الغزاليُّ بين أنصاره وخصومه
أروع الناس وأتقاهم وأعلمهم من لا ينظر الناس كلهم إليه بعين واحدة، بل بعضهم بعين الرضا وبعضهم بعين السخط.
الغزاليُّ أحد مشاكل الفكر في التاريخ الإسلامي، فقد عشقه أقوام حتى رفعوه مكانًا عليًّا، لا ترقى إليه الشبهات ولا تناله النقدات، فنادوا به قطبَ العلوم الأكبر وحبر الأمة الأعظم، بل سموا به سموًّا كادوا يصلون به إلى العِصمة، وأسدلوا عليه ستارًا من الرهبة، وأطلقوا عليه شعاعًا من النور الإلهي، حتى إنهم ليقرءون كتابه «إحياء العلوم» فيجعلونه أورادًا للتبرك بعد القرآن والسنة.
وقالوا فيما قالوا: إن الصالحين منهم شاهدوا الرسول — صلوات الله عليه — في المنام يبارك الغزاليَّ، ويعاقب خصومه، ويفاخر به أنبياء بني إسرائيل، وإن موسى — عليه السلام — قال له: إنك تقول إن علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل؟ قال: نعم. قال: فما دليلك؟ قال: عليَّ بروح الغزاليِّ. فلما حضر قال له موسى: ما اسمك؟ قال: محمد بن محمد بن محمد الغزاليُّ، قال: سألتك عن اسمك فلِمَ ذكرت لي اسم أبيك وجدك؟
قال الغزاليُّ: وأنت سألك ربك عما بيمينك فقلتَ: هذه عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى، وقد سألك عما بيمينك فقط. قالوا: فحاجَّه الغزاليُّ.
ولا ريب في أن أنصاره أسرفوا وغالوا في الإسراف، كما أن خصومه قد أسرفوا وغالوا في الإسراف.
كان الغزالي يخطئ ويصيب، والشخصية الإنسانية الكاملة هي التي تخطئ وتصيب.
فلا يليق بالمغالين أن يغضبوا إذ قيل: إنَّ الغزاليَّ استقام تفكيره هنا ولم يستقم هناك؛ لأنَّهم يقدسونه ويجلُّونه عن الخطأ، وليس هكذا الإنسان.
والغزاليُّ بعدُ، لسانٌ من ألسنة الدين القوية، وحجةٌ من حججه الباهرة، ومجاهدٌ من أكبر مجاهديه، وقائدٌ من أعظم الهداةِ في القافلة، ومفكرٌ من أئمة رجال الفكر في تاريخ الفكر.
فلن نرضى من خصومه أن يسلبوه العلم أو الإيمان، ولن نرضى من خصومه أن يجردوه من المنطق والصواب، ولن نرضى من خصومه أن يهبطوا به إلى مناطق العامية والركاكة.
كان الرسول — صلوات الله عليه — يقول لعليٍّ كرَّم الله وجهه: «هلك فيك رجلان؛ رجلٌ غالى في محبتك، ورجلٌ غالى في عداوتك.»
وما أصدق تلك الكلمة على الغزاليِّ، فقد غالى قوم في محبته حتى جحدوا المنطق فأقاموا الهوى علمًا ومحجة، وغالى قوم في عداوته حتى فقدوا قداسة الإنصاف، فأضاعوا الحقيقة التاريخية، وشوهوا حقائق العِلم والهدى.
الغزاليُّ أحدث دويًّا علميًّا في جيله، وأحدث دويًّا علميًّا في الأجيال المتعاقبة، وتلك سمة الخلود، وطابع العبقرية.
والمشكلة الحقيقية ليس محورها الغزاليُّ فحسب، بل محورها ومحركها الصراع بين مدرستين والتباغض بين فكرتين، اختلفتا في المزاج والتأويل، كما اختلفتا في التعليم والتفكير.
فالغزاليُّ بعد أن برع وتفوَّق في مختلف العلوم والفنون أعرض عنها ولجأ إلى شعاعٍ من الكشف الروحي جعله محور العبادة والهداية، ومن ثمَّ أضفى على الفقه وسائر العلوم الإسلامية ثوبًا صوفيًّا شمل أصولها وفروعها، واستطاع الغزاليُّ أن يوقظ الشعور، ويلهب حرارة الروح والإيمان في الجماهير، كما استطاع أن يتزعم رجال المذاهب الصوفية، وهم قوة لها أثرها ونفوذها الضخم الساحر في التفكير الإسلامي.
وخاصم الغزاليَّ شتيت من المفكرين، على اختلاف ألوانهم ونِحلهم؛ من الفلاسفة إلى علماء الكلام، خصومةً أساسها إسراف الغزاليِّ في التمسُّك بالمظاهر الروحية، وإسراف هؤلاء في التمسك بالمظاهر العقلية.
وانضم إلى هؤلاء الخصوم بعضُ رجال الفقه؛ لأنَّ الغزاليَّ هاجمهم هجومًا عنيفًا، وزلزل مكانتهم في قلوب الجماهير زلزالًا كبيرًا إذ نادى بصوته القوي، بأن الفقيه هو العابد العامل بعلمه، لا العالم البارع في المجادلات والتخريجات.
وما أصدق ابن السُّبكي: «إن الطُّرق إلى المعرفة شتى مختلفة، وقلما رأيتُ سالكًا لطريق من الطُّرق إلا واستقبح الطريق التي لم يسلكها، ولم يفتح عليه من قبل فيها، فيضع عند ذلك من أهلها.»
وقد تعددت الكُتب والآراء التي صدرت في نقد الغزاليِّ، ولكن أشدَّ خصومه التاريخيين: ابن رشد من الفلاسفة، وابن القيِّم من المجددين الإسلاميين.
أما ابن رشد: فقد هاجمه دفاعًا عن الفلسفة وانتصارًا للفلاسفة، وهو هجوم لم يثبت على التاريخ؛ لأنَّ الغزاليَّ كان فيه نصيرًا للروح الإسلامي، وكان ابن رشد فيه صدًى لأفكار غيره من فلاسفة الإغريق وسواهم من المتأخرين.
- (١)
قول الغزاليِّ: «ليس في الإمكان أبدع مما كان»؛ فقد اعتبروا أن في تلك الكلمة ما يوهم العجز في قدرة الله تعالى.
- (٢)
وَصْفُه الرياضةَ الروحية بأنها تفريغ القلب بالخلوة، والجلوس في مكان مظلم، فإنه في مثل هذه الحالة يسمع نداء الحق تعالى ويشاهد جلال الربوبية؛ فيقول له ابن القيِّم: «وما أدراك أن ما يسمعه حينئذٍ هو هذيان روحه ووسوسة شيطانه؟! فإن الامتناع عن الأكل والاختلاء في الظلام يبعث الوساوس والجنون.»
- (٣)
تأييده لقول الجُنَيْد: إذا كان الأولاد عقوبة شهوة الحلال، فما ظنك بعقوبة شهوة الحرام؟
- (٤)
تقريره أن بعضهم بات عند السباع في البرية ليتحقق من صحة توكله على الله!
- (٥)
قوله: إن بعض الشيوخ كان يكسل في بدايته عن قيام الليل، فألزم نفسَه القيام على رأسه طول الليل؛ لتصير نفسه بحيث تجيبه إلى قيام الليل اختيارًا!
- (٦)
قوله في الإحياء: إذا طلب الرجل علم الحديث أو سافر في طلب المعاش أو تزوج؛ فقد ركن إلى الدنيا.
- (٧)
قوله نقلًا عن أبي حمزة البغدادي: «إني لأستحي من الله أن أدخل البادية وأنا شبعان، وقد اعتقدت التوكل، لئلَّا يكون شِبعي زادًا تزودت به.»
- (٨)
تقريره ما حكاه عن أبي حسن الدينوري أنه حجَّ اثنتي عشر حجة وهو حافٍ مكشوف الرأس.
هذا من أعظم الجهل لما في ذلك من الأذى للرأس والرجلين، ولا تسلم الأرض من الشوك والوعر، وكأن هؤلاء الصوفية ابتكروا من عند أنفسهم شريعة سموها بالتصوف وتركوا شريعة محمد ﷺ بجانب، فنعوذ بالله من تلبيس إبليس، فإن مثل هذه الحكايات تُفسد عقائد العوام، فيظنون أن فعله من الصواب.
وإني لأتعجبُ من أبي حامدٍ هذا كيف يأمر بهذه الأمور التي تخالف الشريعة! وكيف يحلُّ لأحد أن يقوم على رأسه طوال الليل؟! وكيف يحلُّ رمي المال في البحر فيما رواه عن الشبلي من أنه كان يرمي ما معه من الدنانير في الماء ويقول: ما أعزَّكِ عبدٌ إلا أذله الله.
كانت الزنادقة في العصر الأول يكتمون حالهم، ولم يتجاسروا على إظهار ما عندهم حتى جاءت الصوفية، فرفضوا الشريعة جهرًا وتستروا بمسمى الحقيقة، وصاروا يقولون: هذا شريعة وهذا حقيقة، وهذا من أقبح الأمور؛ لأنَّ الشريعة قد وضعها الله تعالى لصالح العباد في الدارين، فما الحقيقة بعد ذلك إلا إلقاء الشيطان في النفس، وقد تمادى هؤلاء الجهلة في غيِّهم حتى صار أحدهم يقول: حدثني قلبي عن ربي، وذلك تصريح بالاستغناء عن بعثة الرسل وهو كفرٌ، وهي حكمة مدسوسة في الشريعة تحتها هذه الزندقة، ولكن قد صار الخروج عن الشريعة كثيرًا بالسكوت على هؤلاء الجهَّال الذي سموا أنفسهم بالصوفية.
تلك هي خلاصة التهم التي وجهت إلى الغزاليِّ، وتلك هي خلاصة الأقوال العنيفة التي وجهها إليه خصومه.
وهذا التراث الضخم الذي تركه الغزاليُّ، وهذه الخصومة العنيفة التي أثارها ما كان ينبغي لها أن تمرَّ دون أن يجد خصومه في آثاره ما يمسكونه به، وما يأخذونه عليه.
ولا جدال في أن الغزاليَّ قد أسرف على نفسه، وأسرف على قرائه بتلك السبحات الصوفية التي تدلُّ ظواهرها على ما يخالف ظواهر الشريعة الإسلامية.
ولا جدال أيضًا في أن الغزاليَّ كان يعلم حقيقة الشرع أكثر مما يعلم خصومه، وأنه كتب ما كتبه لفئة معينة من رجال التصوُّف ألزموا أنفسهم بألوان من العبادات والطاعات معينة، وحالات الإلزام الشخصية الاختيارية لا اعتراض عليها ما لم تؤدِ إلى الضرر العام.
ولكن قرَّاء الغزاليِّ وخاصة الجماهير لا تستطيع أن تميِّز بين ما أراده الغزاليُّ للصوفية وبين ما يكتبه للناس جميعًا.
وقد دافع عن الغزاليِّ فريقٌ من أنصاره وأتباعه دفاعًا قويًّا، فوضع السيد مرتضى كتابه «إتحاف السادة» فنَّد فيه جميع تلك التهم تفنيدًا لا يخلو من إسرافٍ في الدفاع عن الغزاليِّ، وتبرئته من كل خطأ.
ولا يسعنا إلا أن نكرر أن الغزاليَّ كان يخطئ ويصيب، والشخصية الإنسانية الكاملة هي التي تخطئ وتصيب، وتلك الهنَّات لا تعدُّ شيئًا بجوار ما أسدى الغزاليُّ إلى العالَم الإسلامي، وإلى الفكر الإسلامي، من تراث انتفعتْ به الأجيال والقرون انتفاعًا هداها إلى خيرٍ ورشادٍ وعبادةٍ وإيمانٍ أكثر مما هداها خصومه وحساده، بل أكثر مما هداها أيُّ قلمٍ آخر من الأقلام التي شرعت للهدى والإيمان.
خصومه المعاصرين
ذلك لونٌ من ألوان خصومة القدامى للغزاليِّ، وقد امتدت تلك الخصومة على التاريخ، ولبست ألوانًا مختلفة، حتى أسلمتها الأحقاب إلى عصرنا.
فرأينا خصومًا جُددًا فيهم عنفٌ ولدد، أخذوا يحاكمون الغزاليَّ إلى مبادئ العصر الحاضر ونظمه ومعارفه، وشرعوا يحكمون على روحانيته بماديتهم، فما أنصفوا أنفسهم وما أنصفوا الغزاليَّ معهم!
قالوا عنه: إنه رجلٌ يحمل أكفانه على عاتقه، ولا ينفكُّ لسانه عن الدمدمة بالعقاب والحساب، والجنة والنار، والعبادة والفناء، وليس هذا من مذاهب الحياة المثلى، ولا من طرائق المجد للإنسانية التي تبغي قوة وبأسًا.
وقالوا: إن الغزاليَّ مزج الدين بالآخرة، فحشد في كلماته أنفاس الجحيم؛ ليسوق الناس بالرعب والخوف، وجمع في قلمه هبات الجنة ليدفع بالبشرية إلى الطاعة بالرغبة والتشويق، وليس في هذا فوزٌ كبير للأخلاق، ولا فوز كبير للدين؛ لأنَّه مسلك بعيد كلَّ البعد عن الإقناع العلمي والبرهان المنطقي.
وقالوا فيما قالوا أيضًا: إن الغزاليَّ أجهل الناس بقواعد العلم وفلسفة الحكماء؛ لأنَّ العلم عنده طاعة وعبادة، فمن خشي الله فهو عالم، ومن عصاه فهو جاهل، وبهذا أخرج الغزاليُّ من صفوف العلماء والحكماء أئمة الفكر والابتكار والاختراع.
وليس في هذا ما يضير الغزاليَّ أو يمسُّ مكانته، فقد قرأ هؤلاء النقاد كتب الغزاليِّ كما تقرأ الكتب الحديثة، فنقدوها كما تُنقد المؤلفات العصرية، ووزنوها بموازين المكتشفات العلمية الجديدة دون أن يلتفتوا إلى القرون التي تفصل بيننا وبين الغزاليِّ، ودون أن يقارنوا بين روح عصره وطابع عصرنا، بل لعل الخطأ الأكبر أنهم نقدوه بروح العلم المادي، وهو يحمل بيمناه قلم الدين الروحي.
وما أصدق قول الغزاليِّ في الدلالة على هذا المعنى: «مهما سمعت أمرًا غريبًا من أمور الدين جحده أهلُ الكياسة في سائر العلوم، فلا ينفرك جحودهم عن قبوله؛ إذ محالٌ أن يظفر سالكُ طريقِ الشرق بما في الغرب.»
أجل لقد سلك الغزاليُّ طريقًا، وسلك نقَّاده طريقًا آخر، فلم يلتقيا ولم يأتلفا ولم يتفاهما؛ لأنَّه محالٌ أن يظفر سالكُ طريقِ الشرق بما في الغرب.
الغزاليُّ رجلُ دين، وفيلسوفٌ من فلاسفة الروح والقلب، فلا توزن معارفه إلا بموازين الدين، ولا يقاس تراثه إلا بالأقيسة الروحية القلبية.
ومَن أراد أن يفهم الغزاليَّ فلا بدَّ أولًا أن يتذوق سعادة الطاعة والعبادة، وسعادة الإيمان اليقيني وسعادة السلام الروحي، ولا بدَّ أن يؤمن بأن خالق الأكوان يراقب خلجات نفسه، وخلجات قلبه ووجهات أعماله، وأنه إذا لم يكن يرى الله فإن الله يراه.
من أراد أن يتذوَّق الغزاليَّ فليؤمن إيمان الغزاليِّ، أو فليحترم تلك المُثُل العُليا التي فني فيها الغزاليُّ، ورصد قلبه وقلمه لها، وبدون هذا الإيمان، وبدون هذا الاحترام لن يفهم أربابُ الأقلام سحرَ الغزاليِّ، وعبقريتَه وتراثَه.