدارس المتعمق لخطط الخديو إسماعيل فيما بعد لا يسعه إلا أن يرى عِظَمَ شأن البحر الأحمر وخليج عدن في إمبراطوريته الأفريقية: في نواحي التقدُّم الاقتصادي، والمواصلات ما بين مصر والمناطق الداخلية، وسلامة تلك الإمبراطورية ووحدتها.
وقد يُعترض علينا بأن محمد علي اختار لتجريدته الأولى طريق النيل على وُعُورته، والرد على هذا الاعتراض وجيزٌ: اختار محمد علي السير من أسوان جنوبًا؛ لأن التجريدة كانت مهمتها الأولى (من حيث الزمن) تشتيت ملك بقايا الأمراء المصريين في حلفا ودنقلة نهائيًّا وتأمين حدود مصر الجنوبية تمامًا، أتمت التجريدة هذه المهمة ثم أوغلت في فتح الإمارات العربية في الشرق والغرب، وفيما بين النهرين، وكان على رأسها ابناه إسماعيل وإبراهيم وصهره الدفتردار، ولم تَطُلْ إقامة إبراهيم في السودان؛ ألزمه المرض بالعودة لوطنه، وها هنا أيضًا أبناء محمد علي في الطليعة دائمًا.
عاد إبراهيم ولكن إسماعيل لم يَعُدْ؛ فقد راح ضحية اجتهاده في الوفاء بحاجات الجريدة الملحة للمال والرجال، وكتب أبوه للدفتردار: «إنه علم من إفادته فَقْدَ ولده إسماعيل باشا، وهذا قضاءٌ مبرمٌ لا حيلة فيه خلاف الصبر، ثم السعي بالتبصر والتدبر في أمور المصالح.»
ونَوَدُّ لو اتسع أفق المؤرخ (من أي أمة كان) عند كتابته تاريخ الاتصال ما بين مصر والسودان الذي أنشأه محمد علي على اتساع الآفاق التي فتحها الفتح المصري؛ نود ألا ينحصر الأمرُ في أن ما أتى بعدُ كان خيرًا مما فات قبلُ، أليس المعقول أن يكون الأمر كذلك؟ أليس المعقول أن الإدارة التي تملك السكك الحديدية والسفن البخارية، والتلغراف والتلفون، وطب المناطق الحارة، والأخصائيين في الدراسات الاجتماعية والعلمية النظرية والتطبيقية، والمهندسين، والمعلمين، وغيرهم من الفنيين والجنود النظاميين؛ لديها أدواتٌ ووسائلُ لم تملكها إدارة ما في كل أنحاء المعمورة في سنة ١٨٢٠؟
وإن كانت هناك حاجةٌ لموازَنات ومقارنات أَلَا يقتضي الإنصافُ أن تكون الموازنة بين إدارات سنة ١٨٢٠ بعضها ببعض، وبين حظ فلَّاحي مصر والسودان وصُنَّاع مصر والسودان في تلك السنة وحظ أمثالهم في الوقت نفسه في سهول الروسيا والمجر وألمانيا، بل وفي غربي أوروبا أيضًا وفي مدن إنجلترة الصناعية الجديدة، وبين تجارة الرِّقِّ وأحوال الرقيق في العالم العثماني وبين تجارة الرق وأحوال الرقيق في نفس الوقت في الجمهوريات والمستعمَرات الأمريكية السكسونية واللاتينية، وفي المستعمَرات الأوروبية في أفريقية وفي آسيا وفي الأقيانوسية؟ لا نخشى شيئًا من الموازنة والمقارنة، ولكننا نود أن نرتفع عنها وأن ندعو للارتفاع عنها، ذلك لا لأننا نتجنب الحقائق التي نكرهها؛ بل لأننا نُحب أن نضع كل حقيقة مما نحب ومما نكره موضعها الجدير بها فلا تختل المقاييس ولا تضطرب النِّسَب بين الأشياء، ومِنْ أجل ذلك نود لو قَلَّ الكلام في مقدار ما أفاده محمد علي من فتوحه السودانية، ومقدار الذهب والعبيد وريش النعام والعاج وارتقى إلى الأشياء الجوهرية.
أول تلك الأشياء أن محمد علي الحاكم المسلم بعث جيشًا من المسلمين للفتح في بلاد إسلامية تُجاورها بلاد الزنوج الوثنيين وبلاد الحبش، ومنهم مسلمون ومنهم نصارى أو يهود، ومثل هذا الفتح ليس امتلاكًا ولا استعمارًا؛ فالمسلمون لا يملكون رقاب المسلمين، فالفتح هنا ضم جزء من دار الإسلام إلى الأمة الإسلامية لإحياء ذلك الجزء بإشراكه في الحياة الإسلامية الكبرى، ولنزد تحديد ذلك بيانًا (ولننقل في هذا عن رجل نقلنا عنه في مواضع أخرى: رفاعة، وقد سكن السودان منفيًّا في أيام عباس الأول)، لاحظ رفاعة على الأهلين «قبولهم للتمدُّن الحقيقي؛ لدقة أذهانهم؛ فإن أكثرهم قبائل عربية»، كما لاحظ «أن اشتغالهم بما ألفوه من العلوم الشرعية شغل رغبة واجتهاد، ولهم مآثرُ عظيمةٌ في حسن التعلُّم والتعليم؛ حتى إن البلدة إذا كان بها عالم شهيرٌ يرحل إليه من البلاد المجاورة من طلبة العلم العددُ الكثير والجمُّ الغفير فيعينه أهل بلدته على ذلك بتوزيع المجاورين على البيوت بحسب الاستطاعة؛ فكل إنسان من الأهالي يحتضن الواحد أو الاثنين فيقومون بشئونهم مدة التعلم والتعليم.»
وعرف رفاعة سيدة تُسَمَّى «السيدة أمونة، تقرأ القرآن الشريف ومؤسسة مكتبين أحدهما: للغلمان، والثاني: للبنات كلٌّ منهما لقراءة القرآن وحفظ المتون تنفق على المكتبين من كسبها بزراعة القطن وحلجه وغزله وتشغيله، ولا ترضى أن يشوبه شيءٌ من مال زوجها، وبجانب المكتبين خلواتٌ لمن يختلي من العباد والزهاد الحاضرين من أقصى البلاد لأداء فريضة الحج الشريف، ومنزلها كالتكية للفقراء وأبناء السبيل والقاصدين بيت الله الحرام وأمثال ذلك كثير هناك»، ثم قال: إن تلك البلاد «لم تخل قُراها عن نوع التقدم في الحضارة، مع مساعدة الوارد والمتردد إليها في هذه الأيام لقصد الزيارة أو التجارة؛ فإنها أقربُ للتمدن من أقاليم أفريقية بكثير وجميع أهلها — ما عدا بعض سكان الجبال — لسانُهم عربيٌّ فصيح؛ حيث إن جُلَّهم من نسل العرب المنتجعة القبائل قديمًا، يحفظون أحسابهم وأنسابهم وفيهم كمال الاستعداد وذكاء الفطنة، وإنما يحتاجون في حصول المطلوب إلى اطمئنان النفوس وتأليف القلوب من حكام أرباب صداقة وعفاف وعدل وإنصاف …»
فلا نستطيع أن نزعم إذن أن الحكم المحمدي العلوي في السودان نقل قومًا من الظلمات إلى النور، ولكنه أدى إلى ما لا يقل أهمية عن ذلك؛ خلق من إمارات وقبائل متفرقة وطنًا إسلاميًّا جديدًا، وهيأ لهذا الوطن مستقبلًا ووجودًا بين مناطق الأحباش والقبائل البدائية ومناطق الزحف الأوروبي الذي كان قد أخذ في الاقتراب نحو قلب القارة من الأطراف الساحلية، ثم ربط هذا الوطن الجديد بالعالم العثماني الأكبر وبحياة الإنسانية الحاضرة، وكانت مصر الصلةَ في ذلك الربط، هذا ما قدم محمد علي وهذا ما قدمت مصر — صنع الله له ولها جزاء ما قدما.
•••
عمل محمد علي في الأقطار العربية في الجزيرة وفي السودان طليقًا من كل قيد؛ لا دخل لحكومة السلطان في خططه ومشروعاته إلا بقدر بذل ألقاب التشريف وسيوفه وجواهره وحلله وتنميق عبارات الإطراء والحمد له ولابنه إبراهيم، ولا دخل أيضًا للسياسة الأوروبية فيها إلا بقدر الانتباه إلى أن دور السكون والركود في الأقطار العربية قد انتهى، وأنها قد أخذت تضطرب بحياة جديدة، واكتفت السياسة الإنجليزية إذ ذاك بهذا التنبه، ثم أضافت إليه تنبيهًا بالابتعاد عن بلاد الحبش.
ثم قام اليونان بثورتهم، وتحركت جيوش السلطنة وأساطيلها وجيوش محمد علي وأساطيله لقمع تلك الثورة، وبدأ بذلك فصلٌ جديدٌ في سياسة محمد علي؛ فصلٌ يمكِّنه من أن يتبين أمرين أساسيين، الأول: مدى إمكان التعاوُن بينه وبين حكومة السلطنة في إحياء القوة العثمانية، الثاني: موقف الدول الأوروبية منه ومن حكومة السلطنة، ولم تكف حوادث الثورة اليونانية وحدها لجلاء الأمرين وإنارة الطريق أمام محمد علي وأمام السلطنة والدول الأوروبية، بل احتاج ذلك أيضًا لمفاوضاته مع فرنسا بشأن إخضاع داي الجزائر، ويشغل هذا الفصل — فصل التبيُّن — السنوات من ١٨٢٤ إلى ١٨٣٠ تقريبًا، وسنبحث حوادثه من هذه الوجهة.
•••
في أبريل سنة ١٨٢١ انتهز يونان المورة فرصة عصيان علي باشا والي يانينا لإعلان استقلالهم، وأكدوا عزمهم وكشفوا عن خططهم بإبادة الحاميات الإسلامية المنبثة في أنحاء بلادهم، وبالفتك بكل من فيها من المسلمين غير الجنود شيوخًا ونساء وأطفالًا وامتدت الثورة للجزائر اليونانية، وانضم رجالها وسفنهم لتأييد الحركة، وأصبح بذلك لدى الحكومة الوطنية اليونانية أداة قوية جدًّا لمنع السلطان من استخدام المواصلات البحرية لنقل جيوشه لبلاد اليونان، وفي البحر أيضًا أكد اليونان عزمهم وكشفوا عن خططهم، فسلطوا سفنهم ومحرقاتهم على تجارة العدو وتجارة الصديق على حد سواء.
قابلت حكومةُ السلطنة خطط الثائرين بمثلها، وأجابتْ على ذبح غير المحاربين بمثلة أو بأحسن — أو بأسوأ — منه، ولم يغن هذا عن السلطنة شيئًا ولم يَرُدَّ لها ولاياتها المفقودة، فاستنجدت بمحمد علي، وقَبِلَ أن ينجد السلطان في إخضاع جزيرة كريد أولًا ثم في إخضاع بلاد اليونان كلها ثانيًا، قبل أن يتولى ذلك؛ لأن محيي العالم العثماني لا يستطيع أن يتجاوز عن حركات العصيان في أقطاره وعما صحبها من ذبح الأبرياء ومن تعطيل التجارة في حوض البحر المتوسط الشرقي، ولأن ذلك المحيي أراد أن يُثبت لأهل العالم العثماني ولأوروبا قدرته، ولأنه أيضًا يتمكن بذلك من أن يتبين مدى إمكان نجاح توجيه تشترك فيه القاهرة والقسطنطينية للخطط الحربية والسياسية، ولأنه أخيرًا يستطيع أن يزيد في تقوية قاعدته (مصر) بوضع جزيرة كريد تحت إدارته المباشرة.
ولم يخش عندما قبل أي اصطدام بأوروبا؛ فإن الدول إذ ذاك لَمَّا عرفت أن اتخاذ أية خطوة إيجابية لتسوية ما بين السلطان واليونان يكشف عن انقسامها، ويفتح الباب لِمَا لا تحمد عقباه؛ آثرت السلامة في إعلان حياد رسمي، وتركت حرية العمل لِمَنْ يريد من رعاياها شفاء غليل من المسلمين، أو رد جميل اليونان الأقدمين لأبنائهم الثائرين، أو رفع صوت الحرية عاليًا في ركن من أوروبا عَلَّ صداهُ يتجاوب في أركانها الأخرى.
أخضع محمد علي جزيرة كريد وما اقترب منها من الجزائر الصغرى بوسيلتَي اللين في موضعه والشدة في موضعها، ثم وَجَّهَ الحملة الكبرى بقيادة ابنه إبراهيم: جيشه المصري الجديد وأسطوله الأول، وهدف الحملة الأول (وهذه خطة وضعها محمد علي بنفسه) تطهير الجزائر، وتنظيف الجيوب والأوكار المنبثة فيها لتأمين المواصلات البحرية، ثم محاولة النزول في أرض المورة بعد ذلك، ولكنه سرعان ما اكتشف أمرًا له دلالته؛ اكتشف أن الحكومة العثمانية فصلت عن القيادة العامة للقوات البرية والبحرية (قيادة إبراهيم) قيادة أسطولها، ولم تكتفِ بهذا الإجراء المعرقل الضار فاختارت لرياسة أسطولها عدوًّا شخصيًّا لمحمد علي هو محمد خسرو باشا صديقنا القديم في مستهل القرن التاسع عشر.
وليت خسرو كان قد أثبت مقدرة في حرب البحر تُبرِّر تعيينه، أو استطاع أن ينزع من صدور رجاله الرعب الذي كان يملأُها من المحرقات اليونانية، فكانت خططه كلها تدور على تجنُّب اللقاء، ولم يتجنب اللقاء بأعدائه اليونان فحسب بل بأصدقائه المصريين أيضًا بدعوى الإصلاح والتجديد والاحتفال بانتصار صغير جدًّا ناله على الأسطول اليوناني، فترك خسرو البحر لإبراهيم، وأنزل هذا عسكره في كريد مترقبًا فرصة نقله لبلاد المورة وتجول في تلك البحار، وكانت لأسطوله منازلات مع الأسطول اليوناني خرج منها سالمًا، ولنذكرْ أنه ينازل برجال — لم يَطُلْ عهدُهم لا بحرب البحر فحسب بل بسفر البحر أيضًا — رجالًا ركوبُ البحار وتجارة البحار والتلصُّص في البحار في دمهم آلاف السنين، ثم انتهز فرصة تمرد رجال البحرية اليونانية على حكومتهم لتأخُّرها في دفع مرتباتهم ونقل جيوشه لبلاد المورة، وهنا أيضًا أول عهد الجيش الجديد بالحرب الجدية، وسار إبراهيم من نصر إلى آخر إلى أنْ أَتَمَّ اكتساحَ بلاد المورة وانتقل منها إلى الأقطار اليونانية الأخرى شماليها.
واتهمه الأوروبيون بأنه عمل على استئصال الأمة اليونانية وتطهير أرضها قضًّا وقضيضًا ليُنزل بها عربًا أو سودانًا مسلمين، وقد دفع المؤرِّخون الأوروبيون المحدثون هذه التهمة عنه وبَيَّنُوا أنها فرية لا أصل لها، وشرحوا أن في مثل حرب المورة؛ أي في الحرب ضد ثورة قومية؛ يصعب على القائد — أو يستحيل عليه — أن يفرق في عملياته الحربية بين أعدائه المحاربين من الجنود وأعدائه المحاربين من غير الجنود، كما أن سلامة عسكره قد تقتضي تخريب القرى والحقول، وشرحوا أيضًا ما أدت إليه طبيعة تلك الحرب من أن الأسر لا يسري على الجنود فقط بل يمتد إلى نسائهم وصغارهم، ثم بينوا ما بذله محمد علي — من الجهد والمال — لجمع مَنْ بِيعَ بمصر من سبي المورة وتحريره ورده إلى بلاده، وأشادوا بحسن معاملته لليونان المقيمين بمصر، وتَرْكه لهم حرية كاملة لكسب رزقهم، بل وللعمل لأغراض ثورتهم أحيانًا، وذلك في أوقاتٍ تقدمت فيها السفنُ اليونانية نحو الإسكندرية للاستيلاء على السفن التجارية الخارجة منها أو الداخلة إليها، بل ولمحاولة إحراق ما في مينائها من السفن التجارية والحربية، كما أشادوا باستطاعته بَثِّ الهدوء والطُّمأْنينة في أهل كريد مسلميهم ونصاراهم، وباستطاعته اجتذاب بحريين من اليونان غير قليلين للعمل في أسطوله!
ولَمَّا ظهر للأوروبيين أن لهيب الحرية اليونانية سوف ينطفئ في بحر من الدم؛ تحركت الدول للعمل الإيجابي الذي حاولت تجنبه زمنًا، وآن لها أن تفعل شيئًا فقد أصبح اعتداء البحرية اليونانية على التجارة أمرًا لا يكفي الاحتجاجُ عليه لدى السلطان ولي الأمر الرسمي ولدى اليونان أصحاب الأمر الفعلي في البحار، ثم حدث أن توفى الإسكندر قيصر الروسيا وكان حريصًا على ألا ينفصل عن الدول الأُخرى من أجل اليونان وتولى بعده أخوه نيقولا وكان رجلًا من طراز آخر، لا يتردد في تنفيذ ما يراه إما بالاتفاق مع أوروبا — إن أمكن — وإما وحده إذا لم يكن من ذلك مناص، فقامت مفاوضات انتهت باتفاق يولية ١٨٢٧ بين الروسيا وإنجلترة وفرنسا، مؤداه السعي لإقناع الفريقين المتحاربين بوقف القتال، وإذا لم ينجح المسعى تستخدم الدول الثلاث ما تُشير به ظروفُ الحال من الوسائل لمنع استمرار الحرب، ومن هذه الوسائل إعلان الحصار البحري للسواحل اليونانية بواسطة أسطول أوروبي مشترك.
وقد رفض السلطان رفضًا تامًّا أن يقبل أي تدخل أوروبي فيما اعتبره شأنًا داخليًّا عثمانيًّا صرفًا، بل وأقسم ودموعه تسيل على خديه لَيقتلن كل يوناني في مملكته، وإذا لم يصد هذا الأوروبيين، لَيقتلن الأرمن وغيرهم من رعاياه، بل ليخلطن دماء الفرنجة بدماء الرعايا من أهل الذمة، والظاهر أن محمودًا لم يتوقع بقاء الجبهة الأوروبية دون تصدع، والثابت أن الحكومة النمسوية — وكانت غير راضية عن سياسة اتفاق يولية — شجعت محمودًا على رفض التدخل الأوروبي، وعملت من جانبها على الحض على الإسراع في سحق الثورة قبل أن يتحول التدخل الأوروبي إلى حقيقة.
وسحق الثورة أو عدم سحقها قد خرج من يد السلطان وانتقل إلى يد محمد علي، صاحب الجيوش والأساطيل، فاتجه السعي نحوه، خطر ذلك للإنجليز أولًا، وأدركوا أن انسحاب محمد علي من الميدان يُبطل القتال توًّا.
وتحدث إليه قنصلهم في مصر بتعليمات من السفير في القسطنطينة معرِّضًا بأن الأولى به أن يقنع بباشوية سورية لإبراهيم بدلًا من تبديد جنوده وأمواله في مشروع تكرهه أوروبا، ورد عليه محمد علي رافعًا الحديث من مستوى الباشويات إلى مستوى سياسة الممالك، ومن النطاق الضيق: نطاق الجلاء من المورة إلى النطاق الفسيح العالمي الذي يسع مصالح إنجلترة ومصالحه، وختم كلامه بالإشارة إلى أنه سوف يؤجل رحيل النجدات البرية والبحرية التي طلبها إبراهيم لتصفية الثورة نهائيًّا حتى يعرف مبلغ استعداد الحكومة الإنجليزية للعمل معه، ثم حضر بعد ذلك رسول نمسوي لسعي آخر، لدعوة محمد علي للإسراع في سحق، الثورة وحذره من أن الإنجليز لا غرض لهم إلا استغلاله في هذه المسألة اليونانية بالذات وكفى، ومضت الأيام، وعمل محمد علي في فترة الانتظار على أن يُرغم حكومة السلطنة على عزل خسرو وجعل مقاليد القيادة بحذافيرها في يد ابنه، وتم له ذلك.
وأخيرًا لَمَّا طال الانتظار أمر بالرحيل، فسافر الأسطول في ٦ أغسطس، وبعد يومين من سفره وصل ضابط إنجليزي موفَدًا من قِبَل حكومته، وأبلغ هذا الضابط محمد علي — متجنبًا التهديد — ضرورة الجلاء عن بلاد اليونان؛ لأن الدول قد أجمعتْ كلمتها على فض الموضوع، وأنها سوف ترسل للبحار اليونانية قوات كفيلة بتحقيق ذلك، هذا رد إنجلترة على نطاق التعاون الواسع وسع العالم، وهذا درس آخر يتلقاه محمد علي من حوادث تلك الثورة اليونانية الكاشفة عن الخفايا المنيرة لمعالم الطريق، وأخذ يعمل على تجنب كارثة الاصطدام بالقوات الأوروبية في اليونان وبحارها مستخدمًا كل ما يستطيع استخدامه لدى رجال السلطنة من حجج الإقناع والتحذير والإنذار، ولكن بدون جدوى: وهذا درس ثانٍ من دروس حوادث تلك الثورة في إمكان توجيه سياسة واحدة للعالم العثماني من القاهرة والقسطنطينية، وحدث ما كان يخشاه: صمم قواد الحلفاء على وقف القتال وأرغموا الأساطيل المصرية والتركية على البقاء داخل خليج نافارينو ثم انتهزوا فرصة اصطدام بين رجال البحر لتحطيم تلك الأساطيل التي حاربت إلى أن انتهت، لم ترفع سفينة منها علمًا أبيض، ولم يغادرها رجل واحد من رجالها، وأعلنت الروسيا الحرب على الدولة العثمانية ودخلت جيوشُها الولايات العثمانية؛ وأنزلتْ فرنسا تجريدة فرنسية على ساحل المورة، فلم يبقَ لمحمد علي من سبب للبقاء فيها فأمر إبراهيم بالانسحاب والعودة.
ومضت الثورة اليونانية بعِبَرها، وبان لمحمد علي أن حكومة السلطنة تفهم العمل معه على وجه استغلاله إلى أقصى حدود الاستغلال، وليتها تحسن ذلك، فهو لا يكره إطاعة حكومة عليا رشيدة تعمل على بلوغ أهداف العزة والكرامة والرفاهية، ولكن ماذا أثبت السلطان ورجاله في أزمة نافارينو وفيما قبلها وبعدها؟ أثبت السلطان — كما قال محمد علي — أنه يتشبث تشبث الخنزير، وأثبت رجاله أنهم أبلد من الحمير، وبان له أيضًا أن أوروبا على اختلاف الأهواء قد تتحد، وبان له ثالثًا أنه لكي يساوم ينبغي أن يكون بيديه ما يساوم به وعليه، فلم يكفه الاستعداد للجلاء عن المورة للمساومة، وبان له أخيرًا أن إنجلترة لا تتحمس كثيرًا في الأحوال السياسية العادية لإخراج المباحثات السياسية من نطاق المسائل المحددة إلى نطاق المبادئ السياسية العامة، وكان شعارها: ليكف كل يوم شره.
•••
وأما المفاوضات بين فرنسا ومحمد علي في أمر إخضاع داي الجزائر فحديثها طريفٌ، تختلط فيه الأوهامُ بالحقائق اختلاطًا عجيبًا، ولم يكن فيه من رجل فصل بين الحقائق والأحلام سوى محمد علي.
وأصل الموضوع فساد العلاقة بين حسين داي الجزائر والقنصل الفرنسي، واحتد الداي يومًا ما وضرب وجه القنصل بمذبته، فانسحب القنصل ورفض الداي إعطاء الترضية المطلوبة وحاصرت القوات البحرية الفرنسية بلاده، وهاج الرأي العام في فرنسا مطالبًا باتخاذ ما ينبغي اتخاذه لغسل الإهانة … إلى آخره، وحكومة فرنسا إذ ذاك حكومة شارل العاشر، بينها وبين الأمة حساب آخرُ على مسائل أخرى لا تتعلق بحسين ولا بمذبته، بل تتعلق بأصول السلطان: أهو بتفويض من الله لا شأن لأحد به — كما يزعم شارل — أم بإرادة الأمة كما تزعم الأمة، فالأعصاب متوترة، والقلوب متنافرة، ولا بأس في صرف الخواطر عن المسائل الدستورية إلى طلب المجد، لا نقصد طلب المجد الرخيص عن طريق تأديب حسين، بل طلب مجد بَرَّاق لامع عن طريق محو ما فرض الحلفاء المتألبون ضد إمبراطورية نابليون على فرنسا في سنتي ١٨١٤ و١٨١٥ وأن الحكومة التي تستطيع نيل ذلك تزيل عن تاج شارل العاشر وصمة ما فتئ خصوم بيته منذ ١٨١٥ يكررونها، وصمة اقتران عودة البيت المالك للعرش بهزيمة فرنسا، ومما يزيد الأمر جاذبية أنه لن يكلف الأمة تضحية ما؛ فهو يقوم على العقل وحده ولا دخل للقوة فيه إلا من بعيد.
افترض بولينياك وزير خارجية الملك شارل العاشر أن الروسيا والنمسا سوف تقتسمان فيما بينهما الولايات العثمانية في أوروبا — وهذه دائمًا نقطة البدء في مثل هذه المشروعات — ولا بد من أن تعوَّض فرنسا عن ذلك لحفظ التوازن؛ وليكن التعويض ضم الأراضي البلجيكية حتى حدي الماز والرين — وكانت تلك الأراضي إذ ذاك في مملكة الأراضي المنخفضة وعلى عرشها الملك وليم الهولندي — هنا تحتج بروسيا: فلتُعطَ الأراضي السكسونية وما بقى من مملكة الأراضي المنخفضة، وهنا لا بد من تدبير شيء ما للملك وليم، فليعطَ عرش القسطنطينية وشيئًا من الأراضي التركية الأوروبية، بعد ذلك لا بد من الفصل في أمر مستعمرات الهولنديين في الشرق، هذه تعرض على الإنجليز، وهم أحرار في القبول أو الرفض. أما طريقة التنفيذ فأمرها هَيِّنٌ؛ تتفق الروسيا وفرنسا أولًا على المشروع ثم تجردان جيوشهما، فلا يسع النمسويين والبروسيين إلا الإذعان والاقتناع، أما إنجلترة فلتفعلْ ما تشاء، إن أرادت أن تنتفع فلها المستعمرات الهولندية وإن أرادت غير ذلك فهي حرة.
إن الاشتغال بهذه السياسة العالية علوًّا كبيرًا يقتضي من بولينياك ألا ينصرف إلى تأديب الداي حسين وأن يبقي الجيوش الفرنسية والأساطيل الفرنسية متجمعة مستعدة لما هو أهم، ولكن لا بد من تأديب الداي، فليؤدبْه محمد علي «على حساب» فرنسا.
والظاهر أنَّ هذا كان من بنات أفكار قنصل فرنسا في مصر، الإيطالي الأصل دروفتي، وملك المشروع عليه قلبه ولسانه، ولكننا لا ندري أَشَغَلَه عن الإتجار في الآثار المصرية فقد كان من أكبر تُجَّارها، وعرض الأمر على حكومته وعلى محمد علي، بل وذهب إلى ما هو أبعد من ذلك؛ أبلغ حكومته موافقة محمد علي على المشروع بشرط. والواقع أن محمد علي لم يوافق ولم يرفض بل أصغى إلى كل ما قيل ولم يقفل الباب؛ شأن الرجل العاقل، ولا بد أن دهشته كانت كبيرة لما عرف أن الملك شارل العاشر قد أقر فكرة استخدام قوات محمد علي لإخضاع الداي؛ بناء على ما عرضه عليه وزيره بولينياك بدون علم زملائه في الحكومة، وأنه أمر سفيره في القسطنطينية بنيل موافقة الباب العالي على اشتراك محمد علي — كأن الباب العالي يمكن استئذانه في مثل هذا الأمر — كما أمر قنصله في مصر، القنصل ميمو — وقد حل محل دروفتي — أن يبلغ محمد علي استعداد فرنسا لإعطائه ١٠ مليونات من الفرنكات ومعاونة الأُسطول الفرنسي إذا قام بالأمر بدون إبطاء.
اندهش محمد علي وحق له أن يندهش لهذا الخلط كله؛ اندهش لفتح الموضوع في القسطنطينية، واندهش من منع فرنسا في عرضها الشيء الوحيد في نظره الذي أعطى الموضوع أية قيمة «أربع سفن حربية كبيرة يضمها لأسطوله» ودارت المفاوضات من جديد وانتهت إلى عرض مبلغ ٢٠ مليون فرنك على محمد علي ومبلغ ٨ ملايين لبناء السفن الأربع في فرنسا له.
وكانت الحكومة الإنجليزية تعلم بكل هذا في وقته، علمتْه من تقارير قنصلها بالقاهرة، فإن دروفتي لم يطق إلا أن يتحدث فيه مع زميله الإنجليزي، وعلمته من صور للوثائق الأصلية الفرنسية أهدتْها إياها الحكومة النمسوية، وعلمته أخيرًا من الباب العالي نفسه وقد أسرع لإفساد المشروع بإبلاغه للإنجليز، فاعترضتْ عليه لدى الحكومة الفرنسية ولدى محمد علي، وكتب وزير الخارجية للسفير الإنجليزي بالقسطنطينية: «سواء وافقت الحكومة العثمانية المشروع أو لم توافق فإن الحكومة الإنجليزية لا يسعها إلا أن تهتم بتغيير خطير يحدث في الولايات الأفريقية تحت النفوذ الفرنسي وبواسطة وسائل فرنسية ومن أجل مصالح فرنسية، فيما يصح لنا أن نفترض.»
وكتب للقنصل الإنجليزي بالقاهرة ليبلغ محمد علي «اعتراض الحكومة الإنجليزية على أخذه على عاتقه تنفيذ هذا المشروع تحت الرعاية الفرنسية»، وعلى القنصل أيضًا أن يؤكد لمحمد علي الصداقة التي أملتْ هذه النصيحة، ولَمَّا أبلغه القنصل الرسالة أجاب محمد علي بأن الاعتراض لا لزوم له، وشرح له موقفه في الأمر كله، وكان مشروع بولينياك الكبير في تلك الأثناء قد انتهى إلى لا شيء، فلم تؤدِّ المفاوضات الأساسية مع الروسيا إلى نتيجة ما، كما أن بروسيا أعلنت أنها يستحيل عليها أن توافق على امتداد فرنسا لحد الرين الأيسر، وانصرف الوزير إلى تصفية أمر الداي مستغنيًا عن محمد علي كما كان محمد علي مستغنيًا عن المشروع كله.
ولكن الفصل لم يخل من فائدة: زادت السياسة الإنجليزية له وضوحًا، انجلى له مقتها لسياسة الحركة وإيثارها بقاء كل شيء على حاله وتأجيل التغيير فيه ما أمكن التأجيل، فهم ذلك فعدل، وما ألبقه أسلوب الحديث! إنجلترة تريد المحافظة، تريد بقاء السلطنة، تعمل على أن تقيها غوائلَ الزمن وأنْ تدفع عنها شَرَّ المطامع الروسية، ومن تستطيع أن تجد ليتولى ذلك سوى محمد علي، قال للقنصل الإنجليزي عندما قدم ليحدثه في موضوع الداي: ألا ترى استحالة المحافظة على الدولة العثمانية، قد ترقع هنا وقد ترقع هناك ولكن بلا جدوى، وماذا تتوقع لحكومة فقدتْ ثقة شعبها بها؟ ومن إضاعة الوقت أن تنتظر منها أن تحول دون التقدم الروسي، وفي منع تقدم الروسيين مصلحةٌ إنجليزية كبرى، وليست هناك وسيلة لتقوية السلطنة سوى تأييدي أنا، أنا الذي يستطيع أن يضع تحت طلب السلطان مائة وخمسة وعشرين ألف جندي على أهبة الاستعداد لصد الروسيين تحت أسوار القسطنطينية وفي إيران … إن الدولة قد انتهت وعلى إنجلترة أن تؤلف قوة أخرى لمواجهة الروسيا، وأين تجد هذه القوة إلا فيَّ وفي ابني من بعدي؟
ثم أفاض في شرح موارده وأن الحكومة الإنجليزية تُنقص من قدرها، وختم حديثه بأنه أينما اتجه يجد إنجلترة أمامه، وهذا الحديث أيضًا لا يخرج إنجلترة عن مقت سياسة الحركة، لم تتعهد بشيء ما، لم تقيد حرية العمل، لم تسابق الحوادث «ليكف كل يوم شره»، ومحمد علي أيضًا من جانبه لم يتعهد بشيء ولم يقيد حريته في شيء.
•••
وقد تكونتْ لديه في خلال السنوات العشر التي عرضنا حوادثها وعِبَرها اعتبارات أساسية، يسترشد بها في وضع خططه وتنفيذها في السنوات العشر الأخرى التي بدأت بسنة ١٨٣٠، قَلَّ وثوقه بإمكان وضع سياسة مشتركة بين القاهرة والقسطنطينية، وزاد إيمانه بأن محمودًا ورجاله يسيرون قدمًا نحو الهاوية، وتأكد من أن نجاح اليونان في نِيلِ استقلالهم ستتلوه حركاتٌ وثورات في الولايات الأوروبية من العالم العثماني، وأن العطف الأوروبي على هذه الحركات سيكون عاملًا هامًّا في نجاحها، ورأى أن فرنسا قد أخذت في توسيع دائرة الفتح في الجزائر، فانتقل العمل من تأديب الداي حسين إلى فتح منظم لتلك النيابة العثمانية الهامة، ومن يدري أين يقف الفتح؟ كما رأى أن الروسيا توطد نفوذها وتُملي إرادتها على الباب العالي، ولا يتردد القيصر نقولا لحظة في اتخاذ ما يراه كفيلًا بإعلاء كلمته في القسطنطينية، الحرب إن كان لا بد منها، الوعد بوضع السلطان في كنفه وفي ظله الظليل إن كان هذا أجدى، وفي حالتي الحرب والسلم — على حد سواء — يتقدم النفوذ الروسي فيما بين البحرين الأسود والقزويني في اتجاه إيران والخليج الفارسي بالإضافة إلى توغُّله في أواسط آسيا نحو أفغانستان والهند، أما والأمور كذلك ماذا يصنع محمد علي؟
يشير عليه الإنجليز ويشير عليه الفرنسيون ألا يكون هو الفاتح للأزمات الشرقية، ويشير عليه الأول — بصفة خاصة — أن يقبع في داره، وأن يوجه مواهبه التي لا شك فيها في تنمية الموارد ورفع لواء العدل والإنسانية وحسن الإدارة وإسعاد شعبه، أن يتجنب الحركة، وأن يخلد للسكون، وحسن جدًّا أن تلزم إنجلترة خطة المحافظة، وحسن جدًّا أن تفعل ذلك عندما يكون بين يديك كل ما تريد، فهل ينطبق ذلك الوصف على محمد علي؟ لم يكن لديه كل ما يلزمه، بل لم يكن لديه ما يلزمه لسلامة بلاده وإنقاذ عمله، كانت تملأه الحسرة ويتقطع فؤاده أسًى كلما تقدمت به السن وكلما خطر أمام عينيه شبح الزوال! زوال ماذا؟ زوال دور الصناعة والأساطيل والمصانع والمدارس والمعاهد والترع والجسور والقناطر، وزوال كل ما أنشأه هو وشعبه بعرق الجبين بل بعرق الدم، أيستطيع أن يسمح بانتقال هذا التراث لباشا من بشاوات السلطنة يبدده ويخربه كعادة الباشوات، لا بد من الضمانات ضد الزوال، لا بد من الحركة.
هذه الضمانات حسية ومعنوية؛ توطيد النفوذ المعنوي في العالم العثماني، ولدى الحكومات الأوروبية بالاستمرار في سياسته العمرانية، ونشر سلطانه المباشر في أقطار أخرى من العالم العثماني يقيه ملكها شر حكومة السلطنة وخبث طويتها نحوه ونحو عمله، ويعطيه ملكها الموقع الآمن والموارد التي يستطيع بها أن يكون على حال من القوة والاستعداد تمنع عنه أطماع الطامعين، ويُخرج بذلك أقوامًا من عبث الحكام وفسادهم، ومن ركود الفقر والفوضى إلى حركة اليسر والنظام، لا بد له من أن يتخذ هذه الضمانات سريعًا إن أراد أيضًا أن يسبق اتجاه الدول الأوروبية نحو تلك الأقطار.
ما هي تلك الأقطار؟ الولايات الشامية الأربع: حلب وطرابلس ودمشق وصيدا وبعض المناطق الساحلية في الجزيرة العربية على البحر الأحمر والخليج الفارسي، هذا أكيد، والعراق والمناطق فيما بين الشام والأناضول هذا مما يترك للظروف، والأقطار — كما ترى — هي في الجملة مما يكون — على حد تعبير محمد علي — عربستان أو ما نسميه دار العروبة، فهل تصور لها كيانًا سياسيًّا، أو ما نسميه وحدة عربية؟ سؤال كبير، إن أجبنا عنه سلبًا عدونا الصواب ونسبنا إليه قلة إدراك لعناصر وروابط بارزة؛ لغة واحدة وثقافة واحدة، ودين واحد ومصالح مشتركة، وبالنسبة لحياة العالم الاقتصادية كتلة واحدة. وإن أجبنا عنه إيجابًا عدونا الصواب أيضًا بعض الشيء ونسبنا لعصر سابق ما هو — على وجه التحقيق — من خلق العصور اللواحق، وأخفينا إخفاءً لا يبرره الواقع عناصرَ وعواملَ تدفع نحو التفرقة؛ اختلافات جغرافية واجتماعية، اختلافات في طرق التفكير وفي مستوى المعيشة، اختلافات مذهبية طائفية، صعوبات المواصلات، ضعف وسائل الاتصال العقلي والحسي، وهكذا.
وقد لا نعدو الصواب إن قلنا: إن محمد علي أدرك الفكرة في عمومها، وأنها مما يمكن التشييد عليه في حالة الانفصال عن السلطنة، وهذا ما لم يقرره بعد، بل ترك تقريره تبعًا لظروف الحال، إنْ حَتَّمَتْ تلك الظروف تقسيم العالم العثماني أمكنه نقض ما حدث في القرن السادس عشر وبناء العالم العربي من جديد، ولكنه لم يكن قد يئس بعدُ من مستقبل الوحدة العثمانية وإن كان قد يئس من مستقبل السلطنة، فلنقتصرْ إذن على الباعث الأول الدافع لاتخاذ العمل الإيجابي، باعث الاستيلاء على الضمانات.
دخل الجيش المصري بقيادة إبراهيم أراضي ولاية صيدا — وقاعدتها عكا — ومهمته الصغرى وضع حد لخطة «وخز الإبر» على طريقة الباشوات التي سار عليها عبد الله الجزار صاحب تلك الولاية، ومهمته الكبرى الاستيلاء على الباشويات الأربع، كان ذلك في سنة ١٨٣١ وتقدم الجيش والأسطول نحو عكا وحاصراها حصارًا طويلًا، وقاوم عبد الله ببسالة وقوة قلب، وفي مايو اقتحم إبراهيم الأسوار ودخل المدينة واستولى على دمشق في يونيه بدون مقاومة، ومنها تقدم شمالًا وهاجم الجيش العثماني عند حمص — مفاجأةً — وهزمه بعد واقعة قصيرة، واحتل حلب بعد ذلك بقليل، ثم هزم جيشًا عثمانيًّا ثانيًا في بيلان. أمام محمد علي إحدى خطتين؛ إما التقدُّم لتهديد السلطان في قاعدة مُلْكِهِ وحمله على التسليم بما يُريد، أو التريُّث وانتظار تسوية تُقِرُّها الدول الأوروبية.
نصح إبراهيم بالخطة الأولى وبالانفصال، واقترح أن تضرب السكة باسم أبيه، وأن يدعى له على المنابر، ورد عليه أبوه أنه بلغ ما بلغه بالاعتدال وأنه ليس بحاجة لألقاب التشريف، وذَكَّرَ ابنه بأن هناك دولًا أقوى من السلطنة وأنه لا بد من نيل موافقتها إذا أراد تسوية مستقرة، وأن تقدم إبراهيم نحو القسطنطينية لا بد وأن يلزم الدول بالتدخل، وقد سبق ذلك في المسألة اليونانية، أما الخطة الثانية، فضررها أنها تتيح للسلطنة فرصة الإفاقة من غشيتها فتجمع جيوشها لحماية العاصمة، عرف ذلك محمد علي ولكنه يعرف أيضًا أنه يستطيع أن يتغلب على تلك الجيوش كما تغلب على أخواتها من قبل، وهذا ما حدث.
ابتدأت السياسة الأوروبية تتحرك وابتدأت السلطنة مفاوضات وهمية مع محمد علي لكسب الوقت، ولما ظنت أنها قد استعدت تحركت، وحدث ما توقعه محمد علي، فإن إبراهيم هزم الصدر الأعظم رشيد محمد هزيمة ساحقة عند قونية في ديسمبر ١٨٣٢ وانفتح طريق القسطنطينية، وتقدم إبراهيم ولكنه عندما بلغ كوتاهية أمره أبوه بالوقوف، وكان الداعي لذلك تدخُّل الروسيا في الأمر، عرض القيصر على السلطنة مساعدتها بقواته البرية والبحرية، وطلب إلى محمد علي الكف عن القتال.
وكف إبراهيم عن التقدم، واستنجد السلطان بإنجلترة قبل أن يقبل ما عرضه عليه القيصر، طلب منها أن تعينه بأسطولها، ورفضت الحكومة الإنجليزية المعاونة المادية؛ لحاجتها إذ ذاك لكل قواتها بسبب مشكلة الحركة الاستقلالية البلجيكية، وسعت هي وفرنسا لحمل محمد علي والسلطان على تصفية ما بينهما آملتين أنهما بذلك يجعلان العرض الروسي لا لزوم له، أعلنت كل من فرنسا وإنجلترة تمسكها بسياسة المحافظة على الدولة العثمانية، «ولكن — كما قال بالمرستون وزير الخارجية لوكيله في القاهرة — لما كان من غير المستطاع إعادة الأمور إلى ما كانت عليه، فالحل الوحيد في هذه الظروف أن تعهد حكومة السلطنة حكم ولايات الشام إلى محمد علي بشرط أن يؤدي الجزية عنها وأن يعين السلطان حربيًّا إذا اقتضى الحال ذلك، وبهذا الحل تُصان مصالحُ السلطنة ولا تنقص مواردها المالية والعسكرية»، وسلم السلطان في النهاية بهذا الحل مضيفًا على الولايات الأربع جزيرة كريد ومنطقة أضنه.
سلم السلطان بهذا، ولكنه نفث في الاتفاق وجو الاتفاق سُمًّا، فعقد مع القيصر معاهدة انكيار اسكله سي (يولية ١٨٣٣) في ظاهرها معاهدة تحالف وفي جوهرها معاهدة حماية، كرهتها فرنسا وإنجلترة، وكرهت إنجلترة معها محمد علي، واعتبرت أن حركته التي لا تبطل وطموحه الذي لا حد له حملا السلطان على أن يضع نفسه في هذا الموضع المذل، ثم رتبت على ذلك النتيجة الظالمة: يجب أن أنافس الروسيا في حماية السلطان بكل سبيل، ويجب أن أقف في وجه محمد علي في كل مكان، يجب أن أُعاديه بحيث يعرف السلطان أني أنا — لا الروسيا — الصديقة الصدوقة.
وقفت له في اليمن، ثم وضعت يدها على عدن، وهددته ألا يقترب من الفرات ومن الخليج الفارسي، وتصدى قناصلها للحكومة المصرية في سوريا؛ يعرقلون عملها ويسفهون عمالها ويبذرون بذور الشقاق والاستياء في بلاد عَلِمَ الله قلة حاجتها للشقاق والكراهية، وكانت القنصليات الإنجليزية في الشام والسفارة الإنجليزية في القسطنطينية قواعد تلك الحملة العدائية، وإذا ما شذ قنصل عن ترداد النغمة التي تحبها وزارة الخارجية كان نصيبه العزل كما حدث لقنصل القاهرة كامبل عندما حاول أن يكون أمينًا لخدمة بلاده بقول الحق.
وحاولت الحكومة الإنجليزية أن تهدم قوة محمد علي من الأساس بحمل الباب العالي على إلغاء الاحتكارات التجارية في معاهدة تجارية كرهها التجار الإنجليز في مصر — وهم أعرف بمصالحهم — ولم يروا فيها إلا عملًا سياسيًّا مستترًا بثوب تجاري، وهذا كله بأسلوب خلا من كل ما اصطلح عليه الناس في الغرب والشرق من أدب التعبير وحسن الخطاب، موجه إلى عصامي عرف الناس جميعًا قدره، وقدَّره خصومه كما قدره أصدقاؤه، رجل قد يحارب وقد يعادي ولكنه رجل لا يُهان، ويأتي المؤرخ ددويل وينكر — بعد كل ما أورد — على من قال من المؤرخين المصريين، بأن الحكومة الإنجليزية حاربت عظمة مصر في عهد محمد علي، قولهم.
قابل محمد علي البذاءة بالتغاضي عنها؛ فهي لم تَجْرِ أبدًا على لسانه، وقابل العداوات الصغيرة بالترفُّع عنها؛ فهِمَّتُه أسمى من العداوات الصغيرة، وفي أسوأ الأوقات عندما تحرجت الأحوال واستخدمت الدول قوة السلاح ضده حافظ على مصالح رعاياها أدق محافظة، فلم يمسس لهم بريدًا ولا مالًا ولا شخصًا، بل وذهب مرة في المجاملة إلى حَدِّ أَنْ وضع تحت تصرف القنصل الإنجليزي باخرةً من بواخره لتحمل إلى مالطة نبأ انتصار عسكري إنجليزي في الشرق كان يهم الحكومة الإنجليزية سرعة إرساله!
وعندما قطعت الدول علاقاتها به وانسحب القناصل من مصر، أتدري ما حدث؟ رفض التجار وغيرهم من الإنجليز أن يتبعوا قنصلهم ويغادروا مصر، فالحرب حرب اللورد بالمرستون، وبعثت إليه غرفة التجارة البريطانية ببنغالة في الهند برسالة تحيي فيها المثل الذي رسمه للأمم المسيحية في ضبط النفس المطمئن، وفي سنة ١٨٤٢ ضرب التجار الإنجليز ميدالية ذهبية نقشوا عليها رسمه وسجلوا عليها حمايته النبيلة للمصالح الإنجليزية.
ومضى محمد علي في السنوات التالية لتسوية سنة ١٨٣٣ في سبيل الجد، حاول أن يصنع في الولايات الشامية ما صنعه في مصر؛ أن يقيم سلطة عامة واحدة شعارها السماحة، وشغلها إحياء الموات، ودرعها الجيش الوطني، تَصْرِفُ الناس عما درجوا عليه من تناهب الأموال العامة وترك الخراب يطغى رويدًا رويدًا على ما هو عامر، وكره لحمل السلاح في خدمة السلطان وإن كانوا يحملونه لشفاء الأحقاد الطائفية والشخصية، ولو خلص له الأمر في الولايات الشامية لَتغلب على تلك الصعوبات تغلُّبَه على مثيلاتها في مصر، ولكن الأمر لم يخلص له؛ تصدى له القناصل وترحموا على زمان سَهْل رغيد كانت لهم فيه مُساهمةٌ فيما سميناه حكومة التناهب، وتصدى له كل أصحاب «الحقوق» المكتسبة من أنصار زمان المذابح، وخلف الجميع السفارة الإنجليزية في القسطنطينية «والمابين الهمايوني» والسلطان عينه لا تنام، وقلبه دائم الخفقان، مستعد لأن يفعل كل شيء وأن ينزل لأي حضيض وأن يبذل أي تضحية لشفاء ما في نفسه، فأخذ يجيش الجيوش ويعد العدة؛ واستقدم فون ملكته البروسي ونفرًا من أبناء جنسه لتدريب الجيش واستخدم ضابطًا من الإنجليز في الأسطول.
وكان لا بد لمحمد علي من أن يكون أيضًا مستعدًّا، حذرت الدول محمودًا ومحمد علي من عواقب التمادي فيما هما فيه، وإن اختلفتْ لغة الخطاب في الحالتين، اختلفتْ لدرجة أن محمودًا فهم من الثنايا «أن استمر فيما أنت فيه وأن الهزيمة نفسها لن تضيرك»، وقال القنصل كامبل في هذا الأمر كلامًا معقولًا، قال: إن الإنصاف يقتضي ألا يرغَم محمد علي على نزع سلاحه دون أن تضمن له الدولُ الاحتفاظَ بما في يديه، وتعمل عملًا جديًّا على أن تحمل السلطان على نزع سلاحه هو أيضًا.
وقبل محمد علي تلك الضمانة؛ فقد ضاق في تلك السنوات ذرعًا بثقل أعباء التسليح والجزية مع التقدُّم نحو الشيخوخة دون أن يصل إلى نظام ثابت مستقر للمستقبل، فهَمَّ في سنة ١٨٣٨ بإعلان الانفصال مهما كانت نتائجه، ثم غلب عليه اعتداله الطبيعي فتريث، وأخيرًا عبر الجيش العثماني الفرات في إبريل سنة ١٨٣٩ وطلبت الروسيا من إبراهيم أن ينسحب إلى دمشق واعدة بمخاطبة السلطان في الارتداد عن حدود الشام، فأجاب محمد علي بأنه على استعداد للانسحاب إذا عاد الجيش العثماني إلى ما وراء الفرات، وضمنت له الدول عدم اعتداء السلطان عليه وحق وراثة مصر لأبنائه من بعده، إن فعلت ذلك قَبِلَ تخفيض جيشه في الشام وتسوية نهائية مع السلطنة، ولما مل الانتظار، وسئم دسائس حافظ باشا — قائد الجيش العثماني — بين أهل الشام أمر إبراهيم بالهجوم، فهاجم إبراهيم معسكر حافظ باشا في نزيب «نصيبين» وحطم الجيش العثماني (يونيه من ١٨٣٩)، وحدث بعد هذا بقليل موتُ السلطان وتسليم الأسطول العثماني لمحمد علي على يد قائده الأعلى، وقد خشى انهيار السلطنة نهائيًّا فسلم الأُسطول إلى من ينبغي أن يكون رجلها.
حل محل محمود ابنه عبد المجيد، وبدأ بالدخول في مفاوضات مع محمد علي، وسارت المحادثات نحو الاتفاق على قاعدة الوراثة في ملك كل ما في يده، ولكن الدول الخمس قدمت مذكرة مشتركة تنص فيها على وجوب عدم اتخاذ قرار فيما بين السلطنة ومحمد علي إلا بموافقتها (يولية ١٨٣٩)، هذا الاشتراك مما رحبت به الدول فقد اعتبرتْه إحلالًا للهيمنة الدولية على الشئون الشرقية محل الهيمنة الروسية، فهو تتويجٌ لما بذلته إنجلترة من جهود في السنوات الأخيرة ضد محمد علي، ولكن شَذَّتْ فرنسا وخرجت عن الجادة — وليتها لم تشترك في مذكرة يولية من أول الأمر — وعملت من ناحيتها على حث السلطنة ومحمد علي على تسوية الخلاف فيما بينهما، الأمر الذي قتلته المذكرة المشتركة، ولما أحس بالمرستون بذلك ضرب ضربته؛ فعقد المعاهدة الرباعية المشهورة من إنجلترة والروسيا والنمسا وبروسيا (١٥ يولية ١٨٤٠).
وتنص المعاهدة على منح محمد علي باشوية مصر وراثية في بيته، ومنحه جنوبي الشام مدة حياته، ثم تدرجت في نقص المنح إلى حد استرداد كل شيء منه بقوة السلاح إذا لم يذعن في الأوقات المحددة.
وقابلت فرنسا المعاهدة التي عقدت بالرغم عنها بعاصفة من الاحتجاج، لم يأبه لها بالمرستون كثيرًا لاعتقاده الصحيح أن مَلِكَ فرنسا لوي فيليب لن يوافق على إعلان الحرب إذا جَدَّ الجد، واعتقد رئيس وزرائه تيير أن إجماع أوروبا لن يطول فنصح لمحمد علي بألا يذعن، ولكن لا يهاجم، بل يقف موقف الدفاع، وبئست النصيحة، كان الأَوْلى بمحمد علي إما أن يقبل عرض الدول الأول «مصر وراثية وجنوبي الشام مدة حياته» أو يتخذ خطة الهجوم، قبل تأهُّب الدول للعمل المشترك، على قاعدة السلطنة: القسطنطينية.
لو فعل ذلك لَأصبح في موقف لا تسهل زحزحتُه عنه، فهو بهذا يفتح باب المسألة الشرقية على مصراعيه، وهذا الفتح التام يصدع أي جبهة أوروبية مهما بلغ من اتحادها، أما خطة المقاومة السلبية فكانت فيها بذورُ الهزيمة، والنقد سهلٌ من بعيد، وأجمل منه أن نبعث على البعد بتحية إعجاب وعطف للشيخ الذي صمد للمحنة مرفوع الرأس يستعد للوقفة الأخيرة؛ فأخذ يستدعي جنوده من الجزيرة العربية، ويؤلف فرقًا جديدة وينشئ معسكرًا دفاعيًّا في دمنهور، ويشجع على تأليف الحرس الوطني.
وأدرك رجالُ السياسة أنْ قد آن وضعُ حد لما هم فيه من استخدام القوة المجردة الغشوم، أدركوا أن خصمهم وراءه قوة تؤيده من الرأي الأوروبي المستنير؛ لذلك — وعلى الرغم من انهيار الدفاع المصري عن الشام، رحب رجال السياسة بالاتفاق الذي عقده الضابط البحري ناييير — دون تفويض له من حكومته بذلك — مع محمد علي في نوفمبر من سنة ١٨٤٠، وبموجبه تعهد محمد علي بإخلاء الشام وإعادة الأسطول العثماني نظير منحه حكومة مصر بصفة وراثية، وعلى أساس هذا الاتفاق صدرت في سنة ١٨٤١ الفرمانات السلطانية المحددة لمركز مصر.
بدأ بتلك الفرمانات عهد الخديوية المصرية، ولكن الخديوية لم تتخذ شكلها في التأريخ إلا بعد موت محمد علي، ذهبتْ فتوحه واختفى أسطوله وانكمش جيشه ولكنه لا يزال مهيب الجانب، عالي الصيت، يتألق من جبينه جلال المشيب ونور المجد، فمنع عن مصر في السنوات التي بقيت له النزول إلى ما قدره لها أصحاب تسوية سنة ١٨٤١، إلى مرتبة النيابات العثمانية الراكدة ومناطق المشروعات الاستغلالية الأوروبية.
ولئن أخفق محمد علي في تحقيق مشروعه الخطير: إحياء القوة العثمانية؛ فقد نجح في وضع قواعد الدولة المصرية على أساس مكين.