الحياة الاجتماعية والصحافة والعادات
(١) الأغاني السُّودانية
ويعد الحاج محمد أحمد سرور مطرب السُّودان الأول. وهو الآن بمصر يتلقى مع بعض زملائه دروسًا في الموسيقى بمعهد الموسيقى الشَّرقي وأقام حفلات.
ومن الأغاني السُّودانية:
(٢) الصحافة في السُّودان
-
(١)
أول جريدة أنشئت هي جريدة الغازيتة السُّودانية «الجريدة الرَّسمية»، ونشرت في أول أعدادها نص اتِّفاق ١٨٩٩. وكانت الغازيتة العسكرية للجيش المصري تطبع في الخرطوم عند وجود الجيش والسردار بها.
-
(٢)
بعدها أنشئت جريدة «السودان»، وكانت تصدر مرتين في الأسبوع، وأصحاب امتيازها هم الدكاترة أصحاب المقطم، والذي تولى شؤونها إدارةً وتحريرًا هو حضرة صاحب العزة الأستاذ خليل بك ثابت رئيس تحرير المقطم الآن، وقد انتهى عهدها سنة ١٩٢٥. وكانت لها إعانة من الحكومة.
-
(٣)
مجلة «غرفة التجارة السُّودانية»، وهي مجلة اقتصادية، ولا تزال قائمة إلى الآن.
-
(٤)
جريدة «الخرطوم» ولدت في سنة ١٩٠٩ لصاحبها المرحوم أسعد يسي المساح الذي كان قد وصل الخرطوم مكاتبًا لجريدة «الظاهر» لصاحبها المرحوم محمد أبو شادي بك.
-
(٥)
«كشكول المساح»، وقد قام على أنقاض جريدة «الخرطوم» لصاحبه المرحوم أسعد يسي المساح المنوَّه عنه آنفًا. وكان دينيًّا مسيحيًّا.
-
(٦)
جريدة «رائد السُّودان»، وأصحاب امتيازها هم أصحاب مطبعة فيكتوريا من رجال الجالية اليونانية، وقد تولى تحريرها الأستاذ عبد الرحيم قليلات السوري البيروتي الذي كان موظفًا بمصلحة البواخر بحكومة السُّودان إلى سنة ١٩١٥. وكان يشترك في تحريرها طائفة من كبار الكتاب والأدباء أذكر منهم حضرات الأستاذ محمد توفيق، وهو الموظف بوزارة الخارجية الآن، والأستاذ محمد توفيق بدري الذي كان موظفًا بمصلحة المراجع العام بالخرطوم، ويقيم الآن في السُّودان بعد أن تقاعد بالمعاش، والأستاذ حامد عوضين سعفان الموظف بالمالية المصريَّة الآن وصاحب الأبحاث الممتعة عن السُّودان وغيرهم من حملة الأقلام الوطنيين والمصريين. ولما اعتزل رئيس تحريرها خدمة حكومة السُّودان في سنة ١٩١٥ أسندت رياسة تحريرها إلى الأستاذ المرحوم «السيد حسين شريف» المتخرج من كلية غوردون، فتولاها إلى سنة ١٩١٩، حيث توفيت تلك الصحيفة إلى رحمة مولاها.
-
(٧)
«حضارة السُّودان» (١): أخذ امتياز إحداها جماعة ساهموا في رأس مالها، وفي طليعتهم السر السيد عبد الرحمن المهدي، وهم الشيخ عثمان صالح التاجر المشهور بأم درمان، والشيخ محمد عكاشة خليل خيال، والشيخ عبد الرحمن جميل التاجر بكوستى، والشيخ محمد أحمد نقد التاجر بأم درمان، والشيخ حسن أبو الفاجر بالأبيض، والمرحوم السيد حسين شريف الذي تولى تحريرها، وقد شاركه في تحريرها فضيلة الشيخ أحمد عثمان القاضي، ولم تكد تسلخ عامها الأول حتَّى لحقت بالخالدات سنة ١٩١٩.
-
(٨)
«حضارة السُّودان» (٢): قامت على أنقاض الحضارة الأولى وأصحاب امتيازها السادة علي الميرغني، والسيد عبد الرحمن المهدي، والشريف يوسف الهندي. وقد تولى تحريرها المرحوم السيد حسين شريف، وفي مدة مرضه كان ينوب عنه «الأستاذ عبد الرحمن أحمد»، فلما لحق بربه اختير لتحريرها «الأستاذ أحمد عثمان القاضي» رئيس تحريرها من إبريل سنة ١٩٢٩، وهي تصدر مرتين في الأسبوع، ولا تزال قائمة، وتنال إعانة من الحكومة وتنشر إعلاناتها.
-
(٩)
الجريدة التِّجاريَّة، وكانت تُعنى بالمباحث الزراعية والصِّناعيَّة، صاحب امتيازها ومحررها هو سليمان أفندي داود منديل صاحب مطبعة منديل وناشر جريدة «حضارة السُّودان» الآن، قامت حوالي سنة ١٩٢٦، واستمرت إلى سنة ١٩٣١، ثمَّ تحولت إلى جريدة «ملتقى النهرين»، وأصبحت سياسية أدبية أيضًا.
-
(١٠)
جريدة ملتقى النهرين، وسارت تحت هذا الاسم إلى أن اندمجت في سنة ١٩٣٤ من أول شهر مايو في جريدة حضارة السُّودان التي لا تزال محتفظة بهيئتها من امتياز وتحرير.
-
(١١)
مجلة النهضة السُّودانية، صاحب امتيازها ورئيس تحريرها هو المرحوم محمد أفندي عباس أبو الريش أحد خريجي كلية غوردون، وقد ماتت هذه المجلة بوفاته في سنة ١٩٣٣.
-
(١٢)
مجلة مرآة السُّودان لصاحبها ومحررها الشيخ سليمان أحمد كشة أحد خريجي المدارس الابتدائية، وقد اختفت منذ أواخر سنة ١٩٣٤ ولم تعد للظهور.
-
(١٣)
مجلة الكشافة، وهي مجلة دورية تُعنى بأعمال الكشافة خاصة، ولا تزال قائمة.
-
(١٤)
مجلة كلية غوردون، وهي مجلة خاصة بالطلبة ومباحث جمعياتهم المختلفة التي تأسست بدار الكلية مؤخرًا لتنمية مداركهم ودفعهم في نواحي الإنتاج الذهني المختلفة، وهي خطوة من دار الكلية حمدنا عقبة نتائجها كثيرًا، ولا تزال بحمد الله قائمة.
-
(١٥)
مجلة «الفجر»، وهي مجلة أدبية أنشئت في سنة ١٩٣٤، وصاحب امتيازها ورئيس تحريرها هو «الأستاذ عرفات محمد عبد الله»، وهي نصف شهرية، ولا تزال قائمة. وهي تعد لسان حال أدباء السُّودان الشبان.
-
(١٦)
«السودان» أخذ امتيازها في سنة ١٩٣٤ الشيخان الأستاذ «عبد الرحمن أحمد» وتولى تحريرها، و«محمد السيد السواكني» وتولى إدارتها، ولا تزال قائمة، وكانت أسبوعية، وتصدر الآن مرتين في الأسبوع.
-
(١٧)
«جريدة النيل» أول جريدة يومية عربية مصورة بالسُّودان ألفتها شركة مساهمة اسمها «شركة الطباعة والنشر المساهمة — بالسودان»، رأس مالها خمسة آلاف جنيه، برياسة الوجيه السيد مصطفى أبو العلا التاجر المشهور، ومن المشاركين فيها الحسيب النسيب السير السيد عبد الرحمن المهدي، ومسيو كونتوميخلوس في أربع صفحات، مديرها الصحفي المصري حضرة الأستاذ حسن صبحي، ومحررها فضيلة الشيخ الحاج الأمين عبد القادر. العدد الأول منها صدر في أول أغسطس سنة ١٩٣٥. وللجريدة عدد أسبوعي أدبي علمي خاص.
-
(١٨)
وعدا هذه الجرائد العربية يوجد في الخرطوم جريدة يومية وصحيفة أسبوعية من ٨ صحائف إنكليزية اسمها «سودان هرالد»، ويحررها جناب «المستر كوكس»، وهو كاتب إنكليزي مهذب حلو الدعابة، وهو وكيل روتر بالخرطوم.
وهناك أيضًا ثلاث جرائد يونانية أسبوعية.
(٢-١) الطباعة في السُّودان
أول عهد السُّودان بالمطابع في عصر الحكومة المصريَّة السَّابقة بعد فتح محمد علي بقليل، فإنها أنشأت بالخرطوم فرعًا من المطبعة الأميرية من نوع الحجر، ومعملًا لصنع الورق، وعهدت بنظارتها إلى المرحوم إبراهيم أفندي أحمد وأعوانه، وكلهم جاءوا من مصر. وقد توفي هذا الناظر بالخرطوم وخلفه ابنه حسن بك المطبعجي، حتَّى مات قتيلًا يوم سقوط الخرطوم سنة ١٨٨٥، وقد استغنت الحكومة السُّودانية المصريَّة بهذه المطبعة ومعمل الورق عن جلب لوازمها من مصر، علاوة على طبع أوراق التَّمغة التي تعود على الخزانة بإيراد يذكر لتوقف سائر المعاملات المدنية والتِّجاريَّة على أن تحرر على أوراق التمغة كما تقضي به لوائح الحكومة.
ومن المعلوم أنَّ هذه المطبعة لم تطبع غير مطبوعات الحكومة. وفي أثناء حصار الخرطوم من مارس سنة ١٨٨٤ إلى يناير سنة ١٨٨٥ كان غردون باشا يوزع نشرات مذيلة بتوقيعه عن حوادث الحروب التي تدور رحاها بين القوات المدافعة عن المدينة وبين الأعداء وأخبار النجدات الزاحفة نجدة للخرطوم.
ولما سقطت الخرطوم استولى المهديون على هذه المطبعة، ونقلوها إلى أم درمان، واستعملوها في طبع «راتب المهدي» المحتم قراءته صباحًا ومساءً. وقد جمعت منشورات المهدي من أولها إلى آخرها وطبعت في مجلدين كبيرين، وكذا طبعت منشورات خليفته.
ولما استُرجع السُّودان في سنة ١٨٩٨ أُسست مطبعة السُّودان لأصحاب المقطم بعد قليل لطبع جريدة السُّودان ومطبوعات الحكومة، ثمَّ أنشأ الخواجات ساوولي وخرثانثو مطبعة فيكتوريا في سنة ١٩٠٨، وقد آلت إلى مسيو كونتو مخالوس في سنة ١٩١٦، ثمَّ آلت إلى شركة ماكوركوديل سنة ١٩٢٥.
(٣) عادات المواطنين السُّودانيين
لمواطنينا السُّودانيين الكرام عادات كثيرة، أملى أكثرها حياة الفطرة والحياة الإسلامية الدينية، والظروف المحلية في السُّودان، والاختلاط بالزنوج وبالمصريين وبالإنكليز والوافدين، والتعليم.
ولاتساع ربوع السُّودان، تختلف العادات في مديرية عن الأخرى، ففي الشَّمال العادات أقرب إلى مصر، ولا سيَّما صعيدها إن لم تكن متوافقة معها، وفي الجنوب ترى عادات الزنوج.
ولا شكَّ أن السُّودان في تطور منذ فتح محمد علي — وهو ما يسمونه الفتح الأول، أو ما يُسمِّيه السُّودانيون العامَّة «الحكومة التُّركيَّة القديمة».
وقد أثَّرت العادات الإنكليزيَّة في المجتمع السُّوداني الراقي، فانتشر الهندام الإنكليزي وعادات حفلات الشاي والرياضة والنظام والأندية واللغة الإنكليزية.
ويحتفظ السُّودانيون إجمالًا بفضائل العرب والإسلام من شجاعة وكرم ووفاء والاعتزاز بالكرامة.
وقد وجدنا بين الشبيبة السُّودانية ميلًا ظاهرًا إلى ترك الانتماء إلى عصبيات القبائل، والاعتزاز بالنسبة إلى السُّودان فقط، وقد أسفنا إذ رأينا بعضهم لا يزال ينظر إلى السُّودان بأنه السُّودان العربي، ويستنكر تصوير السُّودان على أنَّ به زنوجًا.
ونحن نرى على العكس أن الزنوج لا ذنب لهم في بساطة حياتهم وسذاجتهم وكونهم لا دينيين، وأنَّهم حين يشهدون مسلمًا يصلي أو يحتفل بعرس أو بمولد، أو يذكر الله حاكوه، وسرعان ما اعتزوا بالإسلام. كما أنهم أبلوا بلاءً مشهورًا في الجيش المصري، في حرب المكسيك، وفي حروب محمد علي ومن بعده.
•••
ولا ضير في نقلنا بعض العادات ونشرها في هذا الكتاب نقلًا عن المراجع والمؤلفات والمشاهدات. فلكل أمَّةٍ — مهما رقت — عاداتها وأخلاقها. والعادات أبدًا في تطور وتغيير وتنقيح. وهذا ظاهر في السُّودان ظهورًا بيِّنًا.
•••
ومن عادة ملوك الفور تجليد النحاس، وهي عادة لا توجد في غير دارفور، وتجليد النحاس هو تغير جلود الطبول المسماة في إقليم مصر بالنقاقير، وهذا التجليد يعظمونه ويجعلون له موسمًا في السنة، ومدته سبعة أيام، وكيفية ذلك أن السُّلطان يأمر بنزع جلود الطبول كلها في يوم واحد فتنزع، ثمَّ يؤتى بأثوار خضر اللون فيذبحونها ويأخذون من جلودها ويجلِّدون بها تلك الطبول. لكن أهل دارفور يقولون في ذلك كلامًا لا يقبله عقل العاقل ممارس الكتب، ولكنهم مطبقون على ذلك، فإنهم يزعمون أن هذه الأثوار من نوع بقر معروف عندهم، وأنها حين الذبح تنام وحدها بدون أن يمسكها أحد، ولا يذكرون اسم الله عند ذبحها، ويقولون إن الجن هو الذي يمسكها وينيمها، ثمَّ يأخذون لحومها ويجعل في خوابٍ، ويترك ستة أيام مع الملح، وفي اليوم السابع يأتون ببقر كثيرة وأغنام وتذبح كلها ويطبخون لحومها، وفي حال الطبخ يأخذون اللحم الذي في الخوابي ويقطعونه قطعًا صغيرة، ويجعلون في كل قدر منه قطعًا تخلط باللحم الجديد، ثمَّ تفرق الموائد للملوك وأولاد الملوك والوزراء على حسب طبقاتهم، ويقف على كلّ مائدة منها حارس من طرف السُّلطان ينظر من يأكل ومن لم يأكل، فإذا أخبر السُّلطان بأنَّ فلانًا لم يأكل أمر بالقبض عليه في الحال؛ لأنَّهم يقولون: إنَّ من كان في قلبه خيانة للسلطان أو غدر لا يمكن أن يأكل من هذا اللحم. وإن تعلَّل أحد بأنه مريض أو لا يقدر على حضور أرسلت إليه أوانٍ منه مع حارس أمين ينظر هل يأكل أو لا؛ فإنَّ أبى يقبض عليه إلَّا إذا كان معذورًا بقوة مرضه. ا.ﻫ.
يدهن بعض عامة السُّودانيين رؤوسهم وآذانهم بالشحم والسيرج لتخفيف الحر. ويتطيَّبون بالروائح العطرية كالمسك والصندل والقرنفل.
الدلكة: عجين الذرة مخلوط بماء، ثمَّ يجمد فوق النار، ثمَّ يضعونه في قدر تحتها نار.
والعجين مؤلف من دقيق القرنفل والسحلب وخشب الصندل والظفر واللبان والمسك. ويدلكون به الأجسام. والدلكة مفيدة صحيًّا، ترطب الجسم وتخفِّف حرارته.
التدخين: نار في حفرة بها خشب طيب الرائحة، وتسد نوافذ الغرفة، وتجلس المرأة عارية على حافة الحفرة ورجلاها على عود فوق الحفرة، حتَّى تنطفئ النار، ويتحلَّب العرق، وتلبس شملة، وتدلكها جارية، وتفتح النوافذ تدريجيًّا.
التشليخ: تشليخ الوجوه بثلاثة خطوط للزينة — بين الحعليين والشايقية.
(٣-١) عادات الزواج
يتزوَّج السُّودانيون غالبًا بمجرد البلوغ أو بعد البلوغ بقليل. وكان المهر غاليًا. فجهد حاكمدارو السُّودان بعد فتح محمد علي وجاهد المهدي بتخفيضه. فجعله المهدي جنيهين للبكر وجنيهًا للثيِّب. ويُؤْثر السُّودانيون الزواج من ذوات الأنساب والأحساب على ذوات المال.
وللمرأة السُّودانية في الأسر المحترمة خدم. ولا تأكل مع زوجها أو بحضوره مطلقًا.
الترويج للزواج في السُّودان
رأى حضرة صاحب السِّيادة الحسيب النَّسيب السر السيد عبد الرحمن المهدي منذ أكثر من سنة أن أزمة الزواج قد استحكمت بدرجة مخيفة من مغالاة الآباء في مهور بناتهم ومن الأزمة المالية، حتَّى يكاد يقف الزواج وتقضي الأزمة على الفتيات بالبوار؛ فهدته بصيرته النَّيِّرة وحكمته العالية إلى أن يشرع لأهل السُّودان سُنَّة حسنة بتخفيض المهور إلى قسمين: الحد الشرعي الأدنى وهو ربع الدينار والحد الاختياري الأعلى وهو ثلاثة جنيهات، ونفَّذ ما سنَّه أولًا على أهله وعشيرته ومُريديه الكثيرين في ليلة ٢٧ رجب سنة ١٣٥٢، وهو الحفل الأول، ثمَّ أذاع نداءه في الشعب السُّوداني للاقتداء به والعمل بسُنَّته؛ فأجاب نداءه الكثيرون، وزوَّجوا بناتهم بالمهور القليلة، وتردَّد آخرون من الذين يتمسَّكون بالعادات القديمة الضَّارة.
ولمَّا دار الفلك، وأتى يوم ٢٧ رجب سنة ١٣٥٣ دعا سيادته كثيرين من الموظفين والأعيان إلى حضور حفل التزويج الثَّاني، وكنت ضمن المدعوين، وقد كان سروري عظيمًا حقًّا لحضور هذا الحفل، ومالي لا أفرح وقد جاهدت في سبيل هذه الأزمة وما زلت أجاهد وأنشر في هذه الجريدة كلَّ ما يمحو العادات العتيقة التي تئن منها!! وقصارى القول أنِّي قصدت إلى دار حضرة صاحب السِّيادة الحسيب النسيب السر السيد عبد الرحمن المهدي بحيى ود نوباوي بأم درمان في الميعاد المضروب، فوجدت سرادقًا عظيمًا منصوبًا في حظيرة داره الواسعة وقد امتلأت بالألوف من الناس، وبقي ألوف خارجه، ورجال السيد يقابلون المدعوين بالتَّرحيب، ويقدمون لهم المشروبات. وما كدتُ آخذ مجلسي حتَّى شرف السيد الزعيم الكبير يصحبه حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكرم محمد نعمان الجارم قاضي قضاة السُّودان وجناب مفتش أم درمان، وبعد أن جلسوا ألقى حضرة السيد محمد الخليفة شريف خطبة وبيانًا بإحصائية الزواج بالمهور القليلة في بحر السنة الماضية، وهي منشورة فيما يلي. ثمَّ عقبه آخر وأنشد قصيدة، وفي أثناء ذلك تولى سيادته عقد الزواج بنفسه وعقبه حضرة صاحب الفضيلة قاضي قضاة السُّودان في عقد زواج واحد، ثمَّ عاد سيادته إلى تولي العقد في حين أن حضرة صاحب السِّيادة السيد علي المهدي يتولى عقد زواج الآخرين في ناحية أخرى، وبعد بُرهة ترك السيد أخاه السيد علي المهدي يتولى عقد الزواج ودخل في داره من ناحيتها الغربية ومع سيادته حضرة صاحب الفضيلة قاضي قضاة السُّودان، وجناب مفتش أم درمان، وبعض كبار الموظفين والأعيان. وهناك مُدَّت إليهم المرطبات والشاي والكعك والبسكويت، وعند دخول المغرب غادره جناب مفتش أم درمان. وقام المدعوون يؤدون فريضة المغرب، وبعدما فرغوا منها عادوا إلى مكانهم الأول، وأخذوا يتحدثون في إكبار عمل السيد الاجتماعي المفيد للبلد، وقد غادرت دار السيد في نحو الساعة السابعة مساءً والسرور يطفح من قلبي ممَّا رأيت من هذا الإصلاح الاجتماعي الذي قام به السر السيد عبد الرحمن المهدي الزعيم الكبير بعد أن عجز عنه المصلحون في الشعوب الشرقية.
ونحن حين نصف هذا الحفل الكبير لا نريد أن نطري السيد فهو غني بعمله المجيد عن الإطراء. إنما الذي نريده هو ألَّا يقدِّر السُّودانيون عمله حقَّ قدره، وأن يعملوا به ويتخذوه دستورًا للزواج بين الأمير والحقير، والصغير والكبير في أنحاء السُّودان؛ صونًا للعروض وحرصًا على الفضيلة، ولينظروا إلى سيادته كيف زوَّج أهله بالمهور القليلة ليقتدوا به لا لقلة ماله، أثابه الله أجر سُنَّته الحسنة وأجر من عمل بها.
وقد علمت أن عقود الزواج بلغت ١٠٦ عقود في مساء الاثنين الماضي ٢٧ رجب سنة ١٣٥٣.
خطبة السيد محمد الخليفة شريف
باسمك اللهم افتح هذا الحفل الميمون، وبالنيابة عن إمامنا المفدى الزعيم الأوحد سيادة السير السيد عبد الرحمن المهدي أتقدم إلى حضراتكم بواجب الشكر على تشريفكم لهذا الحفل الذي أنتم واسطة عقده، وخصوصًا رجال حكومتنا العظام الذين دلَّ تشريفهم لهذا الاجتماع السَّنوي على اهتمامهم بشؤون الشعب الاجتماعية وتقديرهم لمصلحته التَّقديرَ الذي من شأنه أن يربط الحاكم بالمحكوم رباطًا وثيقًا.
٥١٨ | من جبل أولياء إلى الكوة نظارة الشيخ عبد القادر إدريس هباني |
١٠٤ | مديرية بربر |
٣٨٠ | مديرية الفونج |
١٦٤ | مديرية النِّيل الأزرق |
٣٦٠ | أم درمان |
١٢٠ | كوستي وضواحيها |
٦٠ | القضارف |
٣٦ | مديرية كسلا |
٤٦٠ | جزيرة أبا |
٧٥٠ | مديرية كردفان |
إنَّ نظرة عادية إلى مثل هذه الأرقام تدلُّك دلالة واضحة على نجاح المشروع وانصياع البلاد من أقصاها إلى أقصاها لتلبية نداء السيد والسير على تعاليمه الحكيمة؛ إجابة لأوامر الشرع الشريف، وحبًّا أكيدًا لإخلاصه في عمران بلادهم.
سادتي: قبل أن أترك موقفي هذا أريد أن أختم كلمتي بتكرير شكري الجزيل لسيادة السيد ولرجال حكومتنا العظام في تشجيعهم لهذا العمل الجليل، ولكل من لبَّوْا هذا النداء وعملوا على أساسه. ا.ﻫ.
عادات الزواج عند الشلك
تسكن قبائل الشلك منطقة السدود في أعالي النيل. ولا تتزوج الفتاة عندهم قبل بلوغ سن الخامسة عشرة سنة. وللرجل أن يشتري من النساء كما يشاء، فهذا الشراء دليل الغنى والثروة والحاجة. وعندما يريد الشاب الزواج من فتاة فإنَّه يشبكها بالماعز والحراب وغيرها. ثمَّ تحضر الفتاة أمام ناظر القبيلة وتعترف بكل مبدأ حبها. وهؤلاء المحبون يجلبون، ويدفع كلٌّ منهم غرامة من الماشية للعريس، وتُقدَّم ترضية للعريس.
عادات الأفراح
للسودانيين في أفراحهم عادات، منها أن تظل الزوجة في بيت أهلها معه ردحًا من الزمن، وأن لا تقترب معه، ولهذا يضطر بعض الأزواج إلى زواج غير واحدة، والزوجة تأتمر بأمر أمها مكثرة الدلال على زوجها هاربة منه من غرفة إلى غرفة، ومن مكان إلى مكان، حياءً وخجلًا.
(٣-٢) في المآتم
أمَّا عاداتهم في مآتمهم فكثيرة: منها أن المعزِّي إذا زار المعزَّى قابله الأخير برفع يده فيقرآن الفاتحة للميت داعيَيْن له.
ومنها أن تتوارى الزوجة التي مات زوجها عن الناس حتَّى تنقضي العدة. ومنها أن تقدم القهوة مضافًا إليها شيء من السكر. كما تقدم الأطعمة للمعزِّين، ومنها أن تطول مدة التعزية، فربما ظلت الخيام المنصوبة للتعزية شهرًا كاملًا، وعلى قصر المدة وطولها تُقاسُ درجة الميت رفعة وضِعة، ومن العادات الآخذة في الزوال، النَّقر على آلات نحاسية عند وفاة أحد نقرًا مزعجًا، والسُّودانيون مع هذا ذوو إيمان ورضى يرحبون بقضاء الله ويطمئنون إلى قضائه.
•••
وفي أثناء الأيام السبعة يقوم أهل الميت بنحر الذبائح وإطعام المعزين والفقراء.
(٣-٣) الخرافات والأوهام
ويعتقد جمهور في السُّودان — كما في مصر — بالسحر والعفاريت والجن والمندل والزار والودع والأحجبة.
ويقال: إن الزار نقل إلى السُّودان من مصر — فانتشر في سواكن وبربر والخرطوم.
لون السُّودانيين أسود أو يميل إلى السواد. ومساكن الفقراء في أكواخ مستديرة هرمية كالرؤوس جنوبًا ومربعة مسطحة السقوف شمالًا.
(٣-٤) المرأة السُّودانية
المرأة السُّودانية العربية — محترمة جدًّا عند الزوج تدخل في الغرفة عقب الزواج تمتد على العنجريب أربعين يومًا لا تتكلم مع زوجها بعد الدخول، وربما لعدة شهور تُخدم «بضم التاء» ولا تخدم، والغنية لا تنتقل من العنجريب ومن غرفتها حتَّى تلد الولد الأول.
ولها نفوذ ورأي — والطلاق نادر بين العائلات الكبيرة، والزواج ببنت العم مشهور — والمقصود من الزواج النسل.
وتتعلَّم المرأة في الخلوات، وهي توجد في كلِّ قرية، حيث يوجد شيخ الخلوة ويعطي لهن دروسًا في حفظ القرآن ومبادئ القراءة والكتابة. وفي أكثر مساجد السُّودان يخصص الجزء الخلفي من صحن الجامع للنساء المصليات. وهن يؤدين الفرائض خلف المصلين وبينهن وبينهم حاجز خشبي.
وفضيلة الشيخ بابكر بدري مفتش المعارف سابقًا هو أول من أرسل بناته في مدرسة البنات التابعة لمصلحة المعارف التي تعلم البنات مجانًا ليكُنَّ معلمات وتخرج معلمات لمدارس الخرطوم، وأم درمان، وواد مدني، والعطبرة.
تشتد رغبة أهل السُّودان اليوم لتعليم فتياتهن، وقد قرأنا في أحد أعداد جريدة حضارة السُّودان في شهر أغسطس سنة ١٩٣٥ شكوى من قلة مدارس البنات. وقد كان يتبع انتشار تعليم الصبيان، رغبة في تعليم البنات.
والفتاة السُّودانية على جانب كبير من الذكاء والاستعداد للأخذ بأسباب التَّعليم الراقي والمدنية لو أتيحت لها الفرصة. ولكن الفرصة غير متاحة لها. ولذلك رسفت في قيود معينة.
وكان من نتائج كثرة المتعلمين تعلمًا عصريًّا وأوروبيًّا أن ظهرت عند نفر قليل من الشبَّان نزعة إلى الحثِّ على سفور المرأة السُّودانية ومسايرة النهضة النسوية المصريَّة والشرقية، ولكن جرائد السُّودان، ومنها مجلة الفجر وجريدة حضارة السُّودان، قد سلقت الداعين إلى السفور ومحاكاة المرأة المصريَّة بألسنة حداد، وقد احتجوا بآداب الدين الإسلامي والفضائل والأخلاق، التي ترى في اختلاط المرأة بالرجل عواقب غير حميدة وفسادًا، وقى الله السُّودان من شره.
على أن حجاب المرأة السُّودانية يشبه حجاب المرأة المصريَّة في انحصاره في المدن وبين الأسر الكبيرة والعصبيات المعروفة. أمَّا الطبقة الصغيرة، فقد رأينا نساءها وفتياتها في الأسواق والحقول وورش تنظيف الصمغ. ومن السُّودانيين من ينكر أن هؤلاء من صميم أهل السُّودان، ويقول: إنهنَّ ينتمين إلى الفلاتة والهوسة وبرنو ومهاجري واداي والحبشة. ولكنَّني سألت بعض هؤلاء كما سألهن الدكتور محجوب وبعض زملائي في البعثة، فكان بعضهن يتكلم العربية الواضحة، وله مسحة تخالف مسحة القبائل المهاجرة، وكنَّ ينسبن أنفسهن إلى قبائل سودانية عربية.
وأعتقد أن هذا الموضوع في حاجة إلى بحث خاص، لا يتسع له هذا الكتاب.
المرأة الجميلة
المرأة الجميلة: في السُّودان هي من كانت ربعة القوام، طويلة الشعر وغزيرته، واسعة الجبين، زجاء الحاجبين، دعجاء العينين.
وقد تقدم أنه كانت تصاحب الأورط السُّودانية فرق من النساء، وكنَّ يقمن بتقديم الغذاء ويعاونَّ الرجال ويشجعنهم في الحرب ويفخرن ببطولتهم وينقمن على الجبناء منهم.
(٣-٥) ملجأ القرش
منذ أربع سنوات دعا السيد ميرغني حمزة إلى التبرع لملجأ القرش. وقد بلغت التبرعات حوالي ألفي جنيه، وقد وافقت الحكومة على تخصيص المباني المواجهة للمدرسة الأهليَّة من الجنوب التي كانت تشغلها الطوبجية المصريَّة سابقًا للملجأ بإيجار اسمي قدره: جنيه مصري لمدة خمس سنوات قابلة للتجديد. وقد قبل البكباشي محمد نور وكيل مفتش أم درمان سابقًا رياسة اللَّجنة التنفيذية.
وقررت اللَّجنة التنفيذية إنشاء ملجأ يحتوي على صناعات يتعلمها اليتامى والفقراء.
(٣-٦) جمعية منع المسكرات
تألفت لجنة مندوبة من أفاضل سُكَّان الخرطوم وأم درمان للبحث في المسكرات بقصد التقليل منها إذا استحال منعها — وقد أطلق محرر الفجر الغراء على هذه الجماعة اسم «جمعية منع المسكرات» — من قسمين قسم لا يؤمن بالخمر ولا بفائدتها، ويرى وجوب محاربتها، فأخذوا على عاتقهم الوعظ ضد الخمر والإرشاد لتركها، فهذا القسم يسمى بحق (قسم الوعظ والإرشاد)، وقد اتصل بنا أن صاحب الفضيلة مفتي السُّودان يحمل لواء هذا القسم من الجمعية، يعضِّده جماعة من خيرة علمائنا الأفاضل، وهم يسعون لتحقيق غرضهم بالدعاية المنحصرة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ورأى القسم الثَّاني من الجمعية أننا نُغالط الحقائق إذا دعونا لمنع الخمر؛ فهي موجودة يتعاطاها البعض رغم تحريمها دينيًّا وقانونيًّا، فمن العقل ومن الشجاعة أن نسلم بوجودها أولًا ثمَّ نسعى لمنعها أو التقليل من ضررها صحيًّا وماليًّا واجتماعيًّا، وطريقة هذا المنع أو التقليل عند هذا القسم تكون بطريق الوعظ والإرشاد وإلقاء المحاضرات التي تُبيِّن مضار السكر والإدمان في شرب الخمر.
تحرم الحكومة تعاطي المشروبات الروحية على الوطنيين مع استثناء طائفة المآمير والضباط، وقد صرحتْ — أيضًا — بتعاطيها في بعض نوادي الموظفين مثل نادي الدامر ومدني، كما سمحت بها لكل أجنبي يسكن السُّودان من مصري وسوري وإيطالي ويوناني وغيرهم. وقد صرَّحت بيع هذه الخمور للأجانب الذين يحصلون على رخصة نظير دفع ما بين ٢٥ جنيهًا و٧٥ جنيهًا في السنة حسب أهمية المركز الذي يُفتح فيه المحل.
يستورد السُّودان في كلِّ عام من المشروبات الروحية ما تقرب قيمته من الخمسين ألف جنيه؛ فإذا قدَّرنا أن بالسُّودان عشرة آلاف من الأجانب والوطنيين الذين يبيح لهم القانون شرب الخمر تجد أن متوسط ما يصرفه الواحد خمسة جنيهات في السنة، وهذه نسبة بسيطة إذا عرف القارئ أنها تساوي قيمة عشر زجاجات من الوسكي، ولكننا نعترف بأن جزءًا من الخمرة المستوردة يتسرب إلى أفواه أفراد لا يجوز لهم القانون شربها. ومهما تساهلنا في التَّقدير فلا يتجاوز قيمة هذا الجزء عشرة في المائة من مجموع قيمة الوارد، وحينئذ يكون عندنا ألف شخص من سُكَّان السُّودان يتعاطون المشروبات الروحية رغم التحريم. وهذا عدد — حتَّى إذا ضاعفناه — بسيط جدًّا لا يذكر إذا قارناه بعدد الذين يستطيعون شربها ويمتنعون لأسباب أهمها رقابة البوليس. فهذا فوز عظيم للبوليس أو رجال الإدارة بالسُّودان في تنفيذ قانون منع المسكرات، ولا نظن أن هناك بلدًا آخر يستطيع أن يفاخر بنتيجة كهذه حتَّى في منع تعاطي المخدرات.
إذا صحَّ ما قدمت من الإحصائيات أمكننا القول بأن عندنا في السُّودان ألف شخص يتعاطون المشروبات الروحية في الخفاء، والبوليس يهددهم من وقت لآخر، والرأي العام يمقتهم. فهم يشربونها خلسة في أماكن وبحالة لا يرضون أن تعرف عنهم. فهل هذا العدد يستوجب وجود جمعية لمنع المسكرات؟ أو يجوز التحدث عن المسكرات في السُّودان؟
إنَّ وجود هذه الجمعية يُثير ضجة حول المسكرات تكون لها بمثابة دعاية تستميل البعض وتشجع آخرين على المطالبة بإباحتها قانونيًّا، والنتيجة النهائية ستكون وخيمة جدًّا لا يرضاها حتَّى الذين يتحمَّسون للإباحة الآن؛ لأنَّ هناك فريقًا ممَّا له منفعة مادِّية في الموضوع. وخطر عظيم في ترويجها، وهو تاجر الخمور الذي سيظهر على المسرح متى صدر القانون بالإباحة، ويستعمل أساليبه المتعددة لترويج بضاعته وزيادة مبيعاته.
تمر الآن في طول البلاد وعرضها فلا تقع عينك على إعلانات مهمة تستلفت نظرك عن شرب الخمر إلَّا راية المريسة. أمَّا إذا أُبيحت المشروبات الروحية فسوف لا يغيب عن نظرك منظر جوني وكر بخطوته الواسعة ومنظاره العجيب، ذلك الرجل الذي يقال عنه إنه ولد في أول التُّركيَّة السَّابقة ولا يزال قويًّا بفضل كأس الوسكي وغيره من أقطاب بنت الحان. وللإعلانات تأثيرها في انتشار البضائع مهما كانت قوة العوامل المضادة. وحينذاك تدخل الخمرة المنازل فيشربها الرجل وعقيلته والعياذ بالله كما يحصل الآن في مصر وفي غيرها من البلاد الشرقية.
لا نشكُّ أن هناك بعض الطبقات السُّودانية التي سبق لبعض أفرادها أخذ الكأس الأولى، بالرَّغم من التحريم الديني والقانوني. فهم يرون أنفسهم أحقَّ من غيرهم في الحصول على امتياز الإباحة القانونية. فكل ما نقوله لأمثال هذه الطوائف أن تحاول إقناع أفرادها بترك الخمر، فإذا عجزت — وكان لا بد لها من أن تجاريهم — فلها أن تحاول الحصول على امتياز خاص أسوة بالمآمير والضباط مثلًا. أمَّا الإباحة العامة، فيجب أن لا يفكر فيها عاقل يهتم بمراعاة الدين أو الاحتفاظ بالمبادئ السُّودانية الاجتماعية؛ لأن الضَّرر الذي يعود على البلاد من الإباحة سيكون أبلغ من أي تقدير نتصوره الآن ونحن في عهد التحريم.
(٤) حفلات المولد النبوي
من المجمع عليه أن حفلات المولد النبوي في السُّودان يفوق الاهتمام بها في السُّودان اهتمام أهل مصر بها، وذلك لقوة العصبية الدينية والرابطة الإسلامية في السُّودان، ولأن العامل الديني يقوم بدور كبير في كثرة شؤون السُّودان وتاريخه وحفلاته.
وممَّا رواه الأديب الشيخ الوقور السيد محمود القباني عن حفلات المولد النبوي بين فتح محمد علي للسُّودان إلى ما قبل الثَّورة المَهديَّة عن السيد محمد شريف ابن الولي القطب الشيخ نور الدايم ابن القطب الأعظم الشيخ أحمد الطيب ناشر الطريقة السمانية في السُّودان ومصر قال: «شهدت بنفسي أنَّ السيد أحمد العقاد وزَّع في ليلة عيد على مائتي شخص من العلماء وأكابر طلبة العلم مائتي كسوة من شكل واحد، وقيمة واحدة قفطان وصديري من الشاهية «اسم للقطنية البلدي المصرية»، وثمنها في الخرطوم ثمانية جنيهات مصرية وجُبَّة من الجوخ أميريالة، وقميص طرابزوني، وسراويل دبلان، وحذاء أصفر «مركوب»، وجورب صوف، وعمامة بيضاء، وطربوش مغربي وطاقية دبلان، تلبس تحت الطربوش، وكنت أستمع له وكأنه اشتمَّ رائحة ارتياب بدت على وجوه السامعين، فأقسم يمينًا شرعية، وختمها بقوله: والله على ما أقول شهيد.
وإني لأقول بأني لم أسمع بمكرمة لقومنا سراة الخرطوم تتجاوز عُشر هذا القدر. وكان السيد أحمد العقاد مع غناه هذا متصفًا بأنه شيخ طريقة أحمدية بيومية تُقام الأذكار في داره العامرة، وينفرد في المولد بخيمة للوجاهة بجانب خيمة التُّجار، وأخرى للطريقة بجانب خيام الطريقة رحمة الله عليه.
وفرارًا من نقد الناقدين الذين يطلبون بيانًا لكل جملة، سيما إذا كانت بعيدة عن مدركاتهم، فقد لاح لي وأنا أكتب هذا أن بعضهم يجهل أن القطب الكامل الشيخ أحمد الطيب ناشر الطريقة السمانية بالسُّودان ومصر له تلاميذ أعلام في الديار المصريَّة، وله رحلات متعددة إلى القاهرة، واتصال وثيق بأمراء مصر من المماليك قبل تملك محمد علي باشا عليها. ولعل كثيرين في مصر والسُّودان لا يعلمون أن في بلدة (بلصفورة) بمديرية جرجا زاوية كبرى تُقام بين جدرانها أذكار وأوراد الطريقة السمانية، وفي إحدى زواياها ضريح الولي الصالح (الشيخ شيخون) تلميذ الشيخ أحمد الطيب وخليفته في مصر العليا.
والشيخ شيخون هذا هو الجد الأعلى للمرحوم السيد علي يوسف صاحب جريدة المؤيد المعروفة، وشيخ السجادة الوفائية رحمة الله عليهم جميعًا.
ومنذ الليلة الثالثة عشرة تغمرنا أفراح متجددة في الدور فيوم غدٍ عندنا وبعد غدٍ عند العم فلان. ولسنا فرحين بالموائد الفاخرة، بل فرحنا الأكبر أن نجلس أو نقف خلف قرَّاء المولد الكبير المسمَّى «مولد المناوي» المشتمل على أجل وأحسن القصائد النبوية، ولا تنتهي تلاوته في أقل من ست ساعات تكاد تطير أرواحنا منا فنصيح ونتواجد حينما نسمع:
وكبارنا يتمايلون وبعضهم يصيحون مثلنا، ونسمع من صفوف الجالسين والواقفين صيحات: «معاد»، وصلى الله على محمد حبيبي قرة عيني، الشفاعة يا رسول الله، والنساء الستور يصحن (أنا في حواك في جاهك يوم الناس حفايا وعرايا)، وهذا نصيب أمهاتنا وأخواتنا من ذكرى المولد الشريف في احتفالات المنازل؛ يسمعن سيرة سيد الأنبياء والمرسلين من وراء خدورهن، ويبكين من فرحهن، ويذكرن القيامة. ولله الحمد والمنة إذ صانهن عن التبذل ونزَّهَهنَّ عن غشيان ليالي المولد.
فإذا انتهت تلاوة مولد المناوي بعد ست ساعات أنشدت القصائد النبوية، وكلها في مدائح الذات المحمدية. وسمعتُ أن في منزل أحد الذوات لمَّا فرغوا من تلاوة القصة أنشد أحد القراء مترنمًا بقول عياض رحمه الله:
فتصايح السامعون: «معاد معاد»، وظلوا كذلك حتَّى صاح ديك الفجر ثلاثًا، وسمعوا أذان الصبح فأدوا الصلاة وانصرفوا. وقد شهدت ليلة ترنم فيها القارئ:
والقوم يصيحون: «معاد معاد»، صلى الله على محمد، أنا في جاهك، يا رسول الله الشفاعة إلخ. وقد غلبني النوم بين يدي ذوي فسمعت في الصباح أنهم ظلوا على «معاد» حتَّى أدوا فريضة الصبح.
ومن أشبه الأشياء بموالد الدور التي كانت في الخرطوم ما كان مواظبًا على المحافظة على رسمه المغفور له الوجيه الشيخ الحاج المرضي الخضر عمدة العاصمة «الخرطوم»، وعين أعيان سكانها الأقدمين الذي كان يُحتفل في داره بعد الحفل الرَّسمي بالمولد احتفالًا فاخرًا كأحسن ما كان يجري في دور أعيان الخرطوم القديمة ووجهائه، يدعو إليه أكابر وأعيان المدن الثلاث والضواحي، وتمد موائد حاوية لكل الأطعمة والألوان من أفخر أنواعها العديدة كما كان في الخرطوم، مع العلم بأنه — رحمة الله عليه — ينفق عليها أربعة أضعاف ما كان يبذله أولئك المحتفلون في أزمنة رخاء الأقوات في الخرطوم القديمة، والاحتفال بالمولد الشريف يعقبه حفلان هما الإسراء في رجب ونصف شعبان، فهذه الثلاثة كان المرحوم المرضي الخضر يحافظ عليها ويفرح بها ويبذل فيها، ولا ريب أنه كان محافظًا على قديمه وما وجد عليه قوميته في الخرطوم القديمة. وفي أم درمان يحتفظ حضرة مولانا صاحب الفضيلة السيد إسماعيل الأزهري المفتي السَّابق بهذه الاحتفالات الثلاثة في هذا الزمان وفي الأزمنة المخيفة أيضًا.
ولست أنسى احتفالات أعيان ضواحي الخرطوم وما كنا نتمتع فيها بالرحلات القصيرة مع ذوينا، وما ذلك كله إلَّا محبة وإجلالًا وتعظيمًا لمن تفضل الله علينا بجعلنا من أمته صلى الله عليه وآله وسلم.
فإذا قيل إنَّ الاحتفال بالمولد بدعة استحسنها البعض وخالفهم آخرون، فقد حُكي أنَّ واحدًا من أهل العلم والصلاح كان مترددًا أو متشكِّكًا بين الاستحسان والإساءة، فرأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المنام — ورؤيا المنام حق، كما جاء في الحديث الشريف — فقال: يا رسول الله، ما ترى فيما نأتيه في مولدك من هذه المناظر والأعمال؟ فقال: (من فرح بنا فرحنا به)، وعلى هذا إذا كانت الأغراض هي الفرح والذكرى وبذل البر شكرًا لله على حد قوله تعالى: اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا، فالله تبارك وتعالى لا يضيع أجر من أحسن عملًا، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله صلاةً تُدني بعيدنا من الحضرات الربَّانية، وتذهب بقريبنا إلى ما لا نهاية له من المقامات الإحسانية.
ليس في الخرطوم أنظمة الاكتتابات للمولد: فالتجار يقيمون احتفالهم في صيوانهم، ولهم عوائد أو نذور تقدم إلى صواوين الشيوخ لم أسمع بالنقد فيها، وأظن أنها موجودة قطعيًّا ولكنَّها سرية، فما كنَّا نسمع أو نرى غير صناديق الشمع والسكر والبن وبهار القرفة والزنجبيل والأرز والسمن والخراف والعجول، عدا الأطعمة الموفورة في الليالي كلها.
وممَّا تُوضِّح يَفهم القارئ أنَّ الاحتفال بالمولد الشريف يأخذ شكل العيد؛ ولهذا كنَّا نرى أجواق الطرب والأغاني والعزف بالدفوف والرق والمزمار يدخلون ساحة المولد وقوفًا أمام الصواوين عازفين مغنين، ويمنحهم أصحابها أعطية لا بأس بها. فإذا جاءوا أمام صواوين الذكر حولوا أغانيهم إلى مدائح نبوية أو صوفية ونادوا: مدد يا جيلاني، مدد يا بدوي، مدد يا ميرغني، مدد يا ود سحونة، وأخذوا يهتفون بذكر الأولياء فيتقدم نحوهم أصحاب الصيوان بالشربات والقهوة وهم وقوف، ثمَّ يصلونهم بالفواتح بدل النقود.
تتسامح الحكومة إلى موظفيها إكرامًا للمولد فيخرجون من مكاتبهم قبل المواعيد المقررة بنحو ساعتين، وفي اليوم الأخير بأربع ساعات، وفي صباح اليوم البطالة الرَّسمية، وهكذا شأن المدرسة؛ فقد كنا نترك المدرسة بعد أن نتناول طعام الغداء بساعتين إلى ساحة المولد للتمتع بمنظر «لعبة الجريد» التي يشترك فيها عدد غفير من فرسان الأجناد الأتراك والمغاربة والشايقية، وقلَّما تخلف الحكمدار والقناصل عن التمتع بشهودها الممثل للحروب القديمة قبل اختراع النيران؛ فهذا ينهزم بعد أن يصيبه السهم في النحر، وذاك يلتوي إلى باطن الفرس فيمر السهم في الهواء، فإذا غربت الشمس عُدنا إلى دورنا ريثما نبدل ملابسنا، فنعود إلى الصواوين لنتعشَّى مع ذوينا ونقضي السهرة.
ليس في موالدنا من الملاهي غير جوقات الطرب التي بينتها، ولا نعرف شيئًا من كشكوش ولا شختك بختك، ولا لبس تكسب، ولا بندقية. وغاية ما عندنا أن موالينا يدخلون بالتوزة أمام الصواوين ويصلهم أسيادها كالجوقات المطربة.
تختم الليلة الأخيرة بمظاهر من العظمة يعجز اليراع عن وصف لمحة منها، فضلًا عن كلها، وجلُّ النفقات من خزانة الحكومة ومقررات المولد كانت تقدَّر بنحو ألف جنيه في العام، ومنها الحفلات التي تقدم ذكرها في الذكريات السالفة كليالي القدر والمعراج ونصف شعبان، وقد احتفظوا أيضًا بالاحتفال بقراءة القصة الشريفة كما يجري في مسجد الحسين عليه وعلى آله صلوات الله وسلامه، وإنما اختلف الوضع ففي القاهرة يحتفل صباح ١٢ ربيع أول بتلاوة القصة الشريفة باللغة التُّركيَّة، وهنا تُقرأ في سلاملك الحكمدارية باللغة العربية، وسمعت أن في أوقات سلفت كانت تقرأ باللغة التُّركيَّة تبعًا لوجود شخص يجيد هذه اللغة.
هذا وفي مولد هذا العام صدرت فتوى من فضيلة شيخ العلماء ونداءات منه ومن العلماء وفي الصحافة بتحريم البدع ومنع النساء الوافدات المستهترات من غشيان ساحات الموالد. وقد نُفِّذ ذلك كله.