الأدب في السُّودان
كان للقبائل العربية النازحة إلى السُّودان في عصور التَّاريخ المختلفة ولطبيعة البداوة التي شاهدتها في مهابطها ومنتجعاتها أثر في إيجاد شعر أشبه موضوعًا بشعر الأقدمين، شعر ينزع إلى الحماسة، والفخر بالعشيرة، والأنفة، وإباء الضيم، والحب، والرثاء، وغير ذلك. وقول الشعر لديهم سهل ميسور بفضل روحهم العربية، وطبيعة بلادهم. غير أن هذا الشعر ليس فصيحًا متَّفقًا مع قواعد العربية وأوزان الشعر إلَّا إذا صدر عن الذين اتصلوا بلغة العرب اتصال تعلم وتثقُّف، ثمَّ هو يحتذي الشعر المصري في تطوره، وتغلب عليه النزعة الدينية وروح الإيمان. انظر إلى قول المرحوم الشيخ مكي الدقلاشي أحد شعرائهم من قصيدة:
وانظر إلى قول صاحب الفضيلة المرحوم الشيخ أبو القاسم أحمد هاشم شيخ العلماء:
وانظر إلى قول الشيخ الحسين الزهراء في المهدي مؤيدًا دعوته، ذاهبًا بها مذهب المتصوفة وأهل الطريق:
وانظر إلى قول الشيخ الأمين محمد الضرير المحسي الأنصاري في توفيق باشا خديوي مصر لما عيَّنه رئيسًا للشيوخ في مسجد أسَّسه للعلم:
وبجانب هذا الشعر المجيد الذي غزته الروح العلمية المنتشرة حينًا بعد حين على يد مصر، تجد شعراء آخرين تغلب على ألسنتهم رطانة البدو.
انظر إلى قول أحد شعرائهم «أبو جروس» في عهد الأرباب يمدح الملك حمد ابن الشيخ إدريس الأرباب من قصيدة:
ومن شعرائهم المجيدين الذين أخذوا عن جمهرة من الأساتذة المصريين الذين قاموا بالتدريس بكلية غوردون الشيخ عبد الله البنا، ومن شعره يخاطب الهلال:
أمَّا المحدثون من الشبَّان فنزعتهم إلى الشعر لا تقل عن سابقيهم، وهم يتتبَّعون بانتباه روح مصر في نزعاتها، ويكادون يلتهمون شعرها ونثرها وعلمها التهامًا، ومن أولئك الشبان الذين تقوى فيهم النزعة الشعرية زين العابدين أفندي إبراهيم طالب بمدرسة كتشنر الطبية، ومن شعره في الرثاء:
أمَّا النثر فلم ينل الحظ الذي ناله الشعر لديهم؛ إذ لم يزل للسَّجع سلطان في الكتابة على كثرة الكاتبين، وكان المرحوم محمد عباس أبو الريش من الأدباء الذين امتازوا بحصافة الرأي، وقوة التعبير، وفضيلة الأستاذ الشيخ أحمد عثمان القاضي رئيس تحرير حضارة السُّودان من أرباب القلم القادرين على إبراز المعاني الدقيقة في عبارات خلَّابة طلية.
ويدخل في منطوق كلمة «النثر» أمثالٌ وحكمٌ سارت على لسانهم كما سارت الأمثال قديمًا على ألسنة العرب، وكما كانت الحكمة تُلقى من أفواههم فإذا هي نور وهدى.
ومن هذه الأمثال قولهم:
«الْبِتْسَوِّي تِلْقَى» يريدون: ما تعمل من عمل تجد جزاءه خيرًا أو شرًّا، و«الجعلي بعدي يودعه خنق» يضربونه للرجل الشجاع الذي لا يبالي بأحداث الأيام وهمومها، و«لا محمد في القراية ولا فاطمة في السقاية» يضربونه عندما يُعيِّرون رجلًا عقيمًا أو امرأة عقيمًا.
وممَّا يلفت النَّظر أن كثيرًا من ألفاظهم المتداولة عربية فصيحة، فمثلًا تقول المرأة عندما تريد أن تغتسل: أريد أن أتبرد بالماء «وكلمة أتبرَّد كلمة عربية فصيحة». قال عمر بن أبي ربيعة القرشي:
ويقولون: «أنت يا زول» يعني يا إنسان، وهي عربية ولكن بفتح الزاي، وهو الظريف من كلِّ شيء، قال الحطيئة يصف ناقته:
- (١)
فهي تتغذى من الينبوع العربي الأصيل الفياض؛ ولذا ففيها شجاعة، وفيها كرم، وفيها وفاء، وفيها حماسة، وفيها مروءة.
- (٢)
وتتغذى من الينبوع الإسلامي؛ ولذا فللدين فيها نصيب كبير، وللقرآن حظ عظيم، وللأحاديث النبوية سيادة واسعة، وللأخلاق الإسلامية سيطرة روحية نافذة، وحافظة واعية، لا سيَّما بوجود المعهد العلمي بأم درمان ودروس القرآن في المعاهد الصغيرة، واحترام المذاهب.
- (٣)
وتتغذى من الثَّقافة الأدبية المصريَّة بما يقرأه الشبان من كتب وجرائد ومجلات مصرية. وممَّا يحفظونه من قصائد الشعراء المصريين، وكلمات كبار الكتاب وأساطين الصحافة المصرية، وممَّا يتأثرونه من أساليبهم، التي أصبحت متجددة، وأضحت مبتكرة، متنافسة، متبارية، في الصيغ والجمال والروح والمعاني.
- (٤)
وأخيرًا وجدت الثَّقافة السُّودانية ينبوعًا جديدًا، في الثَّقافة الإنكليزيَّة — في التَّعليم في كلية غوردون، وفي تعليم بعض الشبان الأذكياء في مدارس القاهرة وجامعة بيروت الأمريكية وفي لندن، وفي وجود عدد كبير من الموظفين الإنكليز، وبينهم خريجو الجامعات وأبناء المدرسة الإنكليزية، وفيما توافرت عليه النخبة الفنية المتعلمة من مطالعة الكتب الإنكليزية.
ويلوح لي أن الثَّقافة السُّودانية ستتَّجه في المستقبل — إذا ظلَّت متجددة أو مُحبَّة للتَّجديد — إلى انتحاء الثَّقافة المصريَّة والأخذ بقليل من الثَّقافة — الإنكليزيَّة الخالصة؛ لأنَّ في الثَّقافة المصريَّة الجديدة نفسها مزيجًا من الثَّقافة الإسلامية والثَّقافة الإنكليزية.
•••
على أنَّ حديث الثَّقافة السُّودانية يجب أن ينبِّه كلَّ متحدِّث عن الثَّقافة، إلى ذلك التَّطور العالمي البارز، فإنَّ الثقافات أصبحت متداخلة، ونحن نوشك أن نرى العالم كله تغمره ثقافة واحدة؛ لأنَّ العالم في سبيل أن يحيا حياة متماثلة، في التوافر على استعمال الآداب والطائرات وأساليب الدفاع، وصيغ المجاملات، والولائم، ولأنَّ المواصلات قد تعدَّدت، ولأنَّ العارفين باللغات الأجنبية يكثرون، ولأنَّ الكثير من المنتجات الأدبية والتاريخية وما إليها يُترجم إلى اللغات الأخرى.
وهناك حقيقة أخرى — يجب أن يذكرها الذاكرون — ذلك أنَّ في البلد الواحد — ولا سيَّما ما كان في اتساع الأطراف كالسودان — تتنوع الثقافات، وذلك أنَّ الثَّقافة الجديدة، وإن بدا أنَّها وقف على قلة صغيرة، فهي التي بيدها المستقبل ولها الانتشار؛ لأنَّ الإنسان يملُّ القديم، ولأنَّ القديم نفسه يهرم ويبلى.
•••
قال عطوفة الأمير شكيب أرسلان عن الشعر في السُّودان:
بيني وبين الشاعر «السوداني» عثمان حسن بدري في رثاء كلٍّ منا لأخيه فإنَّه هو يقول:
وأنا أقول في المرحوم أخي نسيب:
ولا شكَّ أنَّ كلًّا منَّا لم يطلع على بيت الآخر؛ فإنِّني أنا رثيت أخي «نسيبًا» سنة وفاته، أي من ثماني سنوات، ولم أنشر رثائي له بعد لأقول إنَّ هذا الشاعر اطَّلع عليه فبقي في ذهنه هذا المعنى، وسينشر هذا الرثاء قريبًا في ديواني الذي هو تحت الطبع بمطبعة المنار، كما أنه سينشر في ديوان أخي رحمه الله الذي هو اليوم أيضًا تحت الطبع في دمشق الشام. وأمَّا أنا فما اطلعت على هذه المرثية التي لعثمان حسن بدري إلَّا في عدد في محرم الجاري من جريدة «الجهاد»، ولم تكن هذه المرثية ممَّا أورده الأستاذ عثمان هاشم في جريدة السِّياسة من قبل. وقد رأيت ممَّا رأيته من العجب في نوادر الخاطرين أن أضع أمام أنظار القراء في وقت واحد رثاء السيد عثمان حسن لأخيه ورثاء كاتب هذه السطور لأخيه، فهو يقول:
وهذا المعنى لا شكَّ في أنَّه مطروق، ولكنني أنا منذ شهرين كنت أقول في مطلع رثائي للحاج عبد السلام بنونة فقيد المغرب رحمه الله ما يلي:
ثم يقول:
وأنا أقول في أخي:
ثم يقول:
يصف احتضار أخيه رحمه الله، وكيف كان خروج نفسه الأخير. وأمَّا أنا فلم يكن لي — واحسرتاه — أن أودِّع أخي ولا أن ألقي عليه النظرة الأخيرة؛ لأنَّ المحتل لبلادي يمنعني من دخولها بجريمة أنِّي أدافع عن استقلالها.
ثم يقول:
وهذا مثل قولي:
ثم يقول:
وأمَّا رثائي لأخي فهو هذا:
ومن قصيدة ألقاها الشيخ مدثر علي البوشي القاضي الشرعي بمناسة المولد النبوي سنة ١٣٤٢ﻫ، تليت بسرادق الحكومة بأم درمان عند زيارة الحاكم العام، وكان لها أثر شديد في النفوس وصدًى بعيد حتَّى ترجمت يومئذ مع النثر إلى اللغة الإنكليزيَّة، وسارت مسير الأمثال.
إلى أن قال:
(١) أسماء الشعراء
هم الأساتذة والشيوخ والأفندية: