مُجدِّد القرن الخامس
عن أبي هريرة: أن الله تعالى يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة مَن يجدد لها أمرَ دينها.
وقد اتفق علماء التاريخ على أن مجدد المائة الأولى عمر بن عبد العزيز، والمائة الثانية الإمام الشافعيُّ، والثالثة الإمام الأشعريُّ، والرابعة الباقلَّانيُّ، والخامسة حجة الإسلام الغزاليُّ.
والإسلام شريعة أحكمت وفصِّلت آياتها وبُيِّنت للناس، فالمجدِّد الإسلامي والمصلِح الإسلامي إذن ليست رسالته أن يبتدع جديدًا، أو يبتكر تكملة، أو يأتي بوحي من عنده.
وإنما تجديد الدين يراد به: تجديد النفوس الإسلامية، وتبديد الترهات والجهالات التي تكون قد تراكمت في القلوب والعقول.
والله سبحانه الذي تعهد الخلقَ بالرسالات هدًى ونورًا، كلما ضلَّلتهم قوى الشر، وعبثت بهم أهواء النفوس، هو الذي يمنُّ على عباده بهؤلاء الملهمين المجددين الذين يسيرون على أضواء النبوات وأشعة الرسالات.
وقد كان عصر الغزاليِّ من العصور التي تهيأت لعبقري وثَّابٍ من عباقرة الروح والإيمان؛ ليكافح تلك المادية الدنيوية الطاغية، وتلك المذاهب الفكرية التي تسبح في ضبابٍ من الظنون والتخمينات، تدفع إلى الفروض والإباحية كما تدفع إلى الضلال والجحيم.
وجاء الغزاليُّ فكأن الإسلام يستقبل به عصرًا جديدًا، واستمعت النفوس إلى ألحانه فكأنها تستمع إلى ألحانٍ جديدة تهبط من هدي جديد.
جدَّد الغزاليُّ للناس إيمان القلوب، ذلك الإيمان الصافي المتجه إلى إلهٍ يدركه العلماء والحكماء والعامة.
وبعث الغزاليُّ في النفوس عقائدَ التوحيد الخالصة معطرة بعطر كأنها هبات الجنة ونفحات النعيم، وأضفى على التفكير الإسلامي نورًا من المحبة والصفاء والاطمئنان، والتوجه إلى الله توجهًا كاملًا لا تشوبه رذيلة من رذائل الفكر، ولا نقيصة من نقائص القلب، ولا جريمة من جرائم البدن، ولا سيئة من سيئات الأذى للناس.
كان تفكيره يلتمس هديه أبدًا من السماء، وكانت أعماله مطبوعة أبدًا بطابع الإيمان، وكانت دعوته صريحة واضحة لا جدل فيها ولا رياء، ولا تعقيد ولا التواء، وإنما إيمانٌ بخالقٍ واحد ما من نجوى بين المرء وقلبه إلى وهو شاهد عليها، ولا من همسة بين صديقين إلا وهو عليم بها، وما من جارحة من جوارح البدن تعمل عملًا في ضحوة النهار أم في سِتار من الليل إلا وهو شاهدها ومحاسِب عليها، إنْ خيرًا فخير، وإنْ شرًا فشر.
وهذا الميزان الدقيق لأمور الحياة هو دستور الغزاليِّ، وهو عماد دعوته إلى الخير والهدى والسلام.
وتراث الغزاليِّ ليس نزوة من نزوات النفس، ولا خاطرة من خواطر العقل، فيذهب بذهاب جيل ويفنى بمرور عصر من العصور، بل هو خلاصة جهاد القلب والعقل، ووحي الروح والإلهام، وفيض ونور من النبع الخفي، نبعِ العباقرة الأفذاذ.
يقول الدكتور زويمر: «كلُّ باحث في تاريخ الإسلام يلتقي بأربعة من أولئك الفطاحل العظام وهم: محمدٌ النبيُّ، والبخاريُّ، والأشعريُّ، والغزاليُّ.»
وتلك كلمة حقٍّ، فالغزاليُّ بلا ريب أحدُ الذين شيدوا هيكل الفكر الإسلامي، وأقاموا دعائمه وأسسه على الهدى ودين الحق.
ولعلَّ الغزاليَّ أكبر أصحاب المذاهب الفكرية وأبعدهم أثرًا في التوجيهات الإسلامية، ومرجع هذا تلك القوة الخفية الكامنة في شخصيته المهمة، والتي استحوذ بها على أذهان الجماهير في عصره والقرون المتتابعة.
فالأشعريُّ مثلًا استطاع أن يبتدع مذهب الأشعريَّة فأحدث بتعاليمه وثبة فكرية، ولكنها وثبة بين طائفة معينة من رجال الفكر وعشَّاق علم الكلام، ولكنَّ أثره لم يتعد تلك الدائرة الخاصة، ولم يتسلسل في ضمير التاريخ نورًا وخلودًا.
أما الغزاليُّ فكان أشبه بزعماء الجماهير وقادة الشعوب، كان تأثيره السحري عامًّا شاملًا مستحوذًا على عقول الطبقات كافة، بل لعلَّ تأثيره على الطبقات الوسطى وما دونها أشدُّ أثرًا وأبعدُ مدًى.
ومن أسرار تلك الهيمنة أن سلطان الغزاليِّ مبعثه القلب والعاطفة، والمبادئ إذا مزجت بالقلوب والعواطف ثبتت وخلدت على الحوادث والعصور، فقد مزج الغزاليُّ العقائد بالعبادات، ومزج أصول الشريعة بالتصوف، وأطلق في الناس بخورًا مخدرًا ساحرًا، يدعو إلى إيمان بسيطٍ سليم خالٍ من التعقيد، مجردٍ من التخمينات والافتراضات، إيمان استسلام وعبادة وفناء في الله ومحبة.
يقول العلَّامة ماكدولاند: «إن الغزالي لم يكن كشافًا، ولا أول من ركب الطريق واهتدى إلى النجد، ولكنه كان رجلًا كبير الشخصية شديد التأثير النفسي، نهج سبيلًا مطروقة فجعلها مشرعًا عامًّا ومحجة واضحة، وهذا من فضل شخصيته وقوة خليقته.»
ونستطيع أن نضيف إلى قوة التأثير النفسي وقوة الشخصية القوة العلمية العظمى التي تفوَّق بها الغزاليُّ، تلك القوة التي جعلته نسيج وحده بين عباقرة الفكر في عصره.
إذا ذُكر ابن سينا أو الفارابيُّ خطر بالبال فيلسوفان عظيمان، وإذا ذُكر ابن العربيِّ خطر بالبال رجلٌ صوفيٌّ له في التصوُّف آراء لها خطورتها، وإذا ذُكر البخاريُّ ومسلمٌ وأحمدُ خطر بالبال رجال لهم أقدارهم في الحفظ والصدق والأمانة والدقة ومعرفة الرجال، أما إذا ذُكر الغزاليُّ فقد تشعبت النواحي، ولم يخطر بالبال رجلٌ واحد، بل خطر بالبال رجال متعددون، لكل واحدٍ قدرته وقيمته.
يخطر بالبال الغزاليُّ الأصولي الماهر، والغزاليُّ الفقيه الحر، والغزاليُّ المتكلم إمام أهل السنة وحامي حماها، والغزاليُّ الاجتماعيُّ الخبير بأحوال العالم وخفيَّات الضمائر ومكنونات القلوب، والغزاليُّ الفيلسوف أو الذي ناهض الفلسفة، وكشف عما فيها من زخرف وزيف، والغزاليُّ المربِّي، والغزاليُّ الصوفيُّ الزاهد، وإنْ شئتَ فقل: إنه يخطر بالبال رجلٌ هو دائرة معارف عصره.
تلك هي شخصية الغزاليِّ، شخصية كاملة القوى العلمية على تشعبها وتعددها، كاملة الحرارة الروحية والإيمان القلبي، وبفضل تلك الشخصية أضفى عليه العالَم الإسلامي لقبه الخالد: حجة الإسلام.
حجة الإسلام
جاء الغزاليُّ والفلسفة تناهض الدين وتواثبه، والمذاهب العقلية تتصارع وتبرع في الجدلِ والاستخراج، وتبتعد عن الروح والقلب، وجمهرة المسلمين في حيرة، ورجل الشارع متعَب القلب، متعَب الروح، لا يعرف كيف يهتدي، ولا يعرف كيف يطمئن بين تلك التيارات.
فحطَّم الغزاليُّ الفلسفة، وصرع المذاهب، ثم أتى إلى الجمهرة الإسلامية فخاطب منها القلب والروح، وأدخل السلام والهدوء إلى القلوب والأرواح.
وأعاد للإسلام شبابه في القلوب، وحجته في العقول، ومكانته في الأرواح والعبادات.
هدم الغزاليُّ الفلسفة القديمة ليقيم الدين ويُعلي بنيانه، ثم عاد بالناس من الجري وراء النظريات والجدليات واختلاف المذاهب إلى روح الإسلام وجوهره الصافي، ومُثُله العليا الداعية إلى الإيمان والسلام.
علَّم الناسَ أن الحياةَ محبةٌ؛ محبةٌ لله في جلاله، ومحبةٌ للأنبياء جميعهم، ومحبةٌ للبشرية كافة، ومحبةٌ للخير على تعدد ألوانه، ومساعدةٌ عليه بالنفس والمال، ودفعٌ للأذى عن كل روح أيًّا كان لونها أو دينها.