عصر الغزاليِّ
كان القبس الإلهي الذي أضاء الجزيرة العربية في منتصف القرن السادس للميلاد أكبر بعث فكري عرفه التاريخ.
فقد أضيف به إلى التراث الإنساني مادة سماوية امتزجت بالقلوب والعقول والأرواح امتزاجًا أنساها الدنيا هنيهة؛ فأقبلت على هذا القبس تستلهمه وتسترشده وتبصر الدنيا على هداه.
وهيمن هذا القبس هيمنة تامَّة على مقومات الحياة في المجتمع الجديد؛ فمن هذا القبس كان التفكير، وكانت طرائق البحث والجدل.
واندفع هذا الشعاع الإلهي يقيم حضارة روحية معطرة القلب والفكر والعمل بعطر ديني خالص على سواه من أنفاس الحياة وبواعثها.
وحمل بدو الجزيرة هذا القبس إلى العالم، يزاحمون برايته مناكب أمم أشد قوة وبأسًا، وأعرق حضارة وغرسًا.
ثم هدأت فورة البدو، وانتشر الشعاع مشرقًا ومغربًا، ودانت بالنور أممٌ وشعوبٌ تهافتت على المورد العذب تنهل وتتعلم، ثم تحمل الراية.
ثم قامت الدولة العباسية في المشرق فكانت عجبًا؛ كانت انقلابًا كاملًا للمجتمع الجديد: فهي دولة عربية اللسان، فارسية اللون، عالمية التفكير، كانت انقلابًا جديدًا ووجهًا جديدًا للحضارة الإسلامية والتفكير الإسلامي، فإن كان عصر الأمويين عصر قرآن وتسليم وإيمان، فقد كانت عصرًا عربيًّا خالصًا.
أما هذا المجتمع العباسي، فهو مزاج عجيب من أممٍ شتَّى، تجمعها عقيدة واحدة، وتفرقها ألوان من التفكير، وألوان من التاريخ، وألوان من الحضارات، وألوان من الوراثات.
وابتدأ هذا المجتمع الجديد يجذب إليه العقول من أطراف المشرق، تهرع إليه لتهتدي بهدي قرآنه، أو لتلتمس العيش في آفاقه ورحابه.
فلم يكن بدعًا أن يتفجر من هذا المجتمع أعجب مزاج فكري في تاريخ الفكر والإنسان، ابتدأت أقلام العلماء من أبناء فارس والروم واليهود تنقل كنوز الفرس والإغريق والهنود في سرعة وحماس، يزكيهما إقبال الجماهير وتأييد الولاة، كما ظهر على أطراف الحياة الإسلامية فلاسفة إسلاميون تتلمذوا على اليونان والإغريق، وأضافوا إلى تراثهما المعارف الإسلامية الجديدة.
وامتدَّ تأثير هذا البعث السريع المتلاحق إلى الحياة الفكرية عامة؛ فترك طابعه على الآداب العربية، كما تأثر به رجال الفقه والرواد الكلاميون، فإن المعتزلة — وهم طلائع الكشف الفكري في الإسلام — يدينون لفلسفة اليونان بأكثر ألوان الجمال المشعة في منطقهم وحججهم.
ثم تلا عصرَ الترجمة عصرٌ تلاطمت فيه المعارف الجديدة؛ فنشأ عنها وجوه مبتدعة من التفكير والبحث والتأمل، وتميَّز العصر الجديد بسماحة كاملة وحريات تامَّة، عصر انتفت منه العصبية الفكرية الحساسة الغيور، وسادتْه إباحة مشرقة تشعر بحاجتها إلى الاستزادة من المعارف، وتحسُّ ظمأً ملحًّا إلى تلك الآفاق المجهولة التي تتفتح أمامها من مشارق الأرض ومغاربها.
فما انتصف القرن الخامس الهجري، أو ما يسمونه بالعصر العباسي الثالث، حتى كانت الدولة العباسية أمة مترفة الفكر، مترفة المزاج، مترفة البحث الحر.
كان للعصر العباسي الثالث طابع الإسراف في التفكير وجموح الخيال؛ بل لقد انقلبت وجوه الإسراف إلى بلبلة عجيبة وعرض عجيب للمِللِ والنِّحَل والمذاهب.
مجتمع عجيب! امتلأت حقائب تاريخه بمئات من الشيع والفِرق والمذاهب الدينية والفلسفية والكلامية؛ حتى لقد أصبح لكل لسانٍ ذَرِبٍ مذهبٌ خاص به، ولكل قلم ممتلئ أمة فكرية تتبعه.
كان العلماء فيه أشبه بالثوار في عصور الفوضى، في كل قرية ثائر، وفي كل طريق فارس ملثم أو سافر.
وكان لا بدَّ لتلك الأمواج من المذاهب والنِّحَل والشيع أن تطغى وأن تثور، وكان لا بدَّ لها أن تتقاتل وتتطاحن، وكان لا بدَّ لها أن تملأ الدنيا دويًّا وزلزالًا، ومن ثَمَّ شهد هذا المجتمع أعنف حربٍ فكرية في التاريخ.
وهل هناك مِن عجبٍ إذا رأينا سلطان الدين يضعف ويتوارى؟ وهل هناك مِن عجبٍ إذا رأينا المذاهب الفلسفية تسود، ورأيناها أيضًا تجمح وتغرق في سبحاتٍ فكرية عجيبة الألوان والظلال، وتأملاتٍ روحية غريبة شاذة متنافرة غير متماسكة.
وأحسَّ رجال الدين بالخطر، وأحسوا أكثر من ذلك بأن سلطانهم الديني مهددٌ بالزوال؛ بل لقد شاهدوا تاج القداسة يفارق رءوسهم في قفزة سريعة ليختال في نوره رجال لا يعترف رجل الدين إلا بزندقتهم، رجال في طليعتهم الفارابي وابن سينا، ومن شبه الفارابي وابن سينا.
أحسَّ رجال الدين بالخطر؛ فأشعلوا أصابعهم نارًا، وأطلقوا أقلامهم بروقًا، ولكنَّ النار نالت منهم أكثر مما نالت من خصومهم، ولعل مِن أكبر أسباب الفشل في ثورتهم ما كانوا فيه من تفرق، وما كان بين طوائفهم من خصومة ولدد، فقد كان لكلٍّ منهم عصبية وأنصار، وكان هؤلاء الأنصار يتطاحنون ويتمزقون؛ فالحنفية تناهض الشوافع في المشرق، والمالكية تطرد ولا تطيق سواها في المغرب والأندلس، والحربُ غير خافية بين الأشعرية والمعتزلة، وبين الباطنية والسُّنة.
وفي هذا المحيط الغريب الثائر، وبين تلك الحرارة العلمية نشأ الغزاليُّ؛ فكانت نشأته على هامش بركان، وكانت معارفه ملتهبة حارة؛ لأنَّها وُلدت بين اللهب.
درس الغزاليُّ كل ما في عصره من خير وشر، ولم يهيئ نفسه في مطلع حياته لفنٍّ من الفنون؛ بل اندفع في زحام الفكر جبارًا متوغلًا غير هيَّاب ولا متحفظ.
ثم انطوى على نفسه، وقد شكَّ في حقيقة كل علم، كما شكَّ في أهداف الفِرق والنحل والمذاهب.
شاهد الغزاليُّ أن الإسلام قد انتقل من القلوب إلى العقول، فانقلب إلى ملاحاة منطقية لفظية، ومجادلات فقهية جامدة.
كما شاهد المذاهب السياسية وقد تقنعت بستار الفلسفة تارةً وبستار الدين تارة أخرى، فإن خلصت من هذا وذاك فهي لم تخلص تمامًا من ميراث اليونان الوثني، أو من سبحات الأفكار المضللة.
فأرسل الغزاليُّ صيحة قديمة جديدة؛ قديمة لأنَّها صحية الإسلام في الجزيرة العربية منذ قرون، وجديدة لأنَّها دوت في مجتمع أوشك — وقد غرق في بحور الجدل والسفسطة — أن ينسى رحيقه الأول.
كانت قوة الغزاليِّ التي خلدته كحجة للإسلام، أنه استطاع أن يقف تلك التيارات المتدافقة من المحاورات الفلسفية والمناظرات الجدلية والمنازعات الفقهية، وأن يجعل القوة الإسلامية المناهضة لتلك الزوبعة تتركز فيه، وتتمثل في تعاليمه وصيحاته المستمدة من الكتاب والسنة.
كان أشبه بزعيمٍ وطني نبت في شعب ممزق متخاذل واهي الروح؛ فوحَّد صفوفه، وجدَّد روحه، وأحيا إيمانه.