الفصل الثامن
قضى محمد علي على تشتيت السلطان وتجزئته وأقام الدولة الجديدة، يخضع لها الجميع، وتتكفل بواجبات الدولة في العصر الحديث، شعارها — بل وروحها — السماحة، لا لأنها تجردت من الصفة الدينية، أو قصرتْ دائرة عملها على حد المصالح الدنيوية أو قامت على نوع من الفصل فيما بين الدين وبين السياسة؛ بل كان ذلك لاعتبارها أن الحياة الاجتماعية في العصر الحديث قد تطورتْ تطورًا يسمح عمليًّا بقبول فكرة التعاون لتحقيق أغراض سياسية واجتماعية بين أناس يختلفون دينًا ولكن تربطهم روابطُ إسلامية في حقيقتها، وبقيت القيم التي يعتد بها في تشكيل سلوك الأفراد وعمل الحكومة قيمًا إسلامية.
وقضى محمد علي على فكرة المشاركة والمقاسمة في الأموال العامة وتناهبها، وأقام مكانها العملَ على إحياء الموات، فوقف الخراب عند حد، ثم ارتد أمام تقدُّم العمران، واستلزم هذا في أوله تقييد حرية الفرد، فإن محمد علي رفض الفكرة القائلة بأن الإنسان يستطيع أن يفعل ما يشاء بما تملكه يمينه، وأكد واجب وليِّ الأمر في توجيه الجهود الفردية نحو غايات اجتماعية، فخرج في ذلك عن الحد الذي رسمه بعضُ مفكِّري عصره عندما قصروا واجب الحكومة على مهمة المراقبة والحماية عند الاقتضاء فحسب، وقد عرفنا أن الاعتبارات العملية السائدة بررتْ موقفه تمام التبرير، وأدركنا أن خططه كان من شأنها في النهاية، وعلى الرغم مما اتخذتْه من حيطة أن تؤدي إلى فك القيود، وإزالة العقبات من طريق التبادل الحر والجهود الفردية الطليقة.
وقد اقتصر تقييد حرية الفرد لمصلحة الجماعة على الدائرة الاقتصادية ولم يتجاوزْها إلى دائرة الحياة الروحية في أَيَّة ناحية من نواحيها، فتركها ولي الأمر طليقة من كل القيود، لا سلكان فيها إلا للضمير وللدين، أليست هذه أنفسُ أنواع الحرية؟ بل أليست هي الحرية؟
وقضى على العصابات المسلحة، وأقام مكانها الجيش الوطني، وكانت فكرته أن الفرد لا ينبغي له أن يحمل سلاحًا إلا بإذن السلطان ولأغراض السلطان، وتخلصت الجماعة بذلك من الاضطراب والفتن والحرب الداخلية، وأصبحت أمة تملك أداة العيش الكريم.
أما أدوات السلطان، فالإدارات الحكومية الكبرى والصغرى المعروفة، أما قانونه الأساسي فدستورٌ غير مكتوب، يتركب من مبادئ قديمة ومن مبادئ جديدة، ويستمد وحدته من إرادة محمد علي، تسري هذه الإرادة في العمال، كبيرهم وصغيرهم على يد الصفوة من الرجال التي عمل على خَلْقها وإحكام أمرها طول أيامه، ولكن ماذا يكون الحال بعد موته؟ اكتسب لأبنائه حقَّ وراثة ملكه، حقيقة كان هذا أقل مما كان يرجو ولكنه احتفظ لهم بما يستطعيون في ظروف أكثر مواتية أن يبنوا عليه، وكان أمله أن يسير أبناؤه على النهج الذي نهج وأنْ تُعاونهم الصفوةُ التي خَلَقَ، وهذا عهده السياسي ولنضعه في عبارته، قال مخاطبًا رجال الحكومة: «سيحصل لكم من عائلتي كما حصل لكم مني من جهة الالتفات وترفيع الدرجات لكم ما دامت الحياة، وكلما شاهدوا أطواركم وأحوالكم جارية على ما سبق بيانه من الكيفيات عَلِمُوا قيمتكم وقتًا فوقتًا، وأخذوا يقولون: إنهم خدموا في زمان آبائنا وأجدادنا هكذا، وسلكوا مسلك الحق والاستقامة حتى كان منهم أنهم إذا رأوْا أمرًا غير لائق يخالفونهم في إجراءاته رعاية لأصول الحق، وهذا برهانٌ ساطع على خدمتهم في أيامنا بهذا الشكل، وما فعلوا ذلك إلا لأملهم الخدمة والاستقامة في أيامنا ويعرفون درجتكم وقيمتكم ويُكثرون شرفكم طبيعة كواجب اللازم والملزوم.»
أيفترض محمد علي في عهده هذا أن خلفاءه سينسجون على منواله، وأنهم سيجدون من صفوتهم ما وجده من صفوته؛ من عرفان الجميل، والأمانة، وتوافُق الميول والأهداف، فهل هذا مما يُمكن البناءُ عليه؟ قبل أن نجيب عن هذا السؤال ينبغي ألا يفوتنا تقرير حقيقة، هي: أن القوانين الأساسية المكتوبة لا يكفي لبقائها ولا يكفي لحيوتها — والحيوية تَفْضُلُ مجرد البقاء — كونُها مكتوبة، فقد تبقى وقد لا تبقى، وقد تكون حية وقد لا تكون حية، والمهم أن تستند إلى قوًى معنويةٍ وحسية، فعلام استند قانون محمد علي غير المكتوب؟ استند إلى انتشار أفكاره العمرانية في العقول، وإلى أن تلك الأفكار قد تحولت من برنامج رجل واحد إلى برنامج وطني، واستند أيضًا إلى أن معاني العزة والكرامة والشرف قد اتسعتْ لتفيد عزة الوطن، وكرامة الوطن وشرف الوطن. تلك هي القوى المعنوية والحسية، وقد أصبحت حقائق، وهي نِعْمَ الأساس لأي دستور.
ذلكم محمد علي، وعمل محمد علي.
قال مرة لصديقه الدكتور بورنج الإنجليزي: «لا تعجب إذا رأيتني أحيانًا عجولًا قليل الصبر، فقد كنت في حياتي كلها موفقًا ميمون النقيبة، لا بد أني ولدت والطالع سعيد والنجم مبتسم، ثم لم تفارقني بعد سعادة الطالع وابتسامة النجم»، فهو شخصية مشرقة؛ مشرقة في حالتي الرضا والغضب، في العمل في المصالح الكبرى وفي شئون كل يوم، وهو شخصية إنسانية لا تتكلف ما ليس من سجيتها، دقيقة الحس مرهفته، تتجلى في المآثر الكبرى وفي المجاملات الصغرى.
كتب لابنه سعيد أن يقتدي بأستاذه فارس أفندي وأن يتطبَّع بأخلاقه؛ لاتصافه بحسنها، ثم نبَّه على ابنه ألا يتناول الطعام معه؛ لأن فارس أفندي كان يستنكر بدعة استعمال الشوكة والسكين، فينبغي على ابنه أن يتجنب ما يؤلم شعور الأستاذ، أرأيت رقة المجاملة؟
ولما تقدمت السن بحبيب أفندي مدير الديوان الخديوي اضطر محمد علي لإعفائه من الخدمة وأسند عمله لحفيده عباس، وكتب للأمير عباس: «ولكون الأفندي المومى إليه من أعز أصدقائي المحبوبين فلا ينبغي التوجه للديوان ورفعه منه وتوجهه لمنزله على ملأ العالم، بل اللازم هو إرسال الأمر داخل مظروف إليه بمنزله ليلًا أو المخابرة معه»، وكتب لحبيب أفندي نفسه ما يأتي: «إنه في علمك ممنونيتي لجهتك بالنسبة لخدماتك التي أديتها بكل صدق واستقامة في هذه المدة المديدة، ولا بد عندك إحساسات قلبية بذلك، إنما لمعاناة المشقات في السعي والاهتمام في سبيل تلك الخدم طرأ على جسمك فتورٌ وهزال؛ ولذلك كان مأموري وموظفي الديوان إدارتك طرأ عليهم أمور مغايرة في شئون وظائفهم وعدم قيامهم بالواجبات، فلأجل تأليف هؤلاء على السير بالحسنى تراءى لي تعيين ذات ذي كفاءة مديرًا لذلك وإن حفيدي عباس باشا شوهد فيه الكفاية لهذا المنصب؛ فقد عينته مديرًا عليه بعنوان «كتخدا»، ومكافأة لك صار تقاعدك بكامل ماهيتك، وحائزًا لنشانك، والحضور لطرفي في أيام التشريفات كما كنت»، أرأيت أيضًا رقة المجاملة؟
كتب إلى أحد كبار الحكومة أنه علم أن حفيده عباس قتل رجلًا خبازًا «على أن جده سبق أن أكد عليه بعدم غدر الأهالي، وبأنه تأثر من ذلك؛ لأنه من المعلوم أن المشار إليه حفيده ووارث ملكه بعده، فإن كانتْ هذه أفعاله في حال شبوبيته فكيف يمكنه الحكم بالعدل عندما يتولى مسند الحكومة، ويؤكد على هذا الكبير بإيقاظه وإلقاء تلك العبارات للمشار إليه رحمة بشيخوخته وإلا فليتحققا بمحوهما وإزالتهما»، فلم تكن الأرواح رخيصة عنده.
وكتب لابنه سعيد: «واللازم عليك الائتلاف بمن لهم معرفة بالأصول الجديدة، العارفين بالحالة والوقت، والاهتمام في تعلُّم تلك الأصول منهم؛ حتى لا يقال إن محمد علي سيئ الخلق.»
قال محمد علي في أواخر أيامه: «ما كنت أؤمل ولا أتعشم في الوصول إلى المراكز التي وصلنا إليها اليوم، وصارت آمالي الآن آخذةً في الازدياد؛ ولذلك يسهل عليَّ إتلاف أحد أسرتي الحاكمة على ثلاثة ملايين من النفوس في سبيل عمارة وإصلاح الوطن الذي هو أقصى مرغوبي.»
ولنختم كلامنا عند هذا، عند الأمل الذي يزداد دائمًا والعمل الذي لا يقف عند حد التضحية.
وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ.