القدرية والتوكل
فكرةُ القضاء والقدر إحدى مشاكل الشرق الكبرى، وقد خُدع كثير من عوام المسلمين بها، كما نسبها إلى الإسلام ظلمًا كثيرٌ من الأوربيين.
والغزاليُّ في نظر الجماهير الإسلامية في عصرنا وفي العصور السابقة إمامٌ من أئمة المنادين بالتوكل والقدرية؛ لأنَّه إمام من أئمة التصوف والصوفية.
والغزاليُّ بريء من هذا براءة الإسلام منه، وإنما نشأت تلك العقيدة من تطرف بعض الصوفية، ومن سبحات أقلامهم بكلمات تبرق فتخدع مَن لا يعرف حقيقة الإسلام، وحقيقة دعوته إلى العمل والحياة والقوة والكفاح.
من الخطأ أن يُظنَّ أن معنى التوكل ترك الكسب بالبدن، وترك التدبير بالقلب، والسقوط على الأرض كالخرقة الملقاة وكاللحم على الوَضَمِ؛ فهذا ظنُّ الجهَّال.
لأنك إن انتظرت أن يخلق الله فيك شبعًا دون الخبز، أو يخلق في الخبز حركة إليك، أو يسخر ملكًا ليمضغه لك ويوصله إلى معدتك؛ فقد جهلت سنة الله، وكذلك لو لم تزرع الأرض وطمعتَ في أن يخلق الله نباتًا بغير بذر، أو تلد زوجتك بغير وقاع، فلا يجوز لك ترك الأسباب، كما يجب أن تعلم أن مسبب الأسباب هو الله تعالى.
تلك هي الكلمة القوية التي نفى بها الغزاليُّ تهمة التوكل عن مبادئه، وبالتالي عن مبادئ الإسلام.
ومن عجبٍ أن الأمثال أصبحت تضرب بالغزاليِّ إذا ذكرت مذاهب القدرية، ومذاهب المتوكلين الخاملين المتهالكين على الكسل والراحة باسم الدين والقدوة الصالحة.
بل أعجب من هذا أن أقلام الكتَّاب الذين كتبوا عن الغزاليِّ قد جارت العوام والجمهرة من الناس، فنسبوا إلى الغزاليِّ ما يبرأ منه وما يبرأ منه الإسلام.
ووجه الشبه عند هؤلاء وهؤلاء: هو ما تزخر به كُتب الغزاليِّ من ذِكر الصوفية وأخبارهم، وما في قصصهم من توكل مطلق.
وقد أوضحنا أن الغزاليَّ يكتب هذا القصص للصوفية فقط، وأنه يقرر أن الصوفية مذهب خاصٌّ لا عام، وأن فكرتهم لو سادت لفسد العالم وبطلت الحكمة منه.