الرأي المصري في اتِّفاق سنة ١٨٩٩
- (١)
لأنَّ الحكومة المصريَّة أُكرهت على إخلاء السُّودان، ولأنَّ الخديوي بمقتضى الفرمانات الشاهانية لا يملك حق النزول عن أرض مصرية أو تابعة لمصر.
- (٢)
إنَّ الفرمانات التُّركيَّة تُحرِّم على الخديوي إبرام اتفاقات سياسية. وقد اعترفت إنكلترا بهذه الفرمانات.
- (٣)
لم يقترن الاتِّفاق بملكية السُّلطان العثماني للسُّودان، وهو ملك له كما أنَّ مصر كانت تابعة للسِّيادة التُّركية.
(١) تصريحات رجال السِّياسة الإنكليز عن اتِّفاقيَّة ١٨٩٩
-
(١)
عبَّر اللُّورد غرانفيل في التَّعليمات التي أصدرها في ١٨ يناير سنة ١٨٨٤ إلى غوردون عن رأيه بالكيفية الآتية: «ينبغي فحص أحسن الوسائل التي يلزم اتخاذها لإخلاء داخلية السُّودان وتوطيد دعائم الأمن وإدارة المصالح والمواني القائمة على السواحل. وذلك تحت سيادة الحكومة المصريَّة وإفادتنا بما ترونه.»
-
(٢)
والبند الثَّاني من الاتِّفاقيَّة الإنكليزيَّة الإيطالية المعقودة في سنة ١٨٩١ نصُّه كالآتي: «للحكومة الإيطالية الحق في احتلال (كسلا) وما جاورها من البلاد لغاية العطبرة، وذلك فيما لو اضطرها مركزها الحربي لهذا الاحتلال. ومن المتَّفق عليه بين الدولتين المتعاقدتين أنَّ كلّ احتلال حربي وقتي للأرض الإضافية المبيَّنة في هذا البند لا ينسخ حقوق الحكومة المصريَّة في الأرض المذكورة. وهذه الحقوق تظلُّ فقط موقوفة إلى أن يصير في استطاعة الحكومة المصريَّة احتلال المركز البادي ذكره.»
-
(٣)
وقال اللُّورد سالسبوري لسفير فرنسا في ١٢ أكتوبر سنة ١٨٩٦: «إنِّي متمسِّك على وجه العموم بهذا الرأي — ذلك أنَّ وادي النِّيل كان — وما زال، ولن يزال — ملكًا لمصر، وأنَّ كلّ مانعٍ أو انتقاص ألمَّ بحقوق هذه الملكية من جراء فتح واحتلال المهدي قد زال وتلاشى بحكم انتصار الجيش الإنكليزي المصري.»
إذا كانت مصر تستردُّ السُّودان الذي كانت تحتلُّه في المدة السالفة، فمن الواجب علينا أن نعترف بحقها في امتلاكه.
واعترف اللُّورد كرومر في تقريره في سنة ١٩٠١ بمشروعية الملاحظات التي أبداها مجلس الشورى عند الاقتراح على الميزانية الخاصَّة بالسودان. فقد قرر فيها المجلس أنَّ: «السودان جزء متمِّمٌ لمصر.»
(٢) تصريحات الجانب المصري
وفي سنة ١٨٨٤ أرسل الخديوي توفيق باشا نداءً إلى أهالي السُّودان يقول فيه: إنَّه لاهتمامه بشؤونهم فوَّض إليهم أمر اختيار حكومتهم. «وهذا بلا جدال عمل من أعمال السِّيادة.»
«وحيث أصبح من الضروري تنظيم طرق الإدارة وسنُّ لوايح وقوانين للمديريات التي استردَّت … إلخ». وهذا المفهوم من منطوقها أيدته الفقرة التَّالية منه وهي: «وحيث إنَّه لأسباب كثيرة يمكن حكم وادي حلفا وسواكن مع المديريات التي استردَّت بطريقة أنجح؛ نظرًا لمجاورتهما لأراضي السُّودان … إلخ».
ومن سنة ١٨٨٤ لغاية سنة ١٨٩٦ لم تكفَّ مصر عن أن تُدرج في ميزانيتها حسابًا خصوصيًّا للسُّودان. ومذكور بإحصائيات الحكومة المبالغ السنوية التي دفعتها طول هذه المدة وقيمتها.
(٣) رأي سمو الأمير عمر طوسون
- الأوَّل: اتِّفاقيَّة سنة ١٨٩٩م.
- الثَّاني: اعتراف تركيا بتلك الاتِّفاقيَّة.
- أولًا: لأنَّها مبنيَّة على الفتح؛ وهذا أساس غير صحيح؛ لأنَّ الفتح لم يحصل
إلَّا باسم مصر فقط. والدليل على ذلك أنَّ مارشان عندما احتلَّ فاشودة
توجَّه كتشنر إليها واحتلَّ نقطة أمام النقطة المحتلَّة من الفرنسيين،
ولم يرفع إلَّا العلم المصري فقط أمام العلم الفرنسي. وفي هذه الحالة
كان لكتشنر صفتان: إحداهما أنَّه قائد مصري وثانيتهما أنَّه قائد
إنكليزي؛ لأنَّ الحامية الإنكليزيَّة التي في السُّودان كانت تحت
قيادته، وجزء من تلك الحامية كان من فاشودة. وقد أدَّى التَّعظيم
الواجب عندما رفع العلم المصري وحده أمام العلم الفرنسي. وحيث إنَّ هذه
الحادثة كانت خاتمة الأعمال الحربية في تلك البلاد، وتعتبر تتويجًا
لها، فرفع العلم المصري وحده وتأدية الجنود الإنكليزيَّة له التَّحية
العسكرية هو اعتراف صريح من إنكلترا أمام دولة أجنبية بأنَّ الفتح لم
يحصل إلَّا باسم مصر فقط، وإلَّا فلو كان بالاشتراك لرفع العلم
الإنكليزي بجانب العلم المصري.
وأمَّا مساعدة الحامية الإنكليزيَّة في فتح السُّودان فلا يُعتبر إلَّا من باب مساعدة الوصي لمحجوره في ردِّ جزء من أملاكه فُقد، بسوء تصرفاته. إذ لو اتَّبع رأي عبد القادر باشا ولم يرسل الجيش المصري في داخل كردفان كما رأى هكس باشا لما هلك الجيش ولما ضاع السُّودان.
- ثانيًا: لأنَّها تشبه العقد الذي يعقد بين الوصي ومحجوره ويجرُّ منفعة لهذا الوصي.
- أولًا: أنَّ إعلان الحماية على مصر أزال السِّيادة التُّركيَّة عنها ابتداءً من ديسمبر سنة ١٩١٤م، وتُعتبر غير موجودة في وقت عمل التَّنازل.
- ثانيًا: أنَّ الحكومة التُّركيَّة اعترفت باستقلال مصر استقلالًا تامًّا، وجعلت لها حرية تقرير مصيرها السِّياسي. وهذا القرار صُدِّق عليه من مجلس المبعوثين قبل إمضاء معاهدة سيفر.
- ثالثًا: أنَّ معاهدة سيفر التي اعترفت فيها تركيا بحماية الإنكليز لمصر إنَّما وقعها ممثلو الحكومة التُّركيَّة مرغَمين، وفضلًا عن هذا فإنَّ الشعب العثماني معارض فيها أشد المعارضة، وهي مع هذا لم تَحُز تصديق مجلس المبعوثين، ولم تعترف بها بعض الدول إلى الآن. «وقد حلَّت محلها معاهدة لوزان مع عصمت باشا سنة ١٩٢٢.»
وحيث إنَّ السِّيادة لا وجود لها فإنَّ الاعتراف من تركيا لا قيمة له بالمرة؛ لأنَّها بذلك تُقرُّ حقًّا لغيرها في بلد لا تملكه، ولم نفهم معنى السكوت عن المسألة السُّودانية بمجرد إظهار إنكلترا لهذا الاعتراف من الحكومة التُّركية، لأنَّ تركيا اعترفت أيضًا بالحماية الإنكليزيَّة على مصر، وهذا لم يمنع المعارضة لها والمفاوضة في المسألة المصرية.
(٤) مذكرة عن مركز الإنكليز في السُّودان
وأرسل سموُّه إلى جريدة التيمس الرسالة التَّالية ولم تنشرها، فنُشرت في جرائد مصر في ٢ سبتمبر سنة ١٩٢٧.
لمَّا رأينا صحف إنكلترا تتعمَّد تشويه الحقائق فيما تكتبه عن السُّودان وعن مركز الإنكليز في ذلك القطر من وادي النِّيل، كتبنا إلى جريدة التيمس رسالة نبسط فيها للرأي العام البريطاني حقائق المسألة السُّودانية كما يسجلها التَّاريخ الصحيح ويعرفها ذوو الاطِّلاع.
ولقد تلقَّينا من رئيس تحرير تلك الجريدة كتابًا يقول فيه: إنَّه سيحتفظ بمقالنا بقصد الرجوع إليه عند الكتابة في مسألة السُّودان. وهذا بالطبع معناه عدم الرغبة في نشر ذلك المقال.
وحيث إنَّ أحوال السُّودان لا تزال تشغل الأفكار في هذا القطر، فقد رأينا أن نرسل ترجمة المقال المذكور إلى الصحف المصريَّة، وهذا معربه بعد الديباجة.
(٤-١) المقال
لمناسبة الأحوال السياسية الحاضرة في وادي النِّيل وما تبديه صحف لندن من مختلف الآراء بشأن السُّودان أودُّ أن أُلفت الرأي العام البريطاني بواسطة جريدتكم — إذا أذنتم — إلى الوقائع الآتية:
لمَّا وقعت حادثة مارشان الشهيرة في السُّودان، كان الإنكليز يقولون: إنَّ السُّودان لمصر ومن مصر. ثمَّ ادَّعوا أنهم شركاء فيه بإرادة مصر. فلمَّا أعلنت مصر بطلان هذه الشركة قالوا: إنَّهم ساعدوا على استرجاعه ولولاهم لما تمَّ هذا الاسترجاع.
- (١)
أنَّ مصر فتحت السُّودان وحدها سنة ١٨٢٠م، وبقيت سلطتها فيه قائمة لم يعترها ضعفٌ ولا وهنٌ إلى سنة ١٨٨١م والسُّودان يومئذ آهل بسكَّانه زاخر برؤسائه وملوكه. فمن قدر على فتحه في هذه الحال وعلى حفظ نفوذه وسلطانه عليه اثنتين وستين سنة. فلا شك أنَّه يكون قادرًا على استرجاعه بدون مساعد.
- (٢)
أنَّ الثَّورة العرابية ابتدأت في مصر في ٦ فبراير سنة ١٨٨١م، وابتدأت الثَّورة المَهديَّة في السُّودان في ١٢ أغسطس سنة ١٨٨١م أيضًا، كأنَّما الثورتان كانتا على ميعاد. فلما اختلَّ الأصل — وهو مصر — اختل الفرع وهو السُّودان. ومن سوء الحظ أنَّ حكمدار السُّودان وقتئذ كان رؤوف باشا، وهو رجل خلو من الكفاءة والتدبير، إذ لو كان على شيء منهما لقضي على ثورة المهدي في السُّودان في إبانها. فقد أبلغه رئيس كبير موثوق به وهو السيد محمد الشريف أكبر مشايخ الطرق في السُّودان أمر هذا المدَّعي وحذَّره عاقبة الإهمال، فلم يأبه لقوله ولم يستيقظ من سُباته حتَّى أرسل إليه هذا المفتون كتابًا يدعوه فيه إلى الدخول في شيعته والإيمان به. وبدلًا من أن يُرسل إليه عقب ذلك من يقبض عليه في الحال أرسل ينصح له فردَّه خائبًا. ثمَّ بعد لَأْيٍ وتردُّدٍ، أرسل إليه تجريدة صغيرة أوقع بها المهدي وهزمها شر هزيمة، فكان هذا أول وهنٍ أصاب هيبة الحكومة في السُّودان، فقد انتشر خبر هذه الواقعة في جميع أنحائه وتناقل الرواة حديثها بغلوٍّ كبير، وعدَّتها العامَّة من المعجزات التي تدلُّ على صدق محمد أحمد في دعوى المهدية. ثمَّ جرد عليه تجريدات أخرى كان نصيبها نصيب الأولى. فانحطَّت كرامة الحكومة في عيون أهل السُّودان وصدَّقوا دعوى المهدي.
ولمَّا بلغت هذه الأخبار السيئة الحكومة عيَّنت عبد القادر حلمي باشا بدلًا من رؤوف باشا؛ وحسنًا فعلت فإنَّ هذا الحكمدار الجديد أظهر همَّةً عالية وكفاءة نادرة في قمع الثَّورة بعدما استطار شررها واستفحل أمرها، وكان قد طلب من الحكومة عشرة آلاف جندي. ولمَّا لم تُجبه إلى طلبه لارتباكها بالثورة العرابية جنَّد من أهالي السُّودان جيشًا صغيرًا، درَّبه بنفسه وضمَّ إليه ست أورط كانت في السُّودان الشَّرقي، وحمل بهذا الجيش الصغير على الثوار فأبادهم وشتَّت شملهم ورفع الحصار عن حامية سنار. فهدأت الحال وخمدت جذور الثَّورة، ولم يبق في يد المهدي سوى مديرية واحدة هي مديرية كردفان ولا من أتباعه العصاة في النَّواحي سوى نفر قليل في الجزيرة بقيادة زعيم لهم يُدعى أحمد الكاشف.
فأنت ترى أنَّ عبد القادر حلمي باشا بجيشه الصغير استرجع السُّودان أو كاد، ولو أرسل إليه الجيش الذي أرسل إلى هكس؛ لتمَّ على يديه استرجاع السُّودان بدون عناء. ولكن عندما وصلت هذه الأخبار السَّارة إلى مصر، وكان ذلك في أوائل سنة ١٨٨٣م وقد احتلتها الإنكليز وأصبح في يدهم تصريف أمورها صدرت الأوامر بعزل عبد القادر باشا لهذا السبب المقلوب في الوقت الذي قال في حقه المهدي في إحدى خطبه: «ليس بين رجال الحكومة التي أناوئها رجل كعبد القادر كثير الدهاء والحيل مع الشجاعة؛ ممَّا يجعلني أضرع إلى الله أن يكفيني وأصحابي شره. وإنَّني أحتِّم على كلّ المؤمنين الذين دخلوا في دعوتي أن يجتنبوا القيام في الجزيرة بأي مشاغبة تضطرهم إلى الوقوف في ساحات الحرب مع عبد القادر باشا. وأوصيهم بكتمان دعوتي وعدم الظهور بها في الجزيرة ما دام عبد القادر باشا متوليًا على السُّودان، وليواظب كلّ أصحابي على رفع أصواتهم بعد كلّ صلاة بهذه الدعوة: «اللهم يا قوي يا قادر، اكفنا شرَّ عبد القادر.»
وقد كتب عبد القادر باشا بعد عودته من الخرطوم تقريرًا وافيًا للحكومة بما يجب عليها عمله. وملخَّصه عدم تسيير حملة إلى المهدي في كردفان والاكتفاء بإقامة الحصون على حدودها وحصر المهدي فيها حتَّى تنضُب منها موارد اليسار القليلة التي لا يمكن أن تقوم بنفقات الملتفِّين حوله، فلا يمضي زمن حتَّى يشعروا بالضيق فيطلبوا الخلاص من جور المهدية. ولا سبيل لهم إلى نيل هذا الغرض إلَّا بمظاهرة الحكومة وموالاتها فيسهل عليها حينئذ قهر المهدي بقوة يسيرة.
هذا كان رأي عبد القادر باشا، ولكن حكومة ذلك الوقت التي عزلته بسبب ما أظهره من الكفاءة وأحرز من الانتصار، ليس من المعقول أن تعمل برأيه؛ فضربت بتقريره عرض الحائط، وعيَّنت بدلًا منه علاء الدين باشا. فتولى علاء الدين باشا منصب حكمدار السُّودان. ولكن حُصرت سلطته في الإدارة الملكية وجعل سليمان نيازي باشا قائدًا عامًّا وهكس باشا رئيسًا لأركان حربه، وأرسل إلى السُّودان بقيادته جيش وصل إلى الخرطوم في مارس سنة ١٨٨٣م، وهو مؤلف ممَّا يأتي:
آلاي رقم ١ مشاة تحت قيادة الميرالاي سليم عوني بك عدده ٢٤٠٠ آلاي رقم ٢ مشاة تحت قيادة الميرالاي السيد عبد القادر عدده ٢٥٠٠ آلاي رقم ٣ مشاة تحت قيادة الميرالاي إبرهيم حيدر بك عدده ٢٦٠٠ آلاي رقم ٤ مشاة تحت قيادة الميرالاي رجب صديق بك عدده ٣٠٠٠ الفرسان والمدفعية تحت قيادة الميرالاي عباس وهبي بك عدده ٢٤٠٠ ١٢٩٠٠ وفي إبريل سنة ١٨٨٣م خرج نيازي باشا وأركان حربه هكس باشا ومعهما ٥٦٠٠ جندي للإيقاع بمن بقي من العصاة مع أحمد الكاشف بالجزيرة، وكان عددهم قد تكاثف بعد عبد القادر باشا فلاقوهم في المرابيع وكسروهم شر كسرة، وقتلوا زعماءهم فانمحى بهذه الواقعة أثر الثَّورة من الجزيرة كما انمحى من عموم السُّودان، ولم يبق للمهدي شوكة خارج كردفان.
وقد ألحَّ عبد القادر باشا ثانيًا على الحكومة وهو في مصر عقب هذه الواقعة بترك المهدي وشأنه في كردفان إلى أن يظهر للناس كذبه أو تضيق به البلاد فيضمحلَّ من نفسه، فقوبل إلحاحه بالإعراض أيضًا، وأذن لهكس باشا بالزحف على المهدي في كردفان. فردَّ بأنَّه لا يتحمَّل مسئولية الحملة حتَّى تكون له القيادة العامَّة عليها، ولما تباطأت الحكومة المصريَّة في إجابته إلى طلبه هددها بالاستعفاء فأذعنت وجعلته القائد العام على الحملة ونقلت نيازي باشا محافظًا على السُّودان الشَّرقي فخلا لهكس باشا الجو، وتوغَّل بهذا الجيش الكبير في صحاري كردفان حتَّى ضلوا الطريق ووقعوا في مخالب المهدي؛ فأفناهم ذبحًا وقتلًا في ساعات معدودة.
وبهذا الانتصار الكبير رجع للمهدي شأنه الأول فانتفضت أطراف السُّودان وعاد شعلة نار. وعلى أثر ذلك قررت الحكومة الإنكليزيَّة إخلاءه، ولمَّا لم تصادق وزارة شريف باشا على هذا الإخلاء حملتها على الاستعفاء، وجاءت وزارة نوبار باشا فصادقت عليه، وعيِّن غوردون باشا لإخلائه وإخراج الجيوش المصريَّة منه، وكان فيه نحو الثلاثين ألفًا، وحوصر غوردون باشا في الخرطوم إلى أن قتل وكان ما كان ممَّا هو معروف ومشهور. فمن هو المسئول عن هذه النتائج السيئة؟ ومن ذا الذي أضاع السُّودان؟ أمصر التي أضاعته، أم السِّياسة الإنكليزيَّة التي كانت مشرفة على مصر في هذا الحين؟
- (٣)
ثمَّ ترك السُّودان، تفتك بأهله الفوضى والجهل والظلم والأوباء والحروب، فحصدتهم هذه الأوباء حصدًا واصطلحت عليهم، وتركت البقية الباقية من أهله في جوع وعري.
وهذه العاقبة هي التي توقَّعها عبد القادر باشا حلمي لأهل كردفان لو بقي المهدي محصورًا فيه. وعند ذلك جاءت أوامر إنكلترا بتجهيز حملة لاسترجاع السُّودان، وصدر القرار الوزاري بذلك في ١٣ مارس سنة ١٨٩٦م. فاسترجع السُّودان بثلاث واقعات كبرى وبجيش يبلغ نيفًا وعشرين ألفًا تقريبًا ولم يقتل منه إلَّا القليل. وكانت الخسارة في الواقعة الفاصلة — وهي واقعة أم درمان — من القتلى ثلاثة ضباط إنكليز واثنين من المصريين وأربعة وعشرين عسكريًّا إنكليزيا وسبعة وعشرين عسكريًّا مصريًّا، ولم تبلغ النَّفقات التي صرفت في هذا الفتح مليونًا من الجنيهات، فهل كان ذلك يعجز مصر عن أن تقوم به وحدها؟
هذا هو مقال سمو الأمير.
(٥) كلمة لسموِّه عن مديرية خط الاستواء
نشرتها جريدة «الأهرام» في عدد يوم الاثنين ٢٩ مايو سنة ١٩٣٣:
مديرية خط الاستواء هي أهمُّ مديريات السُّودان المصري وألزمها وأنفعها لمصر؛ لأنَّ مخرج النِّيل من بحيرة ألبرت نيانزا المراد عمل السد فيه لجعل تلك البحيرة خزانًا هو جزء من هذه المديرية التي ظلت في حكم مصر حتَّى آخر عهد أمين باشا الذي هو آخر مدير لتلك المديرية السُّودانية المصريَّة إلى نهاية الحكم المصري الفعلي للسُّودان.
وقد شمل الحكم المصري أيضًا ثُلثي شواطئ هذه البحيرة وأقام فيه المعاقل العسكرية التي بقيت حتَّى شاهدها ستانلي في سياحته المشهورة عندما توجه إلى هذه الجهة لتخليص أمين باشا ظاهرًا، ولمحو الآثار الباقية لمصر بتلك المنطقة في الحقيقة. ثمَّ توجه الكابتن لوجارد إلى هناك، واستخدم الجنود المصريَّة المتروكة فيها باسم الشركة البريطانية الأفريقية الشرقية، واستولى على أوغندة وعلى القسم الجنوبي من مديرية خط الاستواء، وبسطت الحكومة البريطانية حمايتها على هذه البلاد، ثمَّ عقدت بعد ذلك مع مصر معاهدة سنة ١٨٩٩م.
ولو احترمت هذه المعاهدة — كما لا تزال تدَّعي ذلك — لكان أول واجب عليها إرجاع هذه البلاد إلى السُّودان المصري وجعلها تحت إدارة حكومته، حيث إنَّ هذه المعاهدة تشمل عموم الأراضي التي يتكوَّن منها السُّودان المصري القديم، كما كان عليه قبل الثَّورة المهدية. ولكنَّها لم تفعل هذا الواجب ولم تُراعِهِ في تطبيق هذه المعاهدة لأنَّها كانت منذ زمن بعيد تطمح إلى امتلاك مديرية خط الاستواء المصريَّة الواقعة في أرجائها ينابيع النَّهر العظيم الذي يفيض على مصر الحياة.
وهذا لا يجعلنا نعتبر عملها الذي استندت فيه إلى القوة عملًا شرعيًّا؛ لأنَّ إنكلترا التي أخرجت مارشان من فاشودة بحجَّة أنَّها جزء من السُّودان ماكان ينبغي لها بعد ذلك أن تسلخ جزءًا منه لنفسها. وهذه الحجة لا تزال قائمة عليها إلى الآن.
وكان قد تمَّ بامتلاكنا هذه المديرية وضع يدنا على وادي النِّيل برمَّته من منابعه في منطقة بحيرات خط الاستواء إلى مصابِّه في البحر الأبيض المتوسط. فاغتصابها هذه المديرية بعد ذلك لا يفسَّر إلَّا برغبتها الشديدة في القبض على عنق مصر، لكي تصيِّرها مطيعة لأوامرها خاضعة لإرادتها باستمرار.
وتاريخ مطامع إنكلترا هذه يرجع إلى ما قبل احتلالها لمصر بزمن بعيد. ويؤيد ذلك المعلومات التي تلقَّاها الخديوي إسماعيل باشا والتعليمات التي أمدَّ بها الكولونيل شايي لونج الذي كان قد تعيَّن رئيس أركان حرب للجنرال غوردون في ٢٠ فبراير سنة ١٨٧٤م عند تعيين هذا الجنرال مديرًا عامًّا لمديرية خط الاستواء في السنة عينها. وإلى القارئ ما رواه هذا الضابط في كتابه «حياتي في أربع قارَّات «ج١ ص٦٧٠» قال:
«لدى دخولي كان الخديوي إسماعيل يمشي بخطوات واسعة في قاعة الاستقبال وهو متوتِّر الأعصاب، وكان برفقتي تونينو بك التشريفاتي الثَّاني الذي أدخلني عنده فوجَّه إليَّ السؤال الآتي:
أرأيت الجنرال غوردون؟
فأجبت: نعم يا مولاي، ولقد قضيت معه أكثر الليل.
فأجاب الخديوي: حسنًا جدًّا. والآن أعرني أذنك — لقد وقع الاختيار عليك لتكون رئيس أركان حرب لعدَّة أسباب أهمها المحافظة على المصالح المصرية. فهناك في لندرة يوشك أن تنظم حملة بقيادة رجل يقال له استانلي أمريكي الجنسية على ما يزعمون. والغرض من هذه الحملة — حسب الظاهر — نجدة الدكتور ليفنجستون.
أمَّا الغرض الحقيقي منها فهو رفع العلم البريطاني على ربوع أوغندة. فتوجَّه أنت إلى غندكورو، وأسرع في الذهاب إلى أوغندة، ولا تضيِّع أوقاتك، واسبق حملة لندرة، وأبرم معاهدة مع ملك أوغندة، فتُمسي مصر مدينة لك سرمديًّا بواجب الشكران معترفة بالجميل. اذهب وليكلَّل مسعاك بالنجاح إن شاء الله.»
وعلى ذلك قد تمَّ إلحاق جميع البلاد الواقعة حول بحيرة فيكتوريا وبحيرة ألبرت بمصر، وفتحت البحيرتان وروافدهما ونهر السومرست للملاحة، وصارت ممهدة للاستكشافات التي يقوم بها غوردون باشا.
وإنَّ في ذلك لأوضح دلالة على ما لمصر من حقوق في تلك الأقطار، وأقوى برهان على طموح أنظار الإنكليز إلى تملُّكها.
وفي عام ١٨٧٦ قال غوردون باشا: إنَّه لمَّا كان مديرًا عامًّا لمديريات خط الاستواء — «راجع كتاب الكولونيل غوردون باشا في أفريقية الوسطى ص١٧٧» — أرسل نور أغا محمد — وهو الذي ترقَّى فيما بعد إلى رتبة أميرالاي وكان قائدًا لجيوش المديرية — ومعه ١٦٠ جنديًّا؛ ليبتني محطة عسكرية في «أورندجاني» من أعمال أوغندة. ولكنَّه إجابة لطلب أمتيزا ذهب وابتناها في عاصمته «روباجا» «كامبالا» الآن، وزاد غوردون باشا على ذلك فقال: إنَّه ما دامت هذه هي رغبة الملك فسيترك اﻟ ١٦٠ جنديًّا تعسكر في عاصمته. وفي استطاعته إذا حدَّثتْ الملك نفسه بإحداث قلاقل أن يأخذه أسيرًا. وكانت كتابة غوردون باشا لهذه الأسطر في ٢ أغسطس سنة ١٨٧٦م.
وكان غوردون باشا قد نوى أن يسافر إلى «روباجا» قاعدة مملكة أمتيزا، ولكنَّه عدل عن هذا الرأي وقال «ص١٨١» بتاريخ ١٨ أغسطس إنَّه غيَّر هذه الفكرة، وأزمع على أن يرسل ٩٠جنديًّا إلى نور أغا لتعزيز اﻟ ١٦٠ جنديًّا السَّابق إرسالهم إلى «روباجا»، وأنَّه بضمِّ هاتين القوتين إلى بعضهما يصير في هذه الجهة قوة كافية.
وهذا يظهر بكيفية لا يتطرق إليها الشك أنَّ غوردون باشا كان يؤيِّد احتلال جنود مصر لعاصمة أوغندة تأييدًا تامًّا، ويقرِّر أنَّ ذلك الاحتلال أسمى في حكم الأمر الواقع.
وكان غوردون باشا قد بادر بإحاطة الخديوي إسماعيل بأنَّه احتلَّ «أورندجاني» و«روباجا» عاصمة أوغندة.
ورد تلغراف إلى المعيَّة السَّنيَّة من سعادتلو غوردون باشا في ٢ أغسطس سنة ١٨٧٦ يتضمَّن أنَّ «الملك أمتيسا» «ملك أوغندة» طلب منِّي عساكر لأجل إقامتها في بندر حكومته، فأرسلت إليه مائة وخمسين عسكريًّا، ورتَّبت ثلاثين عسكريًّا في بلدة «أورندكاني» ومثلها في بلدة «بكبتيسه»، فكانت تلك الجهات والحالة هذه في حيزة الحكومة المصريَّة، وقد وصلنا إلى «مكانكو» في ٢٧ جمادى الثَّانية سنة ١٢٩٣ «٢٠ يولية سنة ١٨٧٦» بعد سفر سبعة أيام من «دوفلي»، والبحر هناك جيد صالح لسير السفن فيه بسهولة. وشطوطه معمورة بكثرة الناس فيه، وأراضيه صالحة للزراعة. وبعد ثلاثة أيام نتوجه إلى بلاد «مرولي» و«أرندكاني» و«أمتيسا». ويمكننا الوصول إلى سائر تلك الجهات بغاية الراحة التامة والسهولة. ا.ﻫ.
وبلدة «مكانكو» الآنفة واقعة في فم بحيرة ألبرت نيانزا ومحل الخزَّان المزمع عمله في المستقبل.
وبعد هذا الفتح لم يبقَ غوردون باشا الحاميات المصريَّة بتلك الجهات، بل أمر في أواخر نفس هذا العام «١٨٧٦م»، أي عند تركه خدمة الحكومة المصريَّة نظرًا لانتهاء أجل عقد خدمته بسحب كافة الحاميات المصريَّة المقيمة في «أونيورو» و«أوغندة». وعلى ذلك أخليت المحطات الآتية:
فويرة وكيرتو وماسندي ومرولي وفاكوفيا وأرندجاني وروباجا.
وكان في خلال هذه المدة قد تلقَّى الخديوي إسماعيل رسالة غوردون باشا المنبئة باحتلال قاعدة أوغندة، فبادر بالإنعام عليه بالوسام المجيدي الأول. ولم يصل خبر هذا الإنعام إلى غوردون باشا إلَّا عند إزماعه الرحيل، وبعد أن صدر أمره بإخلاء تلك المحطات، وقال «ص١٩٦»: إنَّه ارتبك في أمره وصار لا يدري كيف يفعل. وهذا أمر يفهم بالبداهة.
وعندما تعيَّن أمين باشا مديرًا لمديرية خط الاستواء أعاد احتلال قسم من هذه المحطات، ولكن لمَّا تعيَّن غوردون باشا حكمدارًا عامًّا للسُّودان أمر بإخلائها ثانية، وفعلًا نفذ الأمر، ولمَّا زايل مركزه وتعين بدلًا منه رؤوف باشا حكمدارًا عامًّا للسُّودان رجع أمين باشا مرة أخرى واحتلها ولم يتركها إلَّا لمَّا شبَّت نار الثَّورة المَهديَّة، وذلك عندما أراد أن يلمَّ شعثه ويحصر قوته المسلحة في محطات معينة.
ومن العجب أنَّ غوردون باشا بعد أن احتلَّ قاعدة أوغندة وكل هذه المحطات الأخرى يرجع فيُخليها بعد بُرهة قصيرة جدًّا، لا سيَّما أنَّ هذا الاحتلال تمَّ بمحض موافقته وموافقة ملك هذه البلاد. ولم يكن هناك أيُّ داعٍ حربي يضطره إلى الإقدام على الإخلاء؛ لأنَّ قوته العسكرية كانت باعترافه هو نفسه قد زادت عند نهاية خدمته.
ويقول في مؤلفه السَّابق «ص١٩٦» إنَّه اضطرَّ أن يسحب جنوده من بلد أمتيزا بدون أن يذكر السبب في ذلك.
ومن رأيي أنَّ السبب يرجع حتمًا إلى أنَّ إنكلترا كانت تُعارض في اتِّساع أملاك مصر في الجنوب مع أنَّه لم يكن لها في ذلك الوقت بتلك النواحي أية مصلحة، ولكنَّها كانت تنظر إلى المستقبل البعيد. وهذا ما يستخلص من شهادة رجل لا يمكن أن يعزى إليه الجنوح إلى أية محاباة لمصر.
وممَّا يُؤسف له أنَّه لم يوضع حدٌّ لتعسف كباريقا ملك أونيورو واستبداده على أنَّه قد كان في حيز الاستطاعة الحيلولة دون هذه التَّعسفات وهذا الاستبداد قبل ذلك بزمن إذا لم تكن قد بدت معارضات شديدة في إنكلترا من جانب أولئك الذين يرون بعين الحسد والغيرة توسع مصر في ممتلكاتها جنوبًا. ا.ﻫ.
وأرى أنَّ في هذا القول إيضاحًا وتبيانًا لكلِّ ما التبس علينا في هذا الأمر؛ ذلك أنَّه لا بدَّ أن يكون قد ورد إلى غوردون باشا بعد احتلاله تلك المناطق أمر بالتحذير من عواقب ما أقدم على عمله فبادر إلى إخلاء المحطات التي كان قد احتلها.
أمَّا فيما يتعلَّق بإدارتنا للسُّودان فأية سيئة لم يعزوها لها، وأي نقدٍ لم يوجهوه إليها، وأيَّ لسان لم يسلقوها به؟! إنِّي أربأُ بنفسي عن أن أقول إنِّها كانت قد بلغت ذروة الكمال؛ لكنَّها لم تكن بالتحقيق رديئة أيضًا إلى الدرجة التي صورتها بها بعض الدوائر التي لها مصلحة في أن تُظهرها بهذا المظهر.
وممَّا لا مراء فيه أنَّه لم تقع في أرض ممتلكاتنا أعمال قسوة — إن لم أقلْ أعمال وحشية — كالتي حدثت في أراضٍ أفريقية الخاضعة لنفوذ بعض الدول الأوربية.
ولا ينبغي أن يغيب عن أنظارنا أيضًا أنَّ أغلبية الموظفين الذين كانوا يُرسلون إلى السُّودان هم من المغضوب عليهم ومن الذين وقعت عليهم عقوبات يستوفونها هناك.
وإذا أضفنا إلى ذلك الشقات الشاسعة التي يتحتَّم قطعها، ووسائل النَّقل التي كانت في ذلك العهد والتي من شأنها أن تجعل من الصعوبة بمكان إيجاد مراقبة جديَّة على تلك الأرجاء القاصية البعيدة، كان لنا بحق أن ندهش لعدم حدوث مساوئ أكثر ممَّا حدث. على أنَّ هذه الحالة ما زالت تتحسن على مرور الأيام، فصارت تَقِلُّ المفاسد تدريجيًّا حتَّى تلاشت في النهاية أو كادت.
ولكي أبرهن من جهة أخرى على أن إدارتنا لم تبلغ هذه المنزلة من الانحطاط، وأنَّها كانت بالأحرى أفيد للأقطار التي احتللناها فليس أمامي أكثر من أن أذكر شهادة شخصين لا يمكن أن يُعزى إليهما التَّحيز أو المحاباة بأي وجه من الوجوه، وهما: الدكتور جونكر الروسي الذي أمضى سنين عديدة في أواسط أفريقية، والمحترم فلكن الذي أقام سنين طويلة في أوغندة، وإلى القارئ ما رواه لنا الأول والثاني:
ويرجع الفضل إلى المسلمين الذين تُعزى إليهم المطاعن والمثالب في إلزام الزنوج بضرورة المعيشة في هدوء وسلام مع القبائل المجاورة لهم وبالإقامة على قدر الإمكان في دورهم وبزراعة حقولهم. وهذا العمل ينبغي أن نقدِّره حقَّ قدره بدون أن نبخسه شيئًا. وممَّا يشرِّف الحكومة المصريَّة وضع بلاد الزنوج تحت سيطرتها. وهذا الأمر مكَّنها من أن تفتح فيها بابًا لانتشار المدنية في مستقبل الأيام، ومهما بلغ من ثقل النير الأجنبي فهو في الواقع ونفس الأمر أفضل للزنوج من حكم نفس المستبدين منهم، إذ إنَّ حكم هؤلاء مصدر حروب لا نهاية لها يُضيِّع في خلالها بعضهم البعض. ا.ﻫ.
ويمكنني أن أقول — وأنا مطمئن الخاطر هادئ البال — عن تلك الأقطار الواقعة تحت الأحكام المصريَّة حيث يتولى السلطة أمين باشا — المدير الحالي لمديريات خط الاستواء — أنَّ الأهالي يعيشون فيها في حال أرقى من التي كانوا يعيشون فيها تحت رعاية ملوكهم الهمج المستبدين. ا.ﻫ.
وإن شهادة هذين الشاهدين كافية لدحض التُّهم التي وجهوها إلى إدارتنا.
وبعد فقد كانت النتيجة لاحتلالنا تلك الأقطار أنَّ مهَّدنا الطريق وأعددناها — كما قال الدكتور جونكر — لانتشار المدنيَّة في الزمن القادم، كأنَّما قد ألقيت على عاتقنا مهمَّة تمهيد طريق المدنية في ربوع أولئك القبائل المتبربرة غلاظ الأكباد وكسر صلابتهم.
فعرَّضنا أجسامنا لسهامهم المسمَّمة، ووقعنا في مكامنهم المخيفة، واحتملنا وقاسينا الأخطار والآلام التي يلاقيها ممهدو سبل المدنية الأول لأجل أن يأتي غيرنا ويحتل محلنا ظلمًا وبكيفيةٍ غير مشروعة.
كانت الأهالي في عهد الحكومة المصريَّة القديمة — كما يستنتج من التدابير الوقتية التي اتُّخذت في ذلك العهد — أكثر عددًا وأحسن نظامًا وترتيبًا وأشد جنوحًا للعداوة عن العهد الحاضر. أمَّا الآن فمسألة الدفاع عن نقطة من النقط ضد السُّكان المقيمين تحت إدارتنا لا تقتضي تعبًا ولا نصبًا، حتَّى إنه يصعب أن يتصور الإنسان حالة كهذه. ا.ﻫ.
فالأمر الوحيد الذي يمتاز علينا به خصمنا الآن ينحصر في قوته وضعفنا، وهذا الموقف يخولِّه أن يُملي علينا إرادته ويعدُّها بمثابة شريعة يجب العمل بمقتضاها. غير أنَّ هذا لا ينبغي أن يحول دون ثبات المصريين وتمسكهم بحقوقهم، ولا يجعلهم يفرِّطون في شيء منها حتَّى ولو اغتصبت منهم اغتصابًا؛ لأنَّه لو سلك أحد منهم مسلكًا مناقضًا لذلك وفرَّط في تلك الحقوق يكون قد لوَّث سمعته وارتكب خيانة وطنه، واستحق السُّخط واللعنة من الأجيال الآتية.
وليس المطالب بذلك ولاة الأمور ومن بيدهم الحل والعقد فقط؛ بل الأمة جمعاء. نعم إنَّنا لم نجد في الأمة إلى الآن مفرطًا في حقوق مصر في السُّودان. ولكنَّنا وجدنا مع الأسف الشديد أن المفرِّطين هم أولئك الذين يتولَّون مناصب الحكم، ويظنون أنَّ بقاءهم بها متوقف على إرضاء الإنكليز، والسكوت عن حقوق مصر، والإغضاء عمَّا يُعمل في السُّودان وغير السُّودان، فيجرون البلاء على الأمة ويضيعون هذه الحقوق المقدسة العظيمة في مقابل منفعتهم الشَّخصيَّة وتمتعهم بالحكم أيامًا معدودة، وهذا خسران ليس بعده خسران، وبيع بالوكس طالما رجعنا منه بصفقة المغبون.
ليس من تحياتٍ أشهى إليَّ من التَّحيات التي رفعتموها إليَّ من شعبي في السُّودان … إلخ. إلخ.
وقد نشرت البرقيتين جريدة حضارة السُّودان بتاريخ ٤ فبراير سنة ١٩٣٣، ومرَّت بين سمع الحكومة المصريَّة وبصرها دون أن تحرِّك ساكنًا أو تهتم بالأمر، مع أنَّ هذا التَّصريح الخطير لم يحدث في سنة من السنين الماضية ولا في مناسبة من المناسبات الأخرى. وهي نغمة جديدة نخشى أن تجرَّ وراءها أخطارًا عظيمة.
وقد تنبَّهت إلى ذلك سيدة مصرية فوجدت الأمر جدَّ خطير، ولفتت إليه أنظار بعض النواب ليسألوا الحكومة رسميًّا عن رأيها في هذا التَّصريح الجديد، وانتظرت فلم تجد شيئًا من هذا، ومرَّت الأيام تتلوها الأيام دون أن يحتجَّ أحدٌ على ما جاء في هذه البرقية. وهكذا يسجل الإهمال علينا ما تستعصي معالجته، ويزداد به موقفنا في السُّودان غموضًا، ويلقي على حقوقنا فيه حُجُبًا كثيفة ما دمنا سائرين في هذا الإهمال.
فإذا تركنا هذه الأشياء تمرُّ دون أن نُظهر أيَّ معارضة لها أفهمنا الإنكليز بسكوتنا عنها أنَّنا راضون بها فيستغلون هذا الصمت على مرِّ الأيام ليطبقوا علينا ماهو أشد وأنكى. هذا هو مقال سموِّه.
(٦) معرب مقال آخر لسمو الأمير عمر طوسون
أرسله سموه إلى رئيس تحرير جريدة التيمس في ٣ يوليو سنة ١٩٣٠ ردًّا على ما كتبه «سير رنيل رد»، واعتذرت هذه الجريدة عن نشره فيها، وها هو بعد الديباجة:
استرعت نظري منذ أيام ترجمة نشرتها الجرائد المحلية لردِّ سير رنيل رد على رسالتي المنشورة في عدد التيمس بتاريخ ١٢ يونيو، ولقد رغبت في الردِّ عليه، ولكنِّي آثرت الاطِّلاع على الأصل الإنكليزي أولًا. وهذا ما توافر لي الآن:
إنِّني أشكر لسير رنيل رد كلماته الرقيقة الموجَّهة إلى شخصي، وأردُّ على بيانه بما يأتي:
إنِّي أعلم تمام العلم أنَّ سياسة اللُّورد جرانفيل جاءت بعد حملة هيكس باشا، ولكن هذا لا يعني أنَّها لم توجد في ذهن الحكومة الإنكليزيَّة في الوقت الذي احتلَّ فيه الجيش البريطاني مصر. فما دامت الحكومة المصريَّة قد أظهرت لين العريكة والطاعة للنصائح — أو بمعنى أدق — لأوامر الحكومة البريطانية غير الرَّسمية، فلم تكن هناك ضرورة لجعل هذه السِّياسة رسمية وعلنية؛ لأنَّ مسلكًا كهذا لا يكون لزامًا إلَّا في حالة المعارضة كالحالة التي أدَّت إلى استقالة شريف باشا عندما رفض الموافقة على ترك السُّودان.
حقيقة إنَّ الكولونيل ستيوارت كان يرى — كما يقول سير رنيل رد — عدم الزحف على كردفان، وكان هذا هو رأي عبد القادر باشا أيضًا. ومن المحزن أنَّ هذا الرأي لم يؤخذ به ولم يُتَّبع؛ إذ لو اتُّبع لما فقدت مصر السُّودان على الإطلاق.
وحقيقة — من الوجهة الرَّسمية — أيضًا إنَّ الحكومة البريطانية أعلنت أنَّه لم يكن لها شأن بالأعمال الحربية في السُّودان ولا بتعيين هيكس باشا. ولكن المظهر الرَّسمي للأشياء مضلِّل، ولا سيما في مصر لسوء الحظ. فمثلًا كان اللَّقب الرَّسمي للورد كرومر «معتمد حكومة صاحب الجلالة البريطانية وقنصلها العام في مصر». ولكن كان لقبه غير الرَّسمي. «الحاكم المطلق لمصر» ومن كلمته قانون.
ولقد قرأت في الصحف في فرص مختلفة أسئلة تلقى في مجلس العموم على وزير الخارجية خاصة بمصر كان الجواب عليها «هذه مسألة تخص الحكومة المصرية»، فأي شخص يخدعه هذا الجواب الرَّسمي في حين أنه يعلم علم اليقين أنَّ البلاد كانت — بصفة غير رسمية — تحت الحكم المطلق لقنصل إنكلترا.
فلماذا لا يكون هذا شاملًا لتصريح الحكومة البريطانية الخاص بالسُّودان وتعيين هيكس باشا. فهو إنكار رسمي لوجود يد لها فيهما بينما هو عمل للعكس بصفة غير رسمية.
ولو كانت الحكومة الإنكليزيَّة لا تريد شيئًا من السُّودان فلماذا أرسلت الكولونيل ستيوارت في بعثة خاصة إلى تلك البلاد ليقدم تقريرًا عن سير الأمور فيها. لم تكن هناك حاجة إلى مثل هذه البعثة لو أنَّ التَّصريح كان صادقًا.
أمَّا فيما يختص بتعيين هيكس باشا فإنَّ ما وقع هو كما يأتي:
بدأت الثَّورة المَهديَّة قبل احتلال القوات البريطانية مصر، وكان عبد القادر باشا معينًا حاكمًا عامًّا للسُّودان قبل هذا الاحتلال، وبوجود القوات المحلية تحت أمره استطاع أن يُهدِّئ البلاد تقريبًا، ولم يكن في أيدي المهدي من البلاد إلَّا كردفان. فلو أنَّه أُمدَّ بخمسة عشر ألف رجل من جيش هيكس باشا زيادة على القوات المحلية لأمكنه دون أدنى ريب أن ينتهي بحملته على الثَّورة على أتمِّ نجاح.
بعد ذلك جاء الاحتلال الإنكليزي لمصر، وعلى أثره اضطرَّت مصر إلى استدعاء قائدها المنتصر الذي هو أحد أبنائها، والذي كان على وشك إنقاذها من إحدى الأزمات البليغة التي حاقت بها بدون حاجة إلى معونة أي عنصر أجنبي.
وحلَّ محل القائد المصري قائد آخر إنكليزي وأركان حرب من الضبَّاط الإنكليز. فهل يمكن جديًّا قبول هذه الحقائق على أنَّها حدثت من غير تدخُّل الحكومة الإنكليزية.
وبفرض أنَّه كان من الضَّروري وجود قائد إنكليزي ومعه أركان حرب من الضبَّاط الإنكليز على رأس الجيش السُّوداني، فلماذا لم يفعل هذا قبل الاحتلال الإنكليزي لمصر.
الصحيفة العاشرة في الملف رقم ١٩٧ — برقية من الجنرال هيكس إلى
السير: أ. ماليت
الخرطوم في ٢٣ يوليو سنة ١٨٨٣
أرسلت اليوم إلى ديوان الجهادية استقالتي من مركزي في الجيش السُّوداني. ولقد فعلت ذلك وأنا متأسف، ولكنِّي لا أستطيع القيام بأعباء حملة أخرى تحت هذه الظروف التي تشبه الظروف السابقة. سليمان باشا يقول لي إنَّه لا يفهم من برقية رئيس المجلس المؤرَّخة في ١٤ يوليو أنَّه مُلزَم بتنفيذ آرائي فيما يختص بنظام أو كيفية زحف أو هجوم الجيش الذي يستعد للتقدُّم نحو كردفان ما لم يوافق هو عليها. وهو يقول إنَّه لو نفَّذ آرائي من غير أن يوافق عليها فسيكون بذلك قد عمل في الواقع عكس التَّعليمات «التي صدرت إليه». ولمَّا كانت أفكاري وأفكاره قد تضاربت في الحملة الأخيرة، وستكون أكثر من ذلك في حملة كردفان فلست بمستطيع تجاه ذلك إلَّا أن أستقيل. وفي الأيام الأخيرة في مناسبتين هامتين أُهمِلت وجهات نظري.
أرجو أن يعرض الجنرال بيكر على سمو الخديوي أمر استقالتي، وأن يؤكِّد له أسفي لهذه الضرورة، وأبرقوا إليَّ بالردِّ.
الصحيفة الحادية عشرة في الملف رقم ١٩٧ من السير ماليت إلى الجنرال
هيكس — برقية
القاهرة في ٢٣ يوليو سنة ١٨٨٣
سيستدعى سليمان باشا عند انتخاب حاكم جديد. نرجو عدم ذكر هذا إلى أن يتمَّ رسميًّا، وآمل أن تكون هذه التَّرضية سببًا في جعل واجبك أكثر سهولة عليك وأشد وضوحًا. وسيكون علاء الدين قائدًا اسميًّا.
الصحيفة الثَّانية عشرة في الملف رقم ٢٩٧ من السير أ. ماليت إلى
الجنرال هيكس — برقية
القاهرة في ٢٧ مايو سنة ١٨٨٣
تسلَّمنا اليوم برقيتك المؤرَّخة ٢٣ الجاري، ولكنِّي أرى عدم التعجُّل في استقالتك بما أنَّ سليمان باشا سيُستدعى كما ذكرت لك في برقيتي المؤرَّخة ٢٣ الجاري.
فممَّا سبق يتَّضح كلّ الاتضاح أنَّ البرقية الثَّانية أرسلت قبل تسلُّم الأولى.
ويقول مؤلف هذا الكتاب الذي هو بعيدٌ كلّ البُعد عن التَّرفق بالحكومة المصريَّة: وعلى ذلك فإنَّه يتَّضح تمامًا ممَّا سبق أنَّ سير أ. ب. ماليت قد ألقى التَّبعة على كاهل الحكومة المصريَّة، وهذا كما يظهر يدلّ على أنَّ حكومة صاحبة الجلالة في هذا الوقت كانت مؤيدة للحملة المشئومة، وإلَّا لأشار بقبول استقالة الجنرال هيكس. ويبدو هذا المسلك مورِّطًا لحكومة جلالة الملكة في سياسة متناقضة. فهم ينكرون على طول الخط أي مسئولية عن الأعمال في السُّودان، ومع ذلك يشجعون بطريق غير مباشر حملة لإخضاعه، وأظنُّ أنَّ في هذا الكفاية لتوكيد بياني.
وفي الختام أردُّ على ملاحظة سير رينل رد وهي: «إذا كان في الإمكان توجيه أي لوم إلى الحكومة الإنكليزيَّة في ذلك الوقت، فهو من أجل أنَّها أصرَّت قبل الأوان على الانسحاب من السُّودان، فأقول: إنَّه لو تُركت الحكومة المصريَّة وحدها في ذلك الوقت لمعالجة هذا الموقف؛ لما فقد السُّودان قط، ولما كانت هناك حاجة إلى إعادة فتحه.
وإنِّي لآمل أن تجدوا متَّسعًا لنشر هذه الرسالة في جريدتكم الغراء، واقبلوا شكري سلفًا.
(٧) إنقاذ السُّودان — في كتاب القاضي بيير كرابيتس
ويقول المؤلف: إنَّ كتشنر الذي كان أبرز شخصية في استرداد السُّودان بعد كرومر، إنَّما اتَّصل اتفاقًا بالقائمين من الإنكليز على شؤون مصر. فقد كان ضابطًا في القسم الهندسي في الجيش البريطاني وعهد إليه في الإشراف على مسح جزيرة قبرص، فلما نشبت ثورة عرابي، طلب إجازة مرضية وأتى إلى مصر، وكانت إجازته المرضية لا تتعدى أسبوعًا، ولكن يظهر أن الضابط المهندس عجز — اتفاقًا — عن اللحاق بالسفينة التي كان عليه أن يعود بها إلى قبرص. ويظهر أنَّه في خلال إقامته بالإسكندرية اتصل بأحد ضباط «الاستخبارات العسكرية» فلمَّا تأخر عن عودته إلى قبرص أبرق أميرال الأسطول البريطاني إلى حاكم قبرص يطلب تمديد إجازة كتشنر فرفض هذا طلب الأميرال مصرًّا على وجوب احترام النظام. فكتشنر عاد إلى قبرص، ثمَّ جاء إلى الحاكم طلب من الجنرال ولزلي من مصر يطلب فيه أن يسمح له بكتشنر وكذلك كان. ومن محاسن الصدف أن كتشنر كان مهندسًا. فإنَّ الحملة التي جُرِّدت لاسترداد السُّودان كانت تحتاج إلى عمل مهندس ينظم لها جميع وسائل التَّقدُّم ويكفل لها أسباب الشرب والغذاء والوقاية من الأمراض.
وقال في فصل عنوانه «تمويل الحملة»: لمَّا تقرَّر إيفاد الحملة لاسترداد السُّودان نشأت مسألة المال الذي ينتظر إنفاقه في هذا السبيل. فلندن ذهبت إلى أنَّ استرداد السُّودان مسألة مصرية بحتة، وأنَّه من العدل أن تنهض الخزانة المصريَّة بالنَّفقات المطلوبة، وأنَّ ذلك في وسعها. ولكن يظهر أن لندن لم تلتفت حينئذٍ إلى أن مفتاح الخزانة المصرية، كان في أيدي لجنة دولية هي لجنة صندوق الدَّين. هنا نشأ صراع بين لورد كرومر وطائفة من أعضاء صندوق الدين على مسألة استعمال جانب من مال الحكومة المصريَّة في تمويل حملة السُّودان؛ ذلك أنَّه بعدما قرَّ القرار على «حملة دنقلة» طلب من صندوق الدين أن يمنح ٥٠٠ ألف جنيه من الاحتياطي العام لهذا الغرض فأقرَّ الصندوق ذلك باتفاق أربعة أصوات على صوتين، وكان المعارضان مندوبيْ فرنسا وروسيا، فأقاما قضية في محكمة مصر المختلطة.
ثم ذكر المؤلف تفصيل الاتِّفاق على حكم السُّودان حكمًا ثنائيًّا باسم سمو خديوي مصر، ثمَّ بعد مصرع السردار سنة ١٩٢٤ والسعي لوضع اتِّفاق خاص بمياه النِّيل ومواد ذلك الاتِّفاق من ناحيتيها النَّظرية والعملية، ورأي الخبراء فيها باسطًا وجهة نظر مصر في مسألة السُّودان بسطًا شافيًا، وكذلك وجهة النَّظر البريطانية: وفي آخر الكتاب ثلاثة فصول في السُّودان وزراعة القطن فيها، قال: إنَّ هذه الزراعة غير ناجحة، وإنَّ العامل الفاصل في مستقبل السُّودان، من ناحية بريطانيا، هو مستقبل مشروع الجزيرة. فهل يستأهل هذا المشروع كلّ هذا العناء؟ هل هو جدير بتأخير الاتِّفاق مع مصر على حسابه؟ يقول القاضي كرابيتس أخيرًا في كتابه كلمة وردت في رسالة غوردون إلى أخته أنَّ «السودان لن يكون من الوجهة العملية البريطانية عملًا رابحًا».
(٨) السودان: بقلم صاحب الدولة حسين باشا رشدي١٢
(٨-١) السُّودان حياة مصر
إنَّما السُّودان لهو الحياةُ بذاتها لمصر؛ لأنَّه منبع النيل. ومصر هي التي فتحت السُّودان في الأصل ولم تضنَّ في هذا السبيل بأية تضحية بالرجال أو بالمال. وهذا الفتح بدأ على عهد محمد علي، وتمَّ على عهد إسماعيل الذي ضمَّ مناطق البحيرات الكبرى حتَّى منابع النِّيل وبحر الغزال وخط الاستواء، ثمَّ سواحل البحر الأحمر حتَّى رأس غردفوي. وجعل الأوغندا تحت حماية مصر. ونال من الباب العالي إدارة سواكن وزيلع وملحقاتها، واتخذ لنفسه لقب خديوي مصر وصاحب نوبيا ودارفور وكردوفان وسنار. واعترفت الفرمانات السلطانية التُّركيَّة لمصر بامتلاك هذه الأقاليم السُّودانية، واعترفت الدول بهذه الفرمانات ذاتها.
وفي سنة ١٨٨٥، جلت الحكومة المصرية، تحت ضغط الحكومة الإنكليزية، عن أكثر هذه الأقاليم السُّودانية. ولكنَّها خرجت منها على نية العودة إليها ومع العزم الأكيد على احتلالها ثانية عند سنوح أول فرصة ملائمة. وهذا العزم واضح كلّ الوضوح من المستندات الرَّسمية المصريَّة، فوزارة شريف باشا فضَّلت الاستعفاء على قبول ترك السُّودان ولو تركًا موقوتًا.
لا يستطيع أيُّ إنسان أن ينازع في أن النِّيل هو حياة مصر. وهذه حقيقة واضحة كلّ الوضوح لا تحتاج إلى مناقشة. وحيث إنَّ النِّيل هو السُّودان فلا جدال في أنَّ العلاقات والروابط التي تربط مصر بالسُّودان لا يمكن أن تقبل أي انفصال. وما مثلها في هذا التَّماسك إلَّا كمثل العلاقة التي تربط الروح بالجسد، وإذا تمكنت دولة من الاستيلاء على منابع النِّيل فإنَّ هذا الاستيلاء يكون بمثابة حكم الإعدام على مصر.
إنَّ حكومة الخديوي — كما تعرف سيادتكم — لم يغب عن نظرها في حين من الأحيان العودة إلى استئناف احتلال الإقليم السُّودانية التي هي مصدر الحياة ذاتها لمصر. ومصر لم تنسحب من تلك الأقاليم إلَّا عقيب ظروف قوة قاهرة، وإن استعادة الخرطوم تفقد الغاية منها إذا لم يعد إلى مصر وادي النِّيل الذي ضحَّت مصر في سبيله الضحايا العظيمة.
هذا وفي نظر أوربا ذاتها لم تفتأ تلك الأقاليم السُّودانية — التي تركت تركًا موقوتًا — معتبرة مصرية.
- (١) في ١٢ أكتوبر ١٨٩٨ صرَّح اللُّورد سالسبوري لسفير فرنسا «أنَّ وادي النِّيل كان — ولا يزال — ملكًا لمصر. وأن جميع العوائق وكل الانتقاص الذي أحدثه فتح المهدي وإخلاله في صفة هذه الملكية، قد زال بفعل انتصار الجيش الإنكليزي المصري في أم درمان.١٥
- (٢) قال اللُّورد روزبري في خطاب ألقاه في أبسون في ١٢ أكتوبر ١٨٩٨: «نحن نعمل الآن لنرجع إلى مصر ما يؤلف — حسب تصريحات جميع الوزارات الفرنساوية — أرضًا مصرية.١٦
- (٣) وأثبت اللُّورد كمبرلي في مأدبة أقيمت إكرامًا للورد كتشنر ما يلي:أنَّ الجلاء عن فاشودة لا يمكن أن يمسَّ كرامة فرنسا؛ لأنَّ الحكومة الفرنساوية ذاتها صرَّحت بأنَّ الأراضي المختلف عليها هي ملك مصر.١٧
يكون للحكومة الطليانية في حالة اضطرارها للعمل قيامًا بحاجة موقفها العسكري أن تقبل كسلة والإقليم الملاصق لها حتَّى الأتبرة. إلَّا أنَّه يكون معروفًا لدى الحكومتين أن كلّ احتلال عسكري مؤقت للأراضي الإضافية المعينة بهذا البند لا يلغي حقوق الحكومة المصريَّة على تلك الأراضي، فهذه الحقوق تظل موقوفة فقط إلى أن تتمكَّن الحكومة المصريَّة من استئناف احتلال المنطقة المشار إليها.
- أولًا: إنَّ استعادة تلك الأقاليم تمَّت على حساب مصر وباسمها، وكانت
إنكلترا تعمل بمعاونتها بوصف أنَّها حليفة بالواقع لمصر. وهذا ما
يُستنتج استنتاجًا مقطوعًا به من التَّصريحات المذكورة آنفًا، ثمَّ
إنَّ اللُّورد كتشنر — قائد الجيش المصري — صرَّح للقومندان مارشان
في فاشودة بقوله: «إنَّ التَّعليمات التي تلقَّاها تقضي بأن يُعيد
بسط «السلطة المصرية» على مديرية فاشودة، وأنَّه يحتج على رفع
العلم الفرنساوي على «أملاك سمو الخديوي».
ثم كتب إليه بعد ذلك:
يجب عليَّ أن أبلغك أنِّي وقد رفعت اليوم العلم المصري على فاشودة بأن حكم هذه البلاد قد استعادته مصر ليدها نهائيًّا «راجع تقرير اللُّورد كرومر السنة الثالثة ١٨٩٨.
- الثاني: إنَّ القوات العسكرية التي استُخدمت للاستعادة قد كانت من جانب المصريين ٢٥ ألفًا. أمَّا التي كانت من جانب الإنكليز فقد كانت من بادئ الأمر ٨٠٠ جندي، ولم يتجاوز عددها ألفي جندي.
- الثالث: إنَّ نفقات الاستعادة ٢٤٠٠٠٠٠ جنيه دفعت مصر ثُلثيها. وإذا كانت إنكلترا قد تحمَّلت الثلث فالخطأ ليس خطأ مصر ولكنَّه ناشئ من معارضة صندوق الدَّين التَّحكمية.
- الرابع: أنَّ مصر وحدها دفعت منذ استعادة السُّودان نفقات الأعمال والمشروعات ما عدا خزَّان مكوار فبلغ ما أنفقته نحو ٥٦٠٠٠٠٠ جنيه، ومصر وحدها هي التي دفعت العجز المتوالي في ميزانية السُّودان، فبلغ ما دفعته في هذا السبيل ٥٣٥٠٠٠٠ جنيه.
- الخامس: منذ استعادة السُّودان تنفق مصر على عشرة آلاف جندي مصري في
السُّودان للدِّفاع في الخارج ولمنع كلّ ثورة في الداخل، فتحمَّلت
مصر من وراء ذلك إنفاق ١٣ مليون جنيه، مع أن القوة الإنكليزيَّة في
السُّودان نحو ألف رجل لم تزد النفقة عليهم على مليوني
جنيه.
إنَّ مصر تحمَّلت في سبيل السُّودان نفقة مالية كبيرة جدًّا كما تدلُّ سجلات الحسابات، وقد تحمَّلت هذه الأعباء رغم الديون المتراكمة عليها، ورغم شدة حاجتها إلى الأموال لتقوم بالأعمال العمومية، لا سيما أعمال الرَّي التي يحوَّل بها ريّ الحياض إلى ريّ دائم، وقد كان بالإمكان إصلاح مليوني فدان لا تزرع الآن بنصف الأموال التي أنفقتها.
•••
فالاستنتاج الطَّبيعي المعقول من كلّ ما تقدم هو أنَّه يجب اعتبار السُّودان جزءًا من مصر لا يقبل التجزئة، حتَّى إنَّ اتِّفاق ١٨٩٩ ذاته لا يعارض ذلك؛ فإنَّ ذلك الاتِّفاق يشرك إنكلترا مع مصر لا في السِّيادة على السُّودان، بل في الإدارة. وإذا كان العلم الإنكليزي قد ظل يخفق على السُّودان إلى جانب العلم المصري فمرجع ذلك إلى الاهتمام باتقاء العراقيل التي تنجم عن تنفيذ حكم الامتيازات هناك فتحول دون تقدم تلك البلاد.
وفي الواقع إن اتِّفاق ١٨٩٩ قد تضمَّن ما نصُّه «من حيث إنَّه صار لازمًا اختيار طريقة للإدارة وسنِّ قوانين للأقاليم المستعادة المذكورة»، وزاد على ما تقدم قوله: «ومن حيث إنَّه ظاهر ولأسباب عديدة يمكن أن تدار وادي حلفا وسواكن إدارة أفعل إذا ضُمَّتا إلى الأقاليم المستعادة»، وبالفعل تمَّ ضمُّ حلفا وسواكن إلى الأقاليم المستعادة؛ حتَّى يكون الجميع خاضعًا لنظام الحكم الذي قرَّره الاتِّفاق.
وهذه وادي حلفا، وهذه سواكن لم تجل عنها الجنود المصريَّة قطُّ فضمهما إلى الأقاليم المستعادة يثبت أنَّ ذلك الاتِّفاق ما كان يرمي إلَّا إلى الوجهة الإدارية، ولم يكن الغرض منه أن يخرج السُّودان من السِّيادة المصرية.
وتأييدًا لهذا الإيضاح لاتِّفاق ١٨٩٩ نستعين بحكم اللُّورد كرومر الذي هو بلا شك أصدق مفسر له؛ لأنَّه هو الذي وضعه، فإليك ما يراه القارئ في تقريريه لعام ١٩٠١ و١٩٠٣.
ألاحظ في أعمال مجلس شورى القوانين الخاصَّة بالاعتمادات قوله: «إنَّ المجلس يصادق على المصروفات المقترحة للسُّودان لأنَّه يعد السُّودان جزءًا لا ينفصل عن مصر»، وهذا الرأي صحيح في الحقيقة؛ فإنَّ نظام الحكم السياسي في السُّودان مقيَّد على كلّ حال بالاتِّفاق المعقود بين بريطانيا العُظمى ومصر وموقَّع عليه في ١٩ يناير سنة ١٨٩٩. ولما كان من المحتمل أنَّ بعض أعضاء مجلس الشورى غير مُلمِّين تمام الإلمام بفحوى ذلك الاتِّفاق فإنِّي أنتهز هذه الفرصة لأبين أنَّه لم تكن هنالك نية أو رغبة عند صوغه في انتقاص حقوق مصر الشرعية. فقد كانت الأغراض الأساسية التي رمى إليها واضعو ذلك الاتِّفاق هي أولًا ضمانة وجود حكومة صالحة للأمة السُّودانية، وثانيًا اتقاء الارتباكات الخصوصية التي أوجدها أسلوب الحكم الدولي بمصر في السُّودان.
لقد سئلت أحيانًا: لماذا لا تتحمل الخزانة البريطانية قسمًا من نفقات الإدارة في السُّودان ما دامت الراية البريطانية تخفق إلى جانب الراية المصريَّة على ربوعه؟ وهو سؤال طبيعي، ولكن الإجابة عليه سهلة جدًّا على جميع الواقفين على تاريخ اتِّفاق ١٩ يناير سنة ١٨٩٩ الذي بموجب نصوصه أوجدت للسُّودان حالة سياسية خاصة. وذلك أنَّ حكومته شُكلِّت لغرض صريح، وهو إنقاذ السُّودان — وبناءً على ذلك إنقاذ مصر — عند حكمها تلك المديريات من جميع تلك الأوضاع الدولية المعرقلة التي لها النصيب الأوفر في تعقيد الإدارة في مصر، ولولا هذا الاعتبار لما كان لرفع الراية البريطانية على الخرطوم — من وجهة النَّظر البريطانية — من سبب أدعى إلى رفعها على أسوان أو طنطا.
وفوق كلّ ما تقدم كيف كان بالإمكان أن يشرك اتِّفاق ١٨٩٩ إنكلترا مع مصر في السِّيادة على السُّودان؟ فليس إرسال بعض الجنود الذين لم يتجاوز عددهم الألفين ولا إنفاق بعض المال القليل ممَّا يسوِّغ مثل هذه الشركة. فإذا كان العون الاختياري يخوِّل من ذاته حقًّا ما، فإنَّ الواجب أن يكون لمصر حق في سوريا وفلسطين؛ لأنَّه بفضل رجال مصر وسككها الحديدية وموانيها وإمدادها الجيش الإنكليزي بالأكل والماء والمعدات من كلّ نوع سهَّل فتح تلك البلاد، وأنفقت مصر أكثر من أربعة ملايين جنيه من المال فوق الفرق في أثمان ما جمعه الجيش الإنكليزي، حتَّى إنَّ هذا الفرق بلغ في القطن وحده الملايين دون حسبان الحبوب من كلّ صنف والمواشي التي نقصت الثلث مدة الحرب.
وقد اعترف المارشال اللنبي بقيمة المساعدة المصريَّة إبان حملة فلسطين وسوريا، وورد في تقرير اللُّورد ملنر قوله: «ليس من العدل إلَّا أن نذكر الخدمات التي أدَّاها فيلق المتطوعة المصريَّة، فإنَّ قيمتها كانت فوق التقدير، ولم تكن عنها مندوحة لفتح فلسطين.
إنَّه كان لمصر على إنكلترا دين أدبي لتساعدها على استعادة السُّودان. أو لم يكن إخلاء السُّودان بفعل ضغطها على مصر؟ ألم تكن إنكلترا بمثابة القيِّمة على مصر؟
فقد قال السير إدوارد غراي أمام مجلس النواب الإنكليزي في ٢٨ مارس ١٨٩٥: «إنَّ إنكلترا تشغل من وجهة الدفاع عن مصالح مصر المركز الخالص للقيم، فمطالب مصر لم نُسلِّم بها نحن وحدنا، بل سلمت بها أيضًا وأثبتتها كلّ الثبوت الحكومة الفرنساوية.»
•••
وفضلًا عن أن النِّيل هو رباط الحياة بين القطرين، فإنَّ هناك اعتبارات اقتصادية تربط السُّودان بمصر.
فالسودان بلاد لا تزال بكرًا، وتجارته معدة للنمو، وحاصلاته للزيادة بسرعة؛ نظرًا لسعة أراضيه وخصبها. فإذا كان له منفذ إلى البحر في پور سودان؛ فإنَّ هذا الميناء لا يستطيع وحده تصريف تجارة هذه البلد عندما تنال بعض التقدم.
وفي مصر سيمر دائمًا شطر كبير من بضائع السُّودان، لا سيَّما إذا بدت المزاحمة في تجارة تلك البلاد، فإنَّه حينئذ تفضل الطريق الأخصر. وأكبر شطر من اتجار السُّودان هو الآن مع مصر. وسيظل دائمًا كذلك، ومصر هي في العالم من البلاد التي يزدحم سكانها، وهؤلاء السُّكان يزيدون زيادة سريعة، وقد أخذت أرضها تعجز عن أن تكفي هؤلاء السُّكان، وبعد بضع سنين تصبح هذه المسألة من المسائل الاجتماعية المتحرجة التي يقضى على السلالة الآتية حلَّها، فليس في الأرض مكان معدٌّ بذاته لقبول زيادة السُّكان في مصر غير السُّودان، فهو بلاد متاخمة لمصر وبلاد زراعية بحتة ومتصلة بمصر بروابط من كلّ نوع.
ومن جهة أخرى إنَّ من المبدأ المسلم به من الجميع الآن، والذي كان مرشدًا وهاديًا لسياسة الإنسانية بعد الحرب الكبرى مبدأ الجنسية المنحصر في تأليف وحدات سياسية من الطوائف المتجمعة إذا كانت من عنصر واحد. وهذا المبدأ ينطبق على مصر والسُّودان؛ لأنَّ غالبية السُّودان من العنصر العربي يتكلَّم لغة المصريين وله دين غالبيتهم ومتخلق بأخلاقهم.
(٨-٢) بحث في حالة السُّودان السياسية: بقلم صاحب الدولة حسين رشدي باشا
إنَّ اتفاق١٨٩٩ — بين الحكومة المصريَّة والحكومة الإنكليزيَّة — هو اتِّفاق في نظر المصريين باطل وفي نظر الإنكليز صحيح ترتبط مصر بأحكامه.
وتستند حجة المصريين في بطلانه إلى أنَّ تركيا لم تقر ذلك الاتِّفاق. ثمَّ يزيدون على ما تقدم: أنَّ مصر ذاتها لم تقرَّه برضاها ولم تسلم به إلَّا مكرهة مقسورة بقوة إنكلترا.
ويردُّ الإنكليز على هذه الحجة بأنَّ اتِّفاق ١٨٩٩ يربط مصر لأنَّها وقَّعته وإن لم تكن تركيا قد سلَّمت به. أمَّا مسألة عدم تسليم تركيا فكل ما يقال فيه من الوجهة المصريَّة أنَّ مصر تعاقدت على ملك الغير وفي هذه الحالة لا يكون للمغتصب — أي مصر — حق إنكار عقد التَّعاهد، بل إنَّ هذا الحق لصاحب الحق المغتصب وهي تركيا. ويزيد في نقصان تمسك مصر ببطلان اتِّفاق ١٨٩٩ أنَّ عقد الاغتصاب الذي وقعته قد تأيَّد بعدول تركيا عن ادِّعاء أي حق لها على مصر.
وإذا كانت معاهدة سيفر لا تزال قيد التعديل فإنَّ من المأثور أنَّ التعديل المطلوب فيها يرمي إلى وجوه أُخرى غير ذلك العدول عن حقها في مصر، وهو العدول الذي صار نهائيًّا.
أمَّا الزعم بانفلات مصر من روابط اتِّفاق ١٨٩٩ بحجة أنَّ رضاها به كان مشوبًا ومشوَّهًا بقوة الإكراه من جانب إنكلترا إكراهًا لم يكن بالإمكان دفعه، فهو ملابسة بين مبادئ الحق المدني ومبادئ الحق العام. وهذه معاهدات الصلح التي أكره المغلوبون على توقيعها بقوة الحديد والنار هل يجوز لهؤلاء ألَّا يحترموا أحكامها؟
والذي نعتقده نحن أنَّ اتِّفاق ١٨٩٩ لا يربط مصر للأسباب الآتية:
أنَّ السبب الذي دعا إلى إبرام هذا الاتِّفاق هو الاهتمام بمنع تنفيذ الامتيازات في السُّودان، ووقاية مصر ولو في هذا الشطر من الأراضي المصريَّة من مساس نظام الامتيازات بسيادتها.
فهذا الاتِّفاق إذن قد عقد لمصلحة مصر لا لمصلحة إنكلترا، وفي الواقع إن إنكلترا لم يكن لها في ذاك الحين أية مصلحة خاصة من وراء ذلك الاتِّفاق؛ لأنَّها كانت تحكم مصر ذاتها.
فأية حاجة كانت بها لأن تُبرم مع مصر اتِّفاقًا يخوِّلها إدارة السُّودان؟ فهل هي كانت تلقى من الحكومة المصريَّة مقاومة لا ترد وهي التي استطاعت أن تكره حكومة مصر على إخلاء السُّودان رغم إرادتها. لو أنَّها طلبت من الحكومة المصريَّة بقطع النَّظر عن كلّ اتِّفاق — وأمامنا السَّابقة في مسألة غوردون — أن تسلم حكم السُّودان إلى حاكم عام حتَّى ولو كان إنكليزيَّا تختاره إنكلترا وله السلطة المخولة الآن للحاكم العام؟ سؤال لا يجاب عليه بغير «لا».
إنَّ تلغراف غرانفيل المشهور جعل للمشورة الإنكليزيَّة صبغة الأمر، وجعل موقف الحكومة المصريَّة بين أمرين: إمَّا الخضوع وإمَّا الاستعفاء.
وكما أنه ليس ما يمنع أي شخص تعاقد مع آخر على مصلحة له من أن يتنازل عن تلك المصلحة، فكذلك مصر لا يمنعها مانع قانونًا عن أن تعدل عن اتِّفاق ١٨٩٩ إذا هي ارتضت أن تتحمَّل في السُّودان نظام الامتيازات أو أي نظام يقوم مقامه.
وهذا اللُّورد كرومر يعترف صريحًا بتقريره عن الاتِّفاق بأنَّ الغرض الوحيد منه هو إنقاذ مصر في السُّودان من عراقيل الامتيازات. نعم إنَّه أضاف إلى هذا الغرض غرضًا آخر جعله في المقام الأول، وهو ضمانة الإدارة الحسنة لأهالي السُّودان، ولكن هذا لا ينقض بوجه من الوجوه مذهبنا.
هل النِّظام الأساسي النافذ في السُّودان بمقتضى اتِّفاق سنة ١٨٩٩، أو بعبارة أخرى هل الحكم الإنكليزي المصري المزدوج هناك، يجعل لمصلحة السُّودان حقًّا مكتسبًا تجاه مصر؟! إنَّهم إذا قالوا ذلك كان جوابنا القاطع: ليس للسُّودان شخصية ممتازة عن مصر. وإذا كانت له شخصية ممتازة فمصر لم تتعاقد مع السُّودان، ولكن ما الفائدة من الوقوف أمام هذه الافتراضات؟ فلْنُجابِهِ الحقيقة وجهًا لوجه. والحقيقة هي — كما قلنا — أنَّه ليست للسُّودان شخصية خارجة أو منفصلة عن شخصية مصر. ومن هنا تنجم الاستحالة القانونية على السُّودان بأن يكتسب حقوقًا تجاه مصر.
لقد قلنا ونكرر هنا القول: إنَّ اتِّفاق ١٨٩٩ لا يربط مصر من الوجهة القانونية، ولكن إذا وصلنا إلى العمل نجد أنَّ مفاوضينا سيصطدمون بمقاومة شديدة من جانب إنكلترا العاضَّة بكل نواجذها على ذلك الاتِّفاق. وهذه الأموال الإنكليزيَّة قد استخدمت — أو هي على وشك الاستخدام — في السُّودان، ومجال العمل الواسع في السُّودان — وهو بلاد خصبة لم تستثمر حتَّى الآن — ليتجلَّى أمام أصحاب الأعمال من الإنكليز، وخطأ الرأي العام الإنكليزي الذي يعتبر نصف السُّودان — إن لم نقل السُّودان كله — ملكًا إنكليزيًّا، واهتمام الإنكليز بإنجاز الخط الحديدي الممتد من رأس الرجاء الصالح.
هذه كلها عوامل تحمل الحكومة الإنكليزيَّة على أن تتفانى بالتَّمسك بذلك الاتِّفاق. فإذا فرضنا أنَّا توصَّلنا غدًا إلى الاتِّفاق المُرضي مع الإنكليز على التَّحفظات التي وردت في «التَّصريح لمصر» ولم يبق من وجه للخلاف إلَّا على السُّودان، فهل يقطع مفاوضونا المفاوضات من أجل ذلك؟
إنَّ الجواب على هذا السؤال الخطير في مثل هذه الحالة يكون من حق البلاد، وبعبارة أخرى إنَّه يكون من شأن نواب الأمة الذين تستشيرهم الحكومة. ولكن إذا هم عقدوا العزيمة على أن لا يقبلوا في المسألة هوادة فلا يجوز بحال من الأحوال أن يكون مآل الحل جعل مركز مصر أدنى من المركز الذي يكون لها حسب اقتراح خطر لنا وكان في العزم نشره لولا حب التَّفادي عن ذلك الآن ولولا تساؤلنا: أليس الأفضل سياسيًّا الاحتفاظ بتبليغ هذا الاقتراح إلى المصريين وحدهم، لا سيما ممثِّلي الأمة ونوابها، وللحكومة وللمفاوضين في المستقبل.
وبمناسبة ذكر التَّحفظات الإنكليزيَّة غير مسألة السُّودان نذكر عرضًا أنَّ لجنة الدستور الفرعية قد أزالت كلّ سبب كان يدعو إلى وجود واحد من تلك التَّحفظات، وهو تحفُّظ يمس مساسًا خطيرًا بالاستقلال؛ لأنَّ أقلَّ ما يرمي إليه تثبيت سيادة إنكلترا على مصر — ونعني بذلك: التَّحفظ الخاص بحماية الأقليات.