الغزاليُّ وتفسير القرآن
كتاب «جواهر القرآن» للغزاليِّ يدلُّ دلالة واضحة على إيمان الغزاليِّ العميق بأن القرآن مصدرٌ كامل لعلوم الروح والبدن والطبيعيات والفلكيات والنباتات، بل وعلوم الآلات بسائر فروعها.
ولهذا فإنه يجب على مفسِّر القرآن أن يكون محيطًا بكل هذه العلوم حتى يؤدي أمانة التفسير كاملة.
فإذا قال القرآن مثلًا: يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ، فلا يفسِّر هذه الآية التفسير الكامل المراد منها إلا مَن عرف تشريح الأعضاء من الإنسان ظاهرًا وباطنًا، وعددها وأنواعها وحكمتها ومنافعها … إلخ.
وإذا تعرَّض لقوله تعالى: فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي، فكيف يفسر تلك الآية مَن يجهل التسوية والنفخ والروح وأسرارها؟!
وإذا قال القرآن: الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ، وقال: وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ، وقال: وَخَسَفَ الْقَمَرُ * وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ، وقال: وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا، فلا يعرف حقيقة الشمس وسيرها وأبراجها ومنازلها، والقمر ودوراته، وخسوفهما، وولوج الليل في النهار، وكيفية تكوُّر أحدهما على الآخر؛ إلا مَن عرف هيئات تركيب السموات والأرض، وهو علم تتفرع منه علوم.
أما آية: وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ، فهذا الفعل الواحد لا يعرفه إلا مَن عرف الطب بكماله وأحاط بدقائقه وأسراره.
وتلك دعوة صريحة من الغزاليِّ إلى الإحاطة التامَّة بالعلوم كافة، وهي تنفي تهمة إهمال العلوم العقلية التي نُسبت إليه؛ فهو يقرر أن مفسِّر القرآن لا بدَّ وأن تتوفر فيه القدرة الكاملة على تفهم العلوم العقلية قبل الشرعية، حتى يستطيع أن يتفهم أغراض القرآن، ويستطيع أن يبرز للعالَم ما فيه من عظمة وجلال وعلوم ومعارف.
ويقول الغزاليُّ بعد أمثلة كثيرة شاملة: «ولو ذهبتُ أفصِّل ما تدلُّ عليه آيات القرآن الكريم من تفاصيل وعلوم لطال الأمر وتشعَّب، فتفكرْ في القرآن والتمسْ غرائبه؛ لتصادف فيه مجامع علوم الأولين والآخرين.»
الغزاليُّ وصفات التشبيه والتجسد
يقول الغزاليُّ: إن الإنسان لا يحتمل الحقائق الروحية إلا مصبوبة في قالب الأمثال الخيالية، ومن هنا نفهم ما ورد في القرآن من آيات الصفات والتجسد.
فهي آيات للتقريب والفهم، لا للدلالة على صور وصفات، وبذلك ينفي الغزاليُّ صفات التشبيه، ويقرر أن إدراك ذلك إنما يكون بإدراك المناسبة بين عالمنا وعالم الروح، فالمثال الجسماني مندرج تحت المعنى الروحاني.
ويضرب لذلك مثلًا بالمنامات، وهي جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة، وكيف تكشف حقيقتها بأمثلة خيالية.
فقد روى بعضهم أنه شاهد في منامه أنَّ في يده خاتمًا يختم به فروج النساء وأفواه الرجال، فقال له ابن سيرين: «أنت رجلٌ تؤذن في رمضان قبل الصبح.» فقال: نعم. يقول الغزاليُّ: «فانظر ختم الأفواه والفروج بالخاتم مشاركًا للأذان قبل الصبح في روح الخاتم، وهو المنع، وإن كان مخالفًا لصورته، وقسْ على ذلك ما ورد في القرآن والأحاديث والأمثال، فإنها تشتمل على كثير من هذا الجنس.» كقول الرسول — صلوات الله عليه وسلامه: «قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن.» فإن روح الإصبع القدرة على سرعة التقليب، فإن قلب المؤمن بين الغواية والهداية، والله تعالى يقلِّب قلوب العباد كما يقلِّب الإنسان الأشياء بإصبعين، وكذلك سائر الأحاديث والآيات الموهمة للتشبيه والاستواء.
فمن عرف معنى الإصبع عرف بعد ذلك معنى القلم في قوله تعالى: عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، ومعنى اليد في قوله تعالى: يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ.
الغزاليُّ والاكتشافات العلمية
ظهر لنا بالبصيرة الواضحة التي لا يُتَمَارى فيها أن في الإمكان والقوة أصنافًا من العلوم العجيبة لم تخرج بعد من الوجود، وإن كان في قوة الآدمي الوصول إليها، وعلوم كانت قد خرجت إلى الوجود واندرست الآن، فلن يوجد في هذه العصور على وجه الأرض مَن يعرفها، وعلوم أخرى ليس في قوة البشر أصلًا إدراكها والإحاطة بها، ويحظى بها بعض الملائكة المقربين.
والغزاليُّ بهذا قد تنبأ بالمعارف الإنسانية التي نشاهدها في عصرنا ولم يشاهدها هو في عصره، والتي ستشاهدها العصور القادمة ولم نشاهدها نحن.
ونظريته في العلوم المندرسة يشهد بصحتها العلمُ الحديث والاكتشافاتُ التاريخية، فقد وُجد لدى قدماء المصريين في مقابرهم من أسرار الكيمياء وتحنيط الأجساد والحبوب، وأسرار البناء والفَلك، ما لم تهتدِ إليه المعارفُ الحاضرة.
رموز القرآن
وللغزاليِّ كتابٌ سماه رموز القرآن، ولكنَّه لسوء الحظ لم يُطبع، وأما نسخته الخطية فقد نقلها المستشرقون إلى برلين، وبذلك فقدنا الدليل الذي كنا نستطيع به أن نعرف هل استطاع الغزاليُّ أن يفسر القرآن بالشروط التي اشترطها، أم عجز عن الوفاء بما اشترط، وقد أشار غير واحدٍ من المؤرخين إلى أنَّ الغزاليَّ قد أشار في كتابه هذا إلى الكهرباء والديناميت والهواء الخفيف، ولكن ليس في استطاعتنا أن نؤكد صحة هذه الأشياء، فدليلها مفقود، وآيتها في بطون صفحاتٍ لا تزال محجوبة عن الشمس.