مقدمة

دقَّت نواقيس الدير قبل أن ينبثق نور الفجر مؤْذنة بالصلاة، فتهافت الرهبان إلى المصلَّى.

وبينما الرهبان يُصلُّون صلاة الفجر، كان داغوبير قد بدأ أعماله وامتزجت أصوات مطرقته بأصوات الرهبان.

إن داغوبير هذا كان حدَّادًا وبيطارًا في ذلك الدير، ولكنه لم يكن من الرهبان ولا يتصل بهم بغير الجوار.

وهو فتًى في الثانية والعشرين من عمره، متين القوى، وافي الذراعين، عظيم الزندين، مدمج المفاصل، تظهر الشجاعة بين عينيه، ولا يخلو وجهه من الجمال.

كان والد داغوبير وأجداده إلى عهدٍ بعيد يتوارثون هذا الاسم تَوارثهم مهنة الحدادة والبيطرة في جوار الدير، حتى كان نبلاء أورليان يقولون: لو كان نسب الأسرات بتقادمها لكان هذا الحدَّاد مساويًا لنا في الحسب.

ثم إن رهبان الدير كانوا يموتون ويحل سواهم محلهم فيه، كذلك أعضاء عائلة داغوبير فإنهم كانوا يتوارثون تلك المطرقة وتلك الدكان، كما تتوارث الملوك التيجان.

ولهذه العائلة حكاية كان يتناقلها الناس كما يتناقلون أحاديث الخرافات، وهي أن جد هذه العائلة كان يتصل تاريخه بعام ١٣٥٠.

وكان للكهنة والنبلاء في ذلك العهد مطلَق السلطان، فاتفق يومًا أن حراس غابات الدير جاءوا بهذا الرجل إلى الرئيس مكتوف اليدين، واتهموه أنه اصطاد أيلًا في تلك الغابات، فأمر رئيس الدير بجَلده خمسين سوطًا وبدفع غرامة كانت فوق طاقته، وسجنه إذ لم يستطع دفعها.

واتفق في ذلك اليوم أنهم انتخبوا رئيس الأديرة العام، والعادة أن الرئيس العام حين ينتخبونه يأتي إلى هذا الدير فيقيم فيه يومًا، ثم يذهب مع رئيسه إلى مركز رئاسته العليا.

وكان حصان رئيس الدير قد حفت حوافره، وليس في تلك القرية بيطار غير داغوبير السجين، فأمر الرئيس بإحضاره من سجنه وأمره أن ينعل فرسه، فأبى الرجل لحقده على الرئيس، فقال له: إذا أصررت على الرفض أمرت بشنقك.

فأجابه بملء السكينة: إني مستعد للموت.

فغضب الرئيس ولكنه كان مضطرًّا إلى مرافقة الرئيس الأكبر، فكظم غيظه وقال له: لماذا لا تريد أن تنعل فرسي؟

– لأنك أسأت إليَّ ولم تعوضني شيئًا.

– إني أصفح عنك وأتخلى عن الغرامة التي فرضتها عليك.

– إن هذا التعويض لا يكفيني.

– إذن سلْ ما تشاء فإني أمنحك كل ما تريد.

– إني أريد أن تمنحني أرضًا يسير فيها الماشي ثلاث ساعات في أي مكان أردته من أملاك الدير.

– قد منحتك ذلك.

– وأريد أن تأذن لي ببناء منزل ودكان للحدادة.

– قد أذنت لك.

– وأريد أن تكون هذه الأرض والمنزل والدكان حقًّا لأعقابي يتوارثونها من بعدي.

– قد منحتك هذا الحق أيضًا.

ثم كتب له صكًّا بهذه المِنَح، فأنعل له فرسه وتمكَّن من مرافقة الرئيس العام.

وتوالت السنون والقرون فكانت تلك الدكان عند باب الدير لا يشتغل فيها غير أعقاب داغوبير، فكانوا مع الرهبان على أتم خير وسلام.

أما داغوبير هذا الذي بقي من تلك العائلة في عهد هذه الرواية فكان يُدعى جان داغوبير.

وقد كان في مقتبل الشباب كما قدمناه، ولم يبقَ من تلك العائلة سواه، ومع ذلك فإنه كان لا يزال عازبًا، إما لخوفه من الزواج، وإما لأنه لم يجد بعدُ مَن تشاركه في هذا القيد.

ولقد قلنا إن الرهبان كانوا يصلُّون صلاة الفجر، وداغوبير يقرع السندان بمطرقته فيوقظ الأطيار من سباتها؛ لأن الفجر لم يكن قد انبثق بعد.

وفيما هو ذلك سمع وقْع حوافر جواد، فذهل لقدوم هذا الجواد بمثل هذه الساعة، وترك مطرقته وقام إلى الباب ليرى مَن القادم، فرأى فارسًا ينهب الأرض بجواده وهو قادم من جهة سولي، فقال في نفسه، لا شك أن هذا الفارس من النبلاء، وهو ذاهب إلى قرية سانت ألبير لحضور حفلة العيد.

غير أن هذا الفارس لم يتجاوز الدير؛ فإنه حين وصل إلى دكانه أوقف الجواد، ونادى داغوبير فقال له: أهنا الدير الذي يدعونه دير أبناء الله أيها الصديق؟

– نعم يا سيدي.

– ألا يزال الأب جيروم رئيسه؟

– نعم.

وكان أمام هذا الفارس على الجواد فتاة صغيرة، فحملها بين يديه وترجَّل عن الجواد وهو ينظر إلى الفتاة نظرةَ حنو وإشفاق، ثم دخل بها إلى دكان الحدَّاد دون أن يهتم بجواده، ووضع الفتاة برفق قرب النار؛ فإن البرد كان شديدًا قارصًا.

وكانت الفتاة زرقاء العينين بارعة الجمال شقراء الشعر، فجعل داغوبير ينظر إليها معجبًا بهذا الجمال الملائكي.

أما الفارس فقد كانت علائم الاضطراب بادية بين عينيه، فالتفت إلى داغوبير وقال له: أرجوك أيها الصديق أن تقرع باب الدير؛ إذ يجب أن أقابل الأب جيروم في الحال.

فقال له داغوبير: إني لو قرعت الباب ساعة لما فتحوه.

– لماذا؟

– لأن الرهبان منشغلون الآن بصلاة الفجر، ونظام الدير لا يأذن بفتح الباب قبل انتهائها.

فأجابه بلهجة الجازع: ولكن لا بد من مقابلة الرئيس.

– يستحيل ذلك يا سيدي قبل انتهاء الصلاة، وهي لا تنتهي إلا حين شروق الشمس فيُفتح الباب.

فتنهَّد الفارس وقال: وأنا يستحيل عليَّ الصبر، وا أسفاه! إذ يجب أن أكون عند شروق الشمس بعيدًا عن هذا المكان.

وكان هذا الفارس في الخمسين من عمره، تدل ملابسه على أنه من نبلاء الريف، وهي من المخمل الأصفر مزدانة بشرائط من الفضة، وكانت الوحول قد اتصلت بها مما يدل على أنه اجتاز مسافة عظيمة.

وكانت الفتاة قد جلست على كرسي قرب النار، فلما دفئت تثاقل جفناها فأطبقتهما ونامت.

فأشفق داغوبير عليها وقال للفارس: أتأذن لي أيها النبيل أن أصعد بها إلى سريري فتنام فيه مرتاحة؟

فلم يجِبه الفارس، بل خرج من الدكان وقرع باب الدير بعنف شأن القانط، فلم يجِبه أحد، ولم يسمع غير أصوات الرهبان يصلُّون.

واستمر يقرع الباب ربع ساعة دون فائدة فعاد إلى دكان الحدَّاد، فرأى داغوبير أن دمعة سقطت على خد الفارس.

أما الفتاة فكانت لا تزال نائمة.

•••

كان حزن الفارس شديدًا، حتى إن داغوبير لم يجسر أن يقول له شيئًا بشأن قرعه باب الدير.

أما الفارس فإنه دنا من الفتاة وناداها باسم حنة، ففتحت الفتاة عينيها وقالت: إني متعبة جدًّا فدعني أنام، ثم أطبقت عينيها وانحنى رأسها الجميل على كتفها.

فنظر الفارس عند ذلك نظرة غريبة إلى داغوبير، وقال له: إني أسفك دمي في سبيل فتح باب الدير الآن.

فتأثَّر داغوبير تأثرًا عظيمًا ليأس الفارس، وقال له: أتريد يا سيدي أن أكسر باب الدير؟

– كلا، فإننا نضيع الوقت، وقد أُغضبُ بذلك رئيس الدير، وأنا في حاجة إلى رضاه.

ثم نظر إلى داغوبير كأنما قد خطر له خاطر وقال: ماذا تُدعى؟

– داغوبير.

– أأنت من أهل هذه البلاد؟

– إني وُلدت في هذا البيت وسأموت فيه.

فنظر إليه نظرة الفاحص وقال: إن هيئتك تدل على أنك شريف القلب.

فأجابه بلهجة الإعجاب: إنك لو سألت جميع أهل المقاطعة لما حكموا على عائلة داغوبير إلا كما حكمت أنت عليَّ.

فذكر الفارس ذكرى بعيدة وقال له: أليست هي عائلتكم التي نالت امتياز الإقامة بجوار الدير منذ أربعة قرون؟

– نعم.

– لقد وثقت بك الآن؛ فإن لعائلتكم شهرة بعيدة بالوفاء.

– قل يا سيدي ما تريد، فإني ما خدعت أحدًا ولا أبدأ بخداعك.

فنظر الفارس إلى الفتاة وقد جال الدمع في عينيه، ثم قال لداغوبير: إن هذه الفتاة التي تراها ليس لها سواي في هذا الوجود يحميها.

– لعلك قريبها؟

– إني أبوها وعمها وأخوها؛ إذ ليس لها سواي، ولكني مضطر إلى الافتراق عنها عامًا أو عامين، وربما فارقتها أكثر من ذلك، ويجب عليَّ أن أكون في باريس في هذا المساء، وأن أبرح فرنسا بعد يومين إلى أميركا، فإن شرفي وسعادة هذه الفتاة موقوفان على سفري.

– ألعلك يا سيدي تريد إبقاءها عند الأب جيروم؟

– نعم، وسأعهد إليك بقضاء هذه المهمة.

ثم أخرج خاتمًا من إصبعه ومحفظة من جيبه، أما الخاتم فقد كان منقوشًا عليه شعار النبلاء، وأما المحفظة فقد كانت محشوة بالأوراق المالية.

فدفع الخاتم والمحفظة إلى داغوبير وقال له: عندما يُفتح باب الدير اذهب بالفتاة إلى الأب جيروم وأعطه الخاتم والمحفظة، فإنه متى رأى الشعار على الخاتم عرف مَن أنا ومَن هي الفتاة.

– سأفعل يا سيدي كل ما أمرتني به.

– بقي أمر وهو أننا في زمن كثُر فيه الاضطراب وأخذ الشعب يجاهر باستيائه حتى بتنا نخشى هبوب الثورة، على أن الشعب إذا ثار فإنما يثور على النبلاء والرهبان، وقد ينقضُّ على هذا الدير ويعجز الأب جيروم عن حماية الفتاة، فهل تتولى حمايتها إذا اتفق ذلك؟

– إني أحميها كما يحمي الأب ابنته في مواقف الشدائد، وأزود عنها مكروه الشعب، فإني من الشعب.

فالتفت الفارس فرأى صليبًا معلقًا في الجدار، فقال له: أقسم لي بالصليب أنك صادق فيما تقول.

– أقسم به وبكل مقدَّس في السماء أني أسفك دمي قبل أن تسقط شعرة من رأسها.

– حسنًا، والآن أستودعك الله وأرجو أن يقيك ويقي هذه الفتاة.

ثم دنا من الفتاة وهو يضطرب حنوًّا، فقبَّلها وقال لها: الوداع أيتها الحبيبة، وليحرسك الله فإنك من ملائكته. وخرج مسرعًا يتبعه داغوبير، فصافحه مودعًا وامتطى جواده وسار به ينهب الأرض، فلبث داغوبير واقفًا يشيعه حتى توارى عن الأنظار.

ثم دخل إلى دكانه وكان الفجر على وشك البزوغ، فكانت الفتاة لا تزال نائمة، فحملها بين يديه وصعد بها إلى منزله.

وكان داغوبير قد احتفظ بسرير أمه وأبقاه على حاله بعد موتها تذكارًا لها، فإنها ماتت منذ خمسة أعوام، وقد وضع فوقه صليبًا، فلما صعد بالفتاة إلى تلك الغرفة شعر بعاطفة احترام، وأنكر أن ينومها في سريره، فرفع الصليب عن سرير أمه وأنام الفتاة عليه ثم عاد إلى دكانه.

وكان الرهبان لم يفرغوا من صلاتهم بعد، فهمَّ أن يعود إلى عمله غير أنه خشي أن تستيقظ الفتاة من صوت المطرقة، فامتنع عن العمل وجلس عند باب الدكان ينظر نظرات ساهية إلى الغابة الفسيحة المنبسطة أمام الدير.

وفيما هو يُسرِّح النظر في تلك الغابة رأى نورًا أحمر من جهة الغرب يتعاظم ويمتد من فوق أشجار السنديان، فتعجب لهذا النور المتصل بعَنان السماء، وقال في نفسه إنه لا يمكن أن يكون نور الشفق، ثم رأى كأن السماء قد باتت كتلة من نار، فأيقن أنها حريقة قد شبَّت في أحد القصور أو في إحدى المزارع.

ولم تكن الحرائق نادرة في ذلك العهد، فإن المجاعة وقحل المواسم وفداحة الضرائب واستبداد النبلاء هاجت الفلاحين، فتألفت منهم عصابات تطوف في حقول الأغنياء فتحرق المزارع والقصور.

وقد ثبت داغوبير في يقينه من هذه الحريقة؛ لأن أصوات الرهبان انقطعت فجأة وأخذت أجراس الدير تدق دقات خاصة بالاستغاثة، فتجيبها أجراس من الأماكن المجاورة بمثل دقاتها إشارة إلى التأهب.

ثم رأى أن باب الدير قد فُتِح وخرج منه جميع الرهبان، فساروا إلى جهة النار وفي طليعتهم الأب جيروم وهم يبلغون مائة راهب.

فدبَّت الحماسة في صدر داغوبير وهمَّ أن يسير في أثرهم، غير أنه تذكر الفتاة واليمين التي أقسمها على الحرص عليها فبقي في مكانه.

أما الفتاة فإنها كانت لا تزال نائمة.

•••

كان الأب جيروم رئيس هذا الدير طويل القامة عريض المنكبين، تتقد عيناه ذكاء ويضيء فيها بارق الشباب.

وكانت الأديرة في ذلك العهد كغرف الجيش، فكان لكل فرقة رئيس فعلي ورئيس اسمي، وأما الكولونيل فكان يشتري هذا المنصب بالمال ولا يكون له منه غير شرف الانتماء إليه، وأما الكولونيل الفعلي فهو الذي كان يتولى قيادة الفرقة، ويبلغ هذا المنصب بجدِّه واستحقاقه.

وكذلك الأديرة في ذلك العهد، فقد كان لكل دير رئيس شرف ممن يميلون إلى مثل هذا الجاه، ورئيس عامل يتدرج فيه من أدنى الدرجات باجتهاده إلى مقام الرئاسة.

أما الأب جيروم فقد كان من الفريق الثاني، وهو من أهل الجد والذكاء والهمم العالية، فدخل إلى الدير راهبًا بسيطًا ورقي فيه حتى بلغ الرئاسة العليا، وأما الرئيس الاسمي فلم تطأ قدماه ذلك الدير.

وإن لدخول الأب جيروم إلى الدير حكاية سرية، فإنه في ليلة من ليالي ديسمبر الباردة وذلك منذ خمسة عشر عامًا، كان فارسان يسيران في غابة هذا الدير وقد فتحت ميازيب السماء وانهالت الأمطار كأفواه القرب حتى وقفا عند باب الدير.

وكان أحدهما مرتديًا بملابس النبلاء، وكان الآخر خادمًا كما يظهر؛ فإنه حين ترجل عن جواده ألقى عنانه إليه، ثم مد إليه يده وقال له: أستودعك الله يا متى، إلى الأبد … ولا أنسى إخلاصك في خدمتي ما حييت.

فتلقى الخادم هذا الوداع بالبكاء، وأكب على يد سيده يقبلها ويغسلها بدموعه وهو يقول: أتدخل يا سيدي إلى الدير وتنقطع عن العالم هذا الانقطاع، وأنت الغني النبيل الذي أجمع الناس على حبه واحترامه؟

– ذلك لا بد منه، الوداع فاذهب بأمن الله.

ثم أشار إلى خادمه بيده إشارة منعته عن العودة إلى الحديث، فاندفع في البكاء وقاد جواد سيده بعناية وسار ماشيًا في الغابة، وهو كلما خطى خطوة يلتفت إلى الوراء فيرى سيده واقفًا تحت المطر عند باب هذا الدير الذي من يدخل إليه لا يخرج منه إلا إلى ظلمة الأبد.

أما السيد فإنه لبث واقفًا حتى توارى الخادم بالجوادين عن الأنظار، فقرع باب الدير.

وفي اليوم التالي احتفل الرهبان بتدشين هذا الراهب الجديد، وبدأت أعماله الشاقة التي لا بد أن يعملها كل منتظم في سلك الرهبنة حين دخوله.

وبعد عشرة أعوام أصبح هذا الراهب البسيط رئيسًا لذلك الدير، ولم يعلم أحد حقيقة اسمه، ولا تلك النكبة الهائلة التي دعته إلى اعتزال العالم في مقتبل الشباب والانصراف إلى خدمة الله.

ولكنه نال شهرة واسعة في تلك المقاطعة بالتقوى والإصلاح وحسن الإدارة، فزالت حين تولى الرئاسة شكاوى الناس من جور الرهبان وانقطعت المظالم وحسنت سيرة الرهبان، فلم تعد تخشى النساء التنزه في الغابات.

وقد تقدم لنا القول إن الحرائق كانت كثيرة في تلك الأيام، فاشتهر الأب جيروم في خلالها بالغيرة والجرأة والإقدام، فإنه كان إذا شبت النار في موضع أسرع إليها في طليعة رهبانه، واقتحم النار غير هياب فلا يعود إلا بعد إخماد النار.

ولذلك لم يذهل داغوبير لشبوب النار، ولكنه استاء لعدم تمكنه من المساعدة في إطفائها.

ولبث الحداد واقفًا عند باب دكانه إلى أن أشرقت الشمس وملأت أشعتها الكون، ورأى أن أنوار الحريقة قد خمدت وانقطع صوت أجراس الاستغاثة.

فصعد من دكانه إلى الغرفة النائمة فيها الفتاة، ووقف عند السرير يتأمل ذلك الجمال الذي لم يرَ أطهر منه جمالًا وأبدع مثالًا.

وكانت لا تزال نائمة وهي تبتسم كأنها حالمة بما يدعو إلى الابتسام، فشعر داغوبير أن قلبه يضطرب ويخفق حنوًّا، وود لو طال غياب الرهبان كي يبقى معها في هذا الموقف.

وفيما هو يتأمل محاسنها تنهدت ثم فتحت عينيها، فنظرت إلى ما حولها نظرًا تائهًا ونادت عمها، ثم استقر نظرها على داغوبير فعرفته وقالت له: أنت هو الذي كان يضرب الحديد بالمطرقة؟

فاضطرب وقال لها بلهجة تشف عن الاحترام كأنه يكلم فتاة في العشرين من عمرها: نعم يا سيدتي.

– إذن أنا في منزلك؟

– نعم.

– وأين هو عمي؟

فتلعثم داغوبير ولم يدرِ كيف يعلل لها عن سفره، ثم تشجع وقال لها بصوت حنون: إن عمك قد سافر، ولكنه سيعود، وقد أوصاني أن أعتني بك في مدة غيابه.

فلم يظهر عليها شيء من الخوف، ولكنها نظرت إلى وجهه المسود من الدخان وقالت له: إن وجهك أسود لكنه يدل على الصلاح.

– إذن أنت غير خائفة مني؟

– كلا.

– أتبقين عندي إلى أن يعود عمك؟

– دون شك.

وعند ذلك سمع داغوبير صوت رجل يناديه من الدكان، فقال لها: ابقي هنا إلى أن أقضي حاجة هذا الرجل فأعود إليك.

ثم نزل إلى الدكان فلقي فيها أحد الرهبان المنوط به إرسال البريد، وهو يريد نعلًا لجواده فقال له: إني خشيت ألا أراك وأن تكون بين الذين ذهبوا لإطفاء النار.

– كنت أود أن أكون، ولكن حال دون ذهابي بعض الموانع، فأين شبت هذه النار؟

– في قصر دي بوربيير فالتهمته.

– أهو هذا القصر الجميل الذي بني حديثًا ولم يسكنه أحد بعد؟

– هو بعينه، ولكن أصحابه أقاموا فيه منذ أسبوع قادمين إليه من باريس.

– إنهم أغنياء وسيعيدون بناءه.

فهز الراهب رأسه وقال: لم يبقَ من يشيده فقد مات أصحابه.

– كيف ماتوا؟ أبالنار؟

– هذا ما يرويه الرواة.

– كم يبلغ عددهم؟

– إنهم ثلاثة، رجل عجوز وسيدة وولد صغير، لا أعلم إذا كان ذكرًا أو أنثى.

فارتعش داغوبير وقال: ألم يجدوا جثثهم؟

– كلا، فإن الخدم تمكنوا من النجاة، وأما أصحاب المنزل فلم يرَهم أحد حين شبوب النار.

– ولكن ماذا يدعون؟

– الكونت والكونتس دي مازير.

– أهم قادمون من باريس؟

– نعم، لكن لهم أقرباء في هذه المقاطعة.

وكان داغوبير يحدثه ويشتغل بنعل الفرس، فلما أتم عمله ركب الراهب جواده وانطلق.

وحاول داغوبير عند ذلك أن يعود إلى الفتاة لكنه رأى كثيرًا من العصابات عائدين من محل الحريق، فاستوقفهم وقال لهم: لعلكم عائدون من المحل الذي شبت فيه النار؟

وكانوا كلهم يعرفونه، فأجابه أحدهم: نعم.

– أعرفوا الذي وضع النار؟

– نعم، قد عرفوه.

– من هو؟

– هم أصحاب القصر أنفسهم.

فدهش داغوبير دهشًا عظيمًا، ولم يعلم كيف يمكن أن يكون ذلك.

•••

وعاد محدثه إلى الحديث فقال: يظهر أن الأب وأم الفتاة كانوا ينوون الانتحار من زمن بعيد.

فارتعش داغوبير وقال: أكان ولدهما بنتًا؟

– نعم.

– ولكن كيف عُرِف أن أصحاب القصر هم الذين أضرموا النار فيه؟

– لقد عُرِف من أمرهم أنهم جاءوا ليلًا في مركبة، فدخلوا إلى القصر وعادت المركبة إلى باريس، وكان يصحبهم ثلاثة خدم، فكان الخدم يبيتون في فسحة كبيرة تطل على الحديقة في الدور الأرضي، بحيث إنهم تمكنوا من الفرار حين شبت النار، خلافًا لأسيادهم فقد كانوا مسجونين في غرفة بابها من الحديد كما يقال، فحاول مخمدو النار فتح هذا الباب وكسره فلم يستطيعوا، فكانت النار تلتهم القصر، وأصحابه لا يفوهون بحرف.

– لكن جميع ذلك لا يثبت أنهم هم الذين قد أضرموا النار.

– بل إن هناك برهانًا آخر يثبته، وهو أنهم أرسلوا كتابًا إلى مدير الناحية كتبوا على غلافه هذه العبارة: «لا يُفتَح قبل الساعة السادسة»؛ أي بعد الحريقة، فإن النار كانت التهمت كل شيء في تلك الساعة وجعلت القصر وساكنيه رمادًا.

– وماذا كان يتضمن هذا الكتاب؟

– الاعتراف بأنهم هم الذين أضرموا النار بغية الانتحار.

ثم تحدثوا مع داغوبير هنيهة بشأن هذا السر الغريب الذي لم يتمكن أحد من حله وانصرفوا.

فعاد داغوبير إلى الفتاة فوجد أنها قد عادت إلى النوم، فتركها نائمة وذهب إلى الدير لمقابلة الأب جيروم.

فلما رآه الأب جيروم نظر إليه نظرة جفاء وقال له بلهجة المؤنب: لقد كان من عادتك أن تكون في طليعة المقدمين على إطفاء الحرائق، ولكني لم أرك اليوم معنا.

– هو ذاك يا سيدي غير أني لم أستطع الذهاب معكم هذه المرة.

– لماذا؟

وكان في الغرفة راهب آخر، فنظر داغوبير إلى الرئيس وقال له: ألتمس منك يا سيدي أن تصغي إلى حديثي، وأن تأذن لي بمحادثتك على انفراد.

فأشار الرئيس إلى الراهب فانصرف، وعند ذلك أخبره داغوبير بذلك الفارس الذي جاءه قبل الفجر، وأعطاه الخاتم ووضع على الطاولة محفظة الأوراق المالية.

فأخذ الرئيس الخاتم وما لبث أن تمعن فيه حتى اصفر وجهه، واضطربت أعضاؤه فقال لداغوبير: أين هو هذا الفارس؟

– لقد سافر وأودع عندي الفتاة.

– ألم يقل لك متى يرجع؟

– إنه غير عازم على الرجوع يا سيدي، لكنه قال لي إنك متى رأيت شعار الخاتم تعلم كل شيء.

فزاد اضطراب رئيس الدير وقال: لكن لماذا غادر الفتاة عندك؟

– كي أودعها عندك.

– عندي أنا؟

– نعم.

فجعل الأب جيروم يقلب الخاتم وينظر فيه متمعنًا إلى أن عرفه، فقال: اللهم عفوك، فقد أنرت قلبي بنور السكينة، فنسيت كل ما في الوجود.

ثم نظر إلى داغوبير، وقال له: أين هي الفتاة؟

– عندي وهي نائمة في سرير أمي الآن.

– أرآها أحد عندك؟

– كلا.

– إذن عد إلى دكانك واحرص كل الحرص على هذه الفتاة، ثم عد إليَّ بعد ساعة فإني في حاجة إلى الانفراد والتفكير.

فانحنى داغوبير وانصرف.

أما الأب جيروم فإنه أخذ المحفظة فوضعها في جيبه، وذهب إلى هيكل الكنيسة فأنار شمعة في حين أن شعاع الشمس كان يملأ الكنيسة أنوارًا وأقفل الباب كي لا يدخل إليه أحد.

ثم أخذ يفحص الخاتم وكان كبيرًا ضخمًا تبلغ استدارة فصه حجم الدينار، وهو ينفتح فينجلي عن مكان يسع الفولة الكبيرة.

ففتحه فوجد في داخله ورقة بيضاء مطوية طيات كثيرة، فاضطرب قلبه وانصب العرق من جبينه وقال: رباه! إني اعتزلت العالم ولكنه لم يعتزلني، وأردت الانقطاع إلى خدمتك ولكن الذين أحبوني من قبل أبوا إلا أن يكدروا صفو اعتزالي.

ثم ركع وجعل يصلي، حتى إذا أتم صلاته فتح تلك الورقة المطوية ونظر فيها فإذا هي بيضاء لا كتابة فيها.

غير أنه يعلم سر الكتابة المخفية التي كانت شائعة في ذلك العهد، فأدنى الورقة البيضاء من نور الشمعة وصبر قليلًا، فظهرت كتابة دقيقة بحروف سوداء، فقرأ فيها ما يأتي:

عزيزي موري

أول ما أبدأ به سؤالك المعذرة عما أُثقل به عليك بعد انقطاعك عن العالم وانصرافك إلى خدمة الله، وإنما كتبت لك هذه السطور لما كنت أخشاه من استحالة الاجتماع بك.

لقد مضى على افتراقنا أيها الصديق عشرون عامًا، ولكن مهما بلغت من العزلة والانقطاع إلى الله، فإنك لا تنسى ذلك الصديق القديم.

ألم نحب حبًّا واحدًا ونتعذب عذابًا واحدًا، غير أنك لجأت إلى الدير فأمنت الشقاء وبقيت أنا عرضة للعواصف.

وها أنا آتي اليوم إلى أخي بالسلاح، ذلك الصديق القديم الذي اتشح الآن بثوب الرهبان فأقول له: هلم أيها الأخ لمساعدة أخيك، تعال أيها الصديق لنصرة صديقك.

إنك أردت أن تنسى الماضي فهربت منه ولكنه تبعك، وأنا الآن أسألك أيها الصديق، باسم الصداقة القديمة وباسم تلك التي أحببناها سوية أن ترأف بهذه الفتاة التي لا نصير لها سواي في هذا الوجود، ولكن حين تقرأ هذه السطور أكون قد برحت هذه البلاد فلا يبقى للفتاة سواك.

إني مسافر إلى البلاد الأميركية، ولا أعلم إذا كنت أعود منها، أما هذه الفتاة التي أستودعك إياها فإن جميع الناس يعتقدون أنها ميتة، وهذه خير وسيلة لإنقاذها من الموت.

إنك سترى بعد ساعة على بعد ثلاث مراحل من الدير الذي تقيم فيه قصرًا يحترق لا يدركه أهل النجدة إلا وقد التهمته النار.

وغدًا يقول الناس الذين شاهدوا الحريق إن صاحب هذا القصر وامرأته وابنته البالغة من العمر تسعة أعوام قد ماتوا بالنار، فدعهم أيها الصديق يقولون هذا القول ولا تكذِّب موت الفتاة، فإنها تلك الفتاة التي ائتمنتك عليها وهي «ابنتها»، ولا حاجة لي أن أخبرك بشقاء تلك الأسرة، التي طالما أخلصنا لها وسفكنا في سبيلها دمنا، فإنك خبير به مثلي.

والآن فقد أرسلت لك ما بقي معي من المال لتنفقه على تربية الفتاة، فإذا بلغت العشرين من عمرها وعدت من البلاد الأميركية أتولى أنا أمرها وتكون مهمتك قد انقضت.

أما إذا لم أعد، فلا بد لك عند بلوغها هذا السن أن تذهب إلى ذلك المنزل الذي كنا نقيم فيه معًا في باريس حين كنا من الحراس.

وهناك تدخل إلى الغرفة التي كنا نبيت فيها، فتبحث وراء المدخنة وتزيل قشر الجدار فتجد رخامة فتزيلها فتنكشف لك عن شبه خزانة تجد فيها صندوقًا، وهذا الصندوق يحتوي على ثروة هذه الفتاة الطائلة، وتجد فيه أيضًا كتابة تنبئك عن اسمها.

هذه هي المهمة التي يعهد إليك بقضائها صديقك القديم راوول دي مواليبير، الذي كان أخاك بالسلاح حين كنت تُدعى أرنو دي نوفوازي.

راوول

فلما أتم الأب جيروم تلاوة هذا الكتاب ضم يديه وقال: أيتها التذكارات الماضية المؤلمة، لقد حسبت أني نجوت منك وأنك لا تجسرين على العودة إليَّ من أبواب هذا الدير.

ثم تنهد وقال: إذن قد ماتت تلك الحبيبة.

وركع فقال: اللهم إني ألتمس لها الرحمة، وأسألك العفو عن هذا الالتماس.

ولبث حينًا طويلًا وهو راكع يصلي، حتى إذا فرغ من الصلاة نهض وقد أشرق وجهه بنور البشر كأنما الصلاة قد أزالت اضطرابه، فأخذ ذلك الكتاب وقد عاد إلى لون البياض وزالت الكتابة عنه بعد ذهاب تأثير النور، فطواه وأعاده إلى الخاتم. ثم أطفأ الشمعة وخرج من الهيكل إلى باب الدير وهو يبارك الرهبان الذين كانوا ينحنون له بملء الاحترام حين مروره بهم، فلما خرج من باب الدير ذهب توًّا إلى دكان الحداد.

أما داغوبير فلم يكن يشتغل في ذلك الحين، بل كان واقفًا عند باب دكانه ينتظر بفارغ الصبر أن يدعوه الرئيس.

فلما رأى الرئيس داخلًا إليه اصفر وجهه، ولم يجسر أن يسأله عن شيء.

فقال له الأب جيروم: أين هي الفتاة؟

فأجابه بصوت مضطرب: إنها فوق، في الغرفة.

– ألا تزال نائمة؟

– نعم.

فصعد الرئيس السلم المؤدي إلى تلك الغرفة، وتبعه داغوبير وقلبه يخفق خفوقًا شديدًا، فإن قلبه ما حن في حياته على أحد حنوَّه على هذه الفتاة.

ووصل الرئيس إلى الغرفة فوقف عند بابها كأنه لا يجسر على الدخول، ثم مشى إلى ذلك السرير الذي كانت نائمة عليه وهي لا تزال تبتسم وتحلم خير الأحلام.

فما لبث أن تمعن في وجهها الصبوح حتى تجهم وجهه.

ولعله رأى أن البنت تشبه الأم فاضطرب هذا الاضطراب، ولكن عواطف الكاهن انتصرت على عواطف الرجل، فأشار إلى داغوبير كي يدنو منه، ثم قال له همسًا: لعلك تشفق على هذه الفتاة وتريد لها الخير؟

– إني أسفك دمي من أجلها.

– إنك رجل طاهر القلب يا داغوبير، ورجائي أن تقضي المهمة التي انتدبتك إليها بشأن هذه الفتاة.

فارتعش داغوبير وقال: دون شك يا سيدي فمر بما تشاء.

– إن هذا الفارس الذي جاءك بها وقرع باب الدير دون فائدة يجهل بلا شك نظام الدير، ولكنك تعلم أن النساء لا يدخلن إلى ديرنا ولو كن في عهد الحداثة.

– نعم يا سيدي إني أعرف هذا النظام.

– ومع ذلك فإن هذا الفارس الذي بعُد الآن عنا وقد لا يعود عهِد إليَّ بالعناية بهذه الفتاة، وسافر وله بي ملء الثقة، فهل تجد نفسك خليقًا بأن تحبها كما تحب أختك لو كان لك أخت؟

– دون شك يا سيدي، بل أحبها كما أحب نفسي وأحنو عليها حنان الأمهات على الرضيع.

– أتتعهد بحمايتها وبالدفاع عنها حين الاقتضاء؟

– لقد قلت لك يا سيدي، إني منذ بضع ساعات لم أكن أعرفها أما الآن فإني أسفك دمي من أجلها.

– إذن فاعلم الآن أن منزلك قد بات منزلها، فإني عهدت بها إليك.

ثم أعطاه محفظة الأوراق المالية والخاتم، فأشار إلى الموضع الذي يفتح في الخاتم وقال له: إني أصبحت كهلًا عرضة للموت في كل حين، فإذا مت فافتح هذا الخاتم تجد فيه ورقة مطوية، تبدو لك لأول وهلة أنها بيضاء لا كتابة فيها، فإذا عرضتها لحرارة شمعة ظهرت الكتابة جلية وقرأت جميع ما تحتويه، فعلمت أنه لا بد لك من السفر في خدمة الفتاة إذا كنت في ذلك الحين فارقت الحياة.

فأخذ داغوبير المحفظة والخاتم فوضعهما في خزانته؛ حيث يضع ما يقتصده من الأموال وعاد إلى الرئيس.

فقال له الرئيس: ليس هذا كل ما أطلبه إليك، فإن بعد ثلاثة أيام يتفق عيد القديس هيبرت فيحضر كثير من النبلاء لزيارة هذا الدير، ويزورك بعضهم لتجديد نعل أفراسهم، فيجب أن تخبئ الفتاة لبعد رجوعهم ولا تدع أحدًا منهم يراها حتى الرهبان.

فأجابه داغوبير بملء البساطة: إن إخفاءها يا سيدي ثلاثة أو أربعة أيام قد يكون من الممكنات، أما إذا كنت تريد أن أبقيها عندي فلا أستطيع إخفاءها عن عيون الناس لزمن طويل.

– ولكننا من الآن إلى انصراف الزائرين نجد وسيلة نتجنب بها فضول الناس وتساؤلهم على إبقائها عندك، فهل لك أقرباء؟

– لم يبقَ لي غير عمة في شاتونيف.

– إذن قل إنها ابنتها فتقطع ألسنة الفضول.

وكانا يتحدثان همسًا تجنبًا لإيقاظ الفتاة، غير أن الفتاة تحركت في مضجعها فقال له داغوبير: إنها بدأت تستيقظ.

فأخذ الأب جيروم يدها بيد تضطرب فلثمها، وخرج مسرعًا من تلك الغرفة كأنه قد ارتكب جريمة بتقبيل يد تلك الفتاة، لفرط التشابه بينها وبين أمها.

وعند ذلك فتحت عينيها، فلم تجد أمامها غير داغوبير فجعلت تنظر إليه وهي تبتسم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤