الطرق الصُّوفيَّة
انتشرت الطرق الصُّوفيَّة في السُّودان انتشارًا واسعًا وأكثرها انتشارًا الطريقة الميرغنية. وأنصارها يؤمنون بمشايخهم وخلفائهم، ويخلصون لهم، ويبذلون أموالهم وحياتهم في سبيلهم، ويجب أن يلاحظ أنَّه ليس في السُّودان زعامة سياسية وطنية بالمعنى المفهوم في مصر، وأنَّ النفوذ الظاهر هو النفوذ الديني؛ ولذا قامت الثَّورة المَهديَّة — كما رأينا — على أساس الدعوة الدينية.
وإنَّه وإنْ تكن قد انتشرت في السُّودان طرق كالطريقة الإدريسيَّة والقادريَّة والشَّاذلية وسواها، إلَّا أنَّ كلَّ هذه الطرق وافدة على السُّودان وليس في السُّودان قاطبة طريقة أُسِّست من عربي سوداني سوى الطريقة الإسماعيلية، أعني طريقة الشيخ إسماعيل بن عبد الله — الولي الكردفاني. وقد نشأت هذه الطريقة في عهد الحكم المصري الأول بالأبيض، وكان صاحبها متطرفًا بالطريقة الختمية في أول أمره، ثمَّ أسس طريقته بإذن صحيح بحضرة شيخه الشيخ محمد عثمان المرغي شيخ الطريقة الختمية، وقد انتشرت هذه الطريقة بسرعة البرق في جميع أنحاء السُّودان، وخاصة في كردفان وأم درمان ودنقلا، وهي الطريقة الوحيدة التي كانت قائمة أيام المَهديَّة لاحترام المهدي لها، وهي أمتن طريقة من حيث مؤلفات مؤسسها الذي جمع بين علمي الشريعة والحقيقة في عصر كان يعد مظلمًا: فقد نيَّفت مؤلفات الشيخ إسماعيل على الخمسين كتابًا في علمي الشريعة والحقيقة، ولم يطبع منها إلَّا القليل جدًّا، بل ما يعد غير مذكور بالنسبة لمؤلفاته. ومؤلفاته تمتاز بأنَّها محكمة فنية بليغة الأسلوب على خلاف ما يشاهد في أشعار المتصوفين بالسودان. ومن أشهرها كتاب مشارق الأنوار الذي لم يطبع إلى اليوم، فحرم الناس من علمه الغزير، وهو يتكلم عن السموات السبع والأرضين السبع، ثمَّ إنَّ أُسْرة صاحب هذه الطريقة أشهر الأسر في السُّودان علمًا وصلاحًا ولم يصبها من عسف المَهديَّة وظلمها إلَّا الاحترام، وتجد حظوة السيد المكي الشيخ إسماعيل الولي عند الخليفة والمهدي مذكورة في تاريخ السُّودان. وقد عدَّ علماء هذه الأسرة وصلحاؤها فزادوا على الستين، ومن أشهر علمائها السيد أحمد الشيخ إسماعيل الولي، وهو أزهري وأول من درس بالأزهر من السُّودانيين. وقد وفد على السُّودان، وكان له أثر ظاهر في العلم الذي انتشر بعدُ على يد تلامذته. وقد أنكر على المهدي دعوته وحاربه مع جيوش الحكومة المصريَّة حتَّى قتل شهيدًا مع ابنه، ومنهم السيد الباقر ابن الشيخ إسماعيل المدرس بجامع الخرطوم في صدر هذه الحكومة إلى أن توفَّاه الله عام ١٩١٨، ومنهم السيد إسماعيل بن السيد أحمد المذكور مفتي السُّودان سابقًا «بهذه الحكومة» ومنهم الشيخ إسماعيل عبد القادر ابن بنت الشيخ إسماعيل الولي وهو أزهري، ومنهم السيد محمد السيد الباقر المدرس بجامع أم درمان اليوم، ومن هيئة كبار علمائه المبرزين وأقدرهم، وكثير غير هؤلاء، حتَّى إنَّهم عُرِفوا بالسَّادة، فهناك لا يُطلق هذا الاسم على أسرة بأكملها صغيرهم وكبيرهم سواهم.
وهنا أذكر أنَّ الشيخ عبد الله أبا المعالي تلميذ الأمير، وهو أزهري جليل جاء إلى السُّودان، واجتمع برؤساء أهل الطرق فيه، فأنكر عليهم كلهم حتَّى وصل إلى الشيخ إسماعيل المذكور، ففتح له على يده في خلال أسبوع أو أقل، ولذلك امتدحه بجميع أبحر الشعر حتَّى قال في بعض قصائده الكثيرة:
والشيخ عبد الله أبو المعالي المذكور وقائل هذا الشعر هو الذي امتدحه الشيخ البولاقي عند مروره ببولاق فقال في شطر بيت له مشيرًا إليه:
فمن هنا يتَّضح لك مكانة مؤسِّس الطريقة الإسماعيلية. أمَّا كتبه التي لم تنشر فإنَّه لم يسبقه على مثلها إلَّا أمثال الشيخ محي الدين بن العربي، ولعل الناس يفاجأون بها في يوم من الأيام فيعلموا شيئًا عن عظم صاحبها. والشيخ إسماعيل المذكور عباسي نسبًا ونسبه محفوظ وذريته الآن نحو أربعة الآلاف نفس، وأمَّا أتباعه فهم فوق الحصر.
(١) الطريقة الميرغنية
ودعيت بالطريقة الختمية؛ لأنَّ شيخها وصل في سلوكه إلى رتبة الختم، وهي مرتبة عند الصُّوفيَّة لا يصل إليها إلَّا عارف «ولي» في كلّ قرن.
ثم أراد السيد محمد عثمان الكبير السفر إلى مصر، فنزل في ميناء القصير بمديرية قنا، ومنها نزل إلى قرية الزينية بمركز منفلوط، وبعد أن أقام بها سافر إلى السُّودان، وأقام في بلاد كثيرة، وكان يتردَّد بين بلاد السُّودان والحجاز، وتزوج من بنات بعض أمراء السُّودان، ومنهن والدة السيد محمد الحسن جد السير علي الميرغني الزعيم السُّوداني المشهور.
وقد ترك السيد محمد عثمان بالسُّودان ثمانية أولاد، وهم السيد محمد سر الختم والد السيد محمد سر الختم الميرغني الشهير بمصر المدفون بتكية باب الوزير، والسيد محمد الحسن جد السير السيد علي الميرغني، والسيد جعفر الميرغني الكبير، وهو جد السيد جعفر الزعيم الحالي في الأريتريا والصومال، والحبشة، والسيد هاشم الميرغني والد الشريفة علوية بالأريتريا والشريفة مريم بسنكات، والسيد إبراهيم تاج الختم، والسيد المحجوب الباب، والسيد التاج، والسيد خالص النور. ودفن أكثرهم بالسودان.
(١-١) انتشارها في السُّودان
وكان تأسيس الطريقة الميرغنية في آخر سلطنة الفونج. واشتهرت في التاكا «كسلا» بين الحلانقة وبني عامر والحباب، وفي دنقلة بين النوبيين والشايقية والكبابيش والبشارين والعبابدة. وقد ولد مؤسِّس الطريقة ودفن في مكة.
(١-٢) انتشار الطريقة بمصر
أول من نقل الطريقة الميرغنية من الحجاز إلى مصر سيدي أبو حريبة المدفون بالدرب الأحمر، وقد اتصل بشيخ الطريقة عند زيارته بمكة لأداء فريضة الحج، ولازمه عامين، ثمَّ أجازه بنشر طريقته بمصر، واشتهر أتباعه ومريدوه بطريقة أبو حريبة. وشيخ سجادة الطريقة الميرغنية الآن هو السيد محمد أبو بكر الميرغني. والطريقة منتشرة بسائر مديريات الوجهين البحري والقبلي والمحافظات، وللطريقة تكية بالقاهرة بشارع باب الوزير، وبها ضريح السيد محمد سر الختم والسيد محمد عثمان الأقرب وكثير من أشراف المراغنة. وتكية بالإسكندرية. وبكل تكية مسجد. وللطريقة خلفاء.
والطريقة الميرغنية في السُّودان هي أوسع الطرق الصُّوفيَّة انتشارًا وأرفعها مقامًا، وتمتاز الطريقة الميرغنية في أذكارها وأورادها وسائر مظاهرها بخلوِّها من البدع كالطَّبل والزَّمر والتَّصفير وسائر ما طرأ على طرق الصُّوفيَّة من التحريف.
وجميع أذكارها وأورادها ترجع إلى كتاب الله وسنة نبيه ﷺ بالأسانيد الصحيحة.
وللسيد محمد عثمان الكبير مؤلفات كثيرة، منها تفسير القرآن المسمى بتاج التفاسير. وقد تكرر طبعه، وفي الحديث وعلم المصطلح والتوحيد والتصوف والصلوات والأوراد ومن المدائح النبوية الشيء الكثير. وكان له في كلّ علم قدم، وله أوراد خاصة وراتب ينظم أذكار أتباعه صباح مساء، وله شرح يرجعه إلى أصول السنة، وهي متداولة.
وانتشرت الطريقة في بعض مقاطعات الهند الإسلامية بسبب زيارة السيد جعفر للهند.
وهي منتشرة باليمن بسبب زيارة السيد محمد سر الختم، وقد تزوج فيها، كما انتشرت في البلاد الإسلامية.
ورجال الطريقة الميرغنية في جميع أطوارهم بعيدون عن شهوة الحكم، مشهورون بالهدوء والسكينة والبعد عن المشاغبات. وقد ظلوا موالين للحكومة في أثناء الثَّورة المهدية.
(٢) طرق أخرى في السُّودان
القادرية. السمانية. الشاذلية. الإسماعيلية. التيجانية. الأحمدية. الرفاعية. البيومية. البراهمة، نسبت إلى سيدي إبراهيم الدسوقي.