نشأته وحياته
هو أبو حامد محمد بن محمد بن أحمد الغزاليُّ، جادت به الحكمة الخالدة في مطلع عام خمسين وأربعمائة للهجرة، وتسع وخمسين وألف ميلادية، ببلدة طوس من أعمال خراسان، من أصلٍ فارسي.
وكان والده فقير اليد غنيَّ الروح، يكسب قوته من مغزله، ومن قيامه بخدمة رجال الدين والفقهاء في مجالسهم وخلواتهم.
وقد حاول بعض المستشرقين وفي طليعتهم العالِم الألماني «وستنفليد» أن يثبتوا أن أسرته من أُسر العلم الشوامخ، ولكن الحقائق التاريخية لم تذكر لنا دليلًا واحدًا يجرؤ على الثبات، ولم تحدثنا عن ماضي تلك الأسرة شيئًا يطمئن إليه النقد العلمي.
ولا يحدثنا التاريخ كثيرًا عن والده، ولا يروي لنا من صفاته إلا ذلك الإجلال العظيم الذي كان يملك حواس ذلك الوالد حيال رجال الدين والعلم، حتى إذا سمع واعظًا أو فقيهًا تضرَّع إلى ربه أن يرزقه ابنًا خطيبًا واعظًا أو عالمًا متعبِّدًا.
ولعل هذا الإحساس الملح، والرغبة النفسانية العنيفة في اكتساب المجد العلمي وتقديس الثوب الديني، قد ورثهما الغزاليُّ عن والده، وإنما في صورة أخرى، فقد أُتِيحَ للولد ما لم يُتَحْ للوالد، ولعلنا في هذا الضوء؛ نستطيع أن نفهم النَّهم العجيب في الغزاليِّ، الذي كان يدفعه في إلحاحٍ وإصرارٍ إلى الاستزادة من العلوم والإقبال على المعارف.
حتى كان الغزاليُّ يقول كلما عاودته تلك الذكرى: «طلبنا العلم لغير الله فأبى أن يكون إلا لله.»
وقضى الغزاليُّ فترة في إحدى مدارس العلم الديني في بلدته، قرأ الفقه خلالها على: «أحمد بن محمد الطوسي»، ثم جنحت به نفسه إلى الاستزادة من العلوم، فهاجر إلى جرجان إلى الإمام العلامة «أبي نصر الإسماعيلي».
قُطعت علينا الطريق، وأخذ العيارون جميع ما معي ومضوا، فتعقبتهم، فالتفت إليَّ مقدمهم، وقال: ارجع ويحك! وإلا هلكت. فقلت له: أسألك بالذي ترجو السلامة منه أن تردَّ علي تعليقتي فقط، فما هي بشيء تنتفعون به. فقال لي: وما هي تعليقتك؟ فقلت: كتب في تلك المخلاة هاجرت لسماعها وكتابتها، ومعرفة علومها. فضحك، وقال: كيف عرفت علمها، وقد أخذناها منك فتجردتَ من معرفتها وبقيت لا علم؟ ثم أمر بعض أصحابه فسلم إليَّ المخلاة، فتركتْ تلك الحادثة في نفسي أثرًا كبيرًا، وقلت في نفسي: هذا مستنطق أنطقه الله؛ ليرشدني به في أمري. فلما وافيت طوس أقبلت على الاشتغال ثلاث سنين حتى حفظت جميع ما علقته، وصرت بحيث لو قُطع عليَّ الطريق لم أتجرد من علمي.
وتلك القطعة التصوُّرية من قلم الغزالي تدلنا على صفة كان لها أكبر الأثر في إعداده ورسالته، وهي تأثره العجيب بالجانب الديني الصوفي من الحياة، فهو يرى في جوابِ قاطع الطريق رسالةً سماويةً ونطقًا ربانيًّا لإرشاده في أمره وطُرق تعليمه.
عاد الغزاليُّ من جرجان إلى طوس، وانقطع انقطاعًا تامًّا — كما يقول — إلى العلم ثلاث سنوات؛ حتى حفظ جميع ما درس، واستوعب ما قرأ، بحيث لو قُطع عليه الطريق، وسُرق ما معه لم يتجرد من العلم والمعرفة. والعلم في نظر الغزاليِّ كان خلال تلك المدة غير واضح المعاني، غير واضح الأهداف؛ فهو يدرس ويحفظ على طريقة عهده كتب الدين وآراء المذاهب والفقهاء؛ ليكون يومًا ما من رجال التدريس أو القضاء، أو قد يُسعده الزمان فيلتحق ببطانة عظيمٍ أو أمير أو سلطان.
ولكنَّ تلك الروح العظيمة التي أُعِدَّتْ لغير ما يُعدِّهُا صاحبها لم تقنع بما وصلت إليه من دراسات، ولم تطمئن إلى ذلك اللون من التعليم، بل لم تقنع بما أُلقي إليها من يقين؛ إذ هي تنشد معانيَ أُخر، وتلتمس بابًا إلى النور لم يزل خافيًا.
وضاقت معارف طوس بالغزاليِّ، كما ضاق بها؛ فرحل إلى نيسابور، إحدى مدن العلم والنور في عهده، وهناك اتصل بإمام الحرمين أبي المعالي الجويني عَلَم عصره في التوحيد والإلمام بمذهب الأشعرية، وطُرُق الجدل والأصول والمنطق.
وفي نيسابور ابتدأت خطوط تلك النفس العظيمة تتكوَّن وتتضح، وابتدأت آفاق الغزاليِّ تتفتح وتتسع، فهو يشاهد فيها دنيا جديدة ومجتمعًا جديدًا مزدحمًا بأنفاس العلماء، كما هو مزدحم بأنفاس الحياة.
وفي نيسابور ابتدأ إيمان الغزاليِّ بعلم الفقه يضعف، كما أخذ إجلاله للعلماء يتضاءل، فهو يدرس ويستمع إلى آراء المذاهب، ويعجب لتفرقها وتخاصمها، كما يعجب لطرائقها في البحث والجدل، ويعجب أكبر ما يعجب لخلوِّلها من الروح والإيمان.
وفي نيسابور شاهد الغزاليُّ ولامس أخلاق العلماء والفقهاء؛ فإذ هي ضروبٌ عجيبة من الرياء والنفاق، وألوان مبتكرة من الجشع والتهالك على متاع الحياة، فشكَّ الغزاليُّ في أخلاقهم كما شكَّ في علومهم، وبذلك انتهى إيمانه بالعلم التقليدي، فأقبل على الفلسفة ينشد لديها الإيمان، ويرجو عندها متاع العقل والقلب والروح.
ولكنَّ الفلسفة خذلته أكثر مما خذله العلم التقليدي؛ فهو ينشد إيمان الروح، إيمان القلب، والفلسفة وإن أرضت العقل الحر أو العقل المعتز بنفسه، أو العقل الذي لا يطيق الخضوع ويتعالى بالكبرياء؛ فهي لا ترضي القلب الذي ينشد السَّلام، ولا ترضي الروح التي تنشد الاطمئنان، فأضاف الغزاليُّ شكوكًا جديدة في الفلسفة إلى شكوكه القديمة في العلوم التقليدية.
وبذلك تحرر الغزالي من كل قيدٍ فكري، كما تحرر من كل قيد يقيني؛ فانطلق حرًّا طليق الفكر، ينشد الهداية بين المذاهب والنِّحل، ويتلمسها في الشك تارة، وفي التأملات الغامضة أخرى، غير مثقلٍ العقلَ بميراث يقَيِّده، ولا مشغولِ اليدين بعلم خاصٍّ يجلُّه ويكبره.
وأمسى الغزاليُّ وأصبح، فإذا به المتهكم الأكبر في جيله، وعرفته محافل العلم أستاذًا بارعًا متعمقًا في كل بحث، مغرمًا بالمجادلات والمناقشات، ومغرمًا أشد الغرام بالتحطيم والتجريح، فلم يغادر مذهبًا من المذاهب لم ينقضه، ولم يدع فِرقة من الفِرَق بدون تجريح وإيلام.
وقد أوتي أسلوبًا بارعًا، وقلمًا ساحرًا وعرضًا عبقريًّا، وتلك أسلحة فكرية رهيبة عظيمةُ الخطورة إذا وضعت في يدٍ متهكمة مغرمة بالقتال والصيال، مغرمة بالبحث والجدال علَّها ترضي صياح الشك في أعماقها، أو ترضي الظمأ إلى اليقين في روحها.
فلا عجب إذا رأينا ملاحم متتابعة متلاحقة شديدة الأوار تنشب بين الغزاليِّ وجيله، وهي ملاحم أضافت إلى التراث الفكري كنوزًا من المعرفة لا يزال شعاعها واضح النور والسَّنَاء.
طريقته في القراءة والبحث
ولم أزل في عنفوان شبابي منذ راهقت البلوغ، وقد أنافت السن الآن على الخمسين، أقتحم لُجَّة هذا البحر العميق، وأخوض غمرته خوض الجَسور لا خوض الجبان الحَذور، وأتوغَّل في كل مُظلمة، وأتهجم على كل مشكلة، وأَتَقَحَّم كل ورطة، وأتفحص عقيدة كل فِرقة، وأكشف أسرار مذهب كل طائفة.
لا أميُّز بين محقٍّ ومبطل، ومتسنن ومبتدع، لا أغادر باطنيًّا إلا وأحب أن أطَّلع على بطانته، ولا ظاهريًّا إلا وأريد أن أعلم حاصل ظهارته، ولا فلسفيًّا إلا وأقصد الوقوف على كُنْهِ فلسفته، ولا متكلمًا إلا وأجتهد في الاطلاع على غاية كلامه ومحاولته، ولا صوفيًّا إلا وأحرص على العثور على سرِّ صوفته، ولا متعبدًا إلا وأترصَّد ما يرجع إليه حاصل عبادته، ولا زنديقًا إلا وأتجسس وراءه للتنبه إلى أسباب جرأته في تعطيله وزندقته، وقد كان التعطُّش إلى درك حقائق الأمور دأبي وديدني من أول أمري وريعان شبابي، غريزة وفطرة من الله وضعت في جبلَّتي لا باختياري وحيلتي.
تلك هي صورة الغزالي العالِم الباحث، وذلك هو الوجه الذي عُرف به في نيسابور التي ارتبط فيها بصداقة روحية مع أستاذه إمام الحرمين، حتى رشَّحه ليقوم مقامه في التدريس.
ولكن أستاذه وصديقه لم يلبث أن انتقل إلى الرفيق الأعلى، ففارق الغزالي نيسابور حزين القلب والروح، فارق الغزالي نيسابور، وقد فقد الشعاع الروحي الأخير الذي كان يحبسه عن المغامرة الكاملة في الحياة، فارقها إلى بغداد؛ ينشد فيها مجد الدنيا ومتاع الروح، وليقارن فيها حظَّه بحظوظ العلماء والدارسين.
الغزاليُّ ينشد متاع الحياة
كانت حياة الغزاليِّ منذ شعاعها الأول حياة فكرية خالصة، حياة عازفة عن الجاه ومتاع الحياة، وكانت نهاية تلك المرحلة أيامه الأخيرة في نيسابور.
وها نحن أُولاء نشاهده في طريقه إلى بغداد، يحدث نفسه بوداع حياة واستقبال أخرى، فهو لم يلق في حياته الأولى سوى عذاب فكري متلاحق، بل لم ينعم ولم يذق إلا مرارة المعارك والخصومات الحارة بأحقادها ومتاعبها، ولم يمتع إلا بلقيمات غير دسمة ولا سائغة.
فِكر متوثب ملتهب لا يهدأ ولا يطمئن ولا يشعر بلذة اليقين، وعلم لم يُكْسِب صاحبه ما يُكْسِبه العلم لأهله في عهده من متاع الحياة ومباهج السيادة والحُكم، فلِمَ لا يقذف بكل هذا وجه الفضاء؟ وإذا كان هذا الفكر الملح في شكِّه، الملح في ثورته، الملح في تهكمه لا سبيل إلى إمتاعه وإرضائه، فإن قسوة الحياة يمكن أن تبدل بطيب المتاع وجمال المظهر، وعزة الاتصال بالولاة وما فوق الولاة من الأمراء والملوك.
وبغداد في ذلك التاريخ مهوى أفئدة رجال العلوم، ومهوى أفئدة طلاب المغامرة وعشاق المجد، وفي بغداد يسوس المُلْك مغامرٌ عالِمٌ «نظام الملك» الذي ابتدع المدارس النظامية، وأسسها على علوم السنة؛ لينافس بها أزهر الفاطميين، وليطاول بها علوم الشيعة التي تُلْقَى في أزهرهم.
ومثل هذا الأمير في حاجة إلى عالم متفوق بارع في الجدل، بارع في الخصومة، بارع في دعم الحجج والبراهين براعته في نقض الحجج والبراهين.
والغزاليُّ اللمَّاح يدرك مطلب الأمير، ويدرك ما يمكن أن يظفر به لدى الأمير.
ولذا فقد اعتزم أن يكون مَقدِمه ضخمًا فخمًا لا ينسى، واعتزم أن يطلع الأمير في اللحظة الأولى على مقدار نبوغه وبراعته في الحوار والجدل، وتفوقه في المذاهب والنِّحل.
الغزاليُّ ونظام الملك
فلما مات أبو المعالي خرج الغزاليُّ قاصدًا نظام الملك، وناظر الأئمة والكبار في مجلسه، وقهر الخصوم، وظهر كلامه على الكل، واعترف بفضله الخاص والعام، وتلقاه نظام الملك بالقبول، وأحلَّه محل النفوس، وأَجَلَّه إجلال الرءوس، ثم ولاه التدريس بمدرسته النظامية ببغداد، وأمره بالتوجه إليها؛ فقدم بغداد سنة أربع وأربعمائة وهو في الرابعة والعشرين من عمره.
ثم درَّس بالنظامية، فأعجب الكل بحسن كلامه، وكمال فضله، وعبارته الرشيقة، ومعانيه الدقيقة، وإشاراته اللطيفة، ونكته الظريفة.
وفي بغداد تمتع الغزاليُّ بما اشتهى من جاه ومال وسيادة، وأحله نظام الملك مكانًا عليًّا، واتسعت حلقات دروسه، واشتهر بفتاواه الشرعية البارعة، وابتدأ في تأليف كُتبه التي سيخلد بها.
وقد كان لنظام الملك تأثير بعيد المدى على الغزاليِّ، فنظام الملك صوفيٌّ شديد التعلق بالصوفية، شديد التعصب لمبادئهم وطرائقهم، مسرف أشد الإسراف في البذل عليهم وإعداد التكايا لهم.
حتى ليواجه الخليفة بتلك القولة الغريبة، وهو يعاتبه لإسرافه في النفقة عليهم وإهمال الجيوش: «لقد أقمت لك عبادًا بالليل، لو صاحوا لزلزلت الدنيا بخصومك ومادت الأرض بهم.»
وظنَّ أصدقاء الغزاليِّ وأعداؤه معًا أنه قد بلغ الغاية من السعادة؛ فقد حقق لنفسه منتهى آمال أمثاله من رجال الدين والتدريس.
فهو صديق الأمير وعالمه، كما يتولى التدريس في أكبر جامعة علميه في عصره، له فيها المكان المرموق والكلمة العالية، وأصبحت حلقات درسه ملتقى الأمراء والوزراء والعلماء، وغدت فتاويه أشبه بالفرمانات الملكية؛ حتى ليستأذنه الأخفيش في غزو الأندلس، كما يطلب فتواه في جواز توليته ملك الأندلس مع المغرب وتلقبه ﺑ «أمير المؤمنين».
وفي هذا الجو الساحر الزاخر بمتع الحياة وسيادة الفكر، وبين تلك المكانة العليا التي غدت للغزالي في العالم الإسلامي من بغداد إلى تخوم الهند وسواحل المحيط الأطلسي، كان الغزاليُّ يتعذب ويتألم، ويشقى شقاء لا يعرفه إلا العلماء، ولا يتصوره إلا رجال الفكر.
كان لهب الشك يحرقه في صمت، وكان تعطش روحه العميق إلى الإيمان يفسد عليه متع الحياة.
وكان الغزاليُّ كثيرًا ما يحاور نفسه ويجادلها، ويقلِّب أفكاره ويفنِّدها، ويختلي بقلبه يسأله الإيمان بعد أن أضله العلم والعقل، فلا يسمع من قلبه جوابًا، ولا يرى في حياته للأمل بابًا.
وإذ به فجأة ينقطع عن الدرس والفتيا؛ وإذ به فجأة يلازم الفراش لغير علَّة واضحة، وإذ به يجافي الطعام، وينعقد لسانه عن الكلام، وإذ بقوة هضمه تبطل، وإذ به في حالة ذهول كامل حار فيها الأطباء، وعجز العلم عن توضيحها وتعليلها.
حتى إذا يئس طبيبه من أمر مرضه، قال: هذا أمرٌ ينزل في القلب، ولا رجاء في حياته إذا لم يتغلب على مشاغل نفسه، ولم يخفف وطأة إجهاد ذهنه.
ولكنَّ هذا المريض الفاقد للحركة وشهوة الطعام والكلام ينهض فجأة إلى الحج، ثم إذ به يعلن للدنيا اعتزاله التدريس ومظاهر الحياة وانقطاعه لعبادة الله.
أسباب عُزلتِه بقلمه
فلم أزل أتردد بين تجاذب شهوات الدنيا ودواعي الآخرة قريبًا من سَنَة، وأخيرًا جاء دور العمل، وجاوز الأمر حدَّ الاختيار إلى الاضطرار، وقد قفل الله لساني حتى اعتقل عن التدريس، فكنت أجاهد نفسي أن أدرس يومًا واحدًا تطيُّبًا لقلوب المختلفين إليَّ، فكان لا ينطلق لساني بكلمة ولا يستطيعها ألبتة، ثم أورثتْ هذه العقلة في اللسان حزنًا في القلب بطلتْ معه قوة الهضم حتى قطع الأطباء طمعهم من العلاج، وقالوا: هذا أمرٌ نزل بالقلب ومنه سرى إلى المزاج، فلا سبيل إليه بالعلاج إلا بأن يتروَّح السر عن الهمِّ الملمِّ.
ثم لاحظت أعمالي؛ فإذا أنا منغمس في العلائق وقد أحدقتْ بي من جميع الجوانب، ولاحظتُ أعمالي وأحسنها التدريس والتعليم، فإنما أن معتقل على علوم غير مهمة ولا نافعة في طريق الآخرة.
ثم تفكرت في نيتي في التدريس؛ فإذا هي غير خالصة لوجه الله تعالى، بل باعِثُها ومحركها طلبُ الجاه وانتشار الصيت؛ فتيقنت أني على شفا جرفٍ هارٍ، وأني قد أشفيت على النار إن لم أشتغل بتلافي الأحوال. فلم أزل أتفكر فيه مدة وأنا بعد على مقام الاختيار، أصمم على الخروج من بغداد ومفارقة تلك الأحوال يومًا، وأحل العزم يومًا، وأقدم فيه رِجْلًا وأُؤخر أخرى، لا تصدُق لي رغبة في طلب الآخرة بُكْرَة، إلا ويحمل عليها جند الشهوة حملة فتفترها عشية؛ فصارت شهوات الدنيا تجاذبني بسلاسلها إلى المقام، ومنادي الإيمان ينادي: الرحيلَ الرحيلَ، فلم يبق من العمر إلا القليل، وبين يديك السفر الطويل، وجميع ما أنت فيه من العلم والعمل رياء وتخييل، فإن لم تستعدَّ الآن للآخرة فمتى تستعد؟ وإن لم تقطع الآن هذه العلائق فمتى تقطع؟ فعند ذلك تنبعث الداعية وينجزم العزم على الهرب والفرار.
ثم يعود الشيطان ويقول: هذه حالة عارضة، إيَّاك أن تطاوعها فإنها سريعة الزوال، فإن أذعنت لها وتركت هذا الجاه العريض، والشأن المنظوم الخالي عن التكدير والتنغيص، والأمن السلم الصَّافي عن منازعة الخصوم ربما التفتَّ إليه ولا يتيسر لك المعاودة.
فلم أزل أتردَّد بين تجاذب شهوات الدنيا ودواعي الآخرة، قريبًا من ستة أشهر؛ أولها رجب سنة ثمانٍ وثمانين وأربعمائة، وفي هذا الشهر جاوز الأمر حدَّ الاختيار إلى الاضطرار.
ولمَّا أحسستُ بعجزي وسقط بالكلية اختياري التجأتُ إلى الله الْتَجاءَ المضطر الذي لا حيلة له، فأجابني الذي يجيب المضطر إذا دعاه، وسهل عليَّ الإعراض عن الجاه والمال والأولاد والصحاب، وأظهرت عزم الخروج إلى مكة، وأنا أدير في نفسي سفر الشام؛ حذرًا أن يطَّلع الخليفة وجملةُ الأصحاب على عزمي في المقام في الشام، فتلطفت في الخروج من بغداد على عزم ألا أعاودها أبدًا.
إذن؛ فالغزالي يجعل اعتكافه لأسباب نفسية غامضة وسبحات دينية غير واضحة، أنقذه الله منها إلى الهداية والتوفيق.
ولكن العلَّامة ماكدولاند — المستشرق الذي تخصص في دراسة الغزاليِّ — يقول: إن هذا الاعتكاف يمتُّ بأسباب وثيقة إلى الحياة السياسية المعاصرة له، ويستدل على ذلك بحادثتين.
هل هناك أسباب سياسية؟
لا ريب أن الغزالي باعتباره من أكبر رجال «الفتيا» في عصره قد ساهم بعض المساهمة في أحداث الدولة السياسية، لا سيما وعصره من العصور المضطربة التي ساهم فيها الفقهاء والقضاة مساهمة كبرى في الأحداث السياسية.
وقد ذكر ابن خلدون في مقدمته أن يوسف بن تاشفين أمير المغرب بعد أن أعان سادة الأندلس على قهر «ألفونس» ملك قَشْتَالَة طمع في الأندلس، فألحقها بملكه بعد استفتاء علماء العالم الإسلامي فأفتوه بحقه في ذلك، ومنهم الغزاليُّ، بل لقد أفتوه أيضًا بجواز تلقيب نفسه ﺑ «أمير المؤمنين»، وفي هذا إغضاب؛ أي إغضاب لسادة بغداد!
ويذكر ماكدولاند أيضًا أن الخليفة المستظهر أمره بأن يضع كتابًا يردُّ به على الباطنية، حينما وضحت أهدافهم السياسية، فنادوا بفكرة «الإمام المعصوم» على طريقة الشيعة.
وقد اعترف الغزاليُّ بأنه هاجمهم مكرهًا؛ لأنَّه تلقى أمر الخليفة فلم يسعه مدافعته، ثم قيل بعد ذلك بأن ما كتبه أغضب الخليفة؛ لأنَّه كان أقرب إلى تأييد الباطنية من مهاجمتهم وتفنيد مذاهبهم!
ولكن اعتراف الغزاليِّ لا يرضي النقد العلمي في توضيح أسباب عزلته، كما أن رأي العلامة ماكدولاند لا يلقي ضوءًا كافيًا يستريح إليه ضمير الباحث الذي يتحرى الحقائق، إلا إذا كانت ترضيه دعوى بعض علماء عصره بأن ما حدث للغزالي إنما هو عينٌ أصابت الإسلام فيه.
الدوافع الحقيقية لعزلته
فهل حقيقة أن الغزاليَّ اعتزل التدريس لأنَّه — كما يقول — لم تكن نيته فيه خالصة لله، بل باعثها ومحركها طلب الجاه وانتشار الصيت؟ أم أنه اعتزل التدريس والحياة لتَحَوُّلِ وجه الخليفة عنه بتحيزه إلى يوسف بن تاشفين أمير المغرب؟
إننا في حاجة إلى كثير من السذاجة لنصدق الغزاليَّ؛ إذ يقول في سذاجة إنه ترك التدريس؛ لأنَّ نيته فيه غير خالصة لوجه الله، وإنما باعثها ومحركها طلب الجاه وانتشار الصيت.
وهل هناك نفسٌ بشرية تجردت تجردًا كاملًا من هذا الباعث والمحرك، أو تُحاسب على هذا الباعث والمحرك؟ وما معنى أنَّ نيته فيه لم تكن خالصة لوجه الله؟ هل أُجبر الغزاليُّ على أن يلقي دروسًا معينة تتعارض مع روح الإسلام؟!
وإذا لم يكن هذا، فما معنى هذا الكلام الغريب الساذج؟ وهل إذا ترك الغزاليُّ التدريس يكون ذلك مبررًا لتركه الحياة واعتكافه؟
فإذا أعرضنا عن هذا ونظرنا أو صدَّقنا العلَّامة ماكدولاند في أن عزلته كانت سياسية، فإن الأسباب التي ذكرها لا تبرر اعتكاف الغزاليِّ، بل إصراره على الاعتكاف طوال حياته.
إن اعتكاف الغزاليِّ كان باعثه تلك المعركة المشبوبة بين إيمانه وشكِّه، وهي معركة لعبت في حياة الغزاليِّ وتفكيره دورًا خطيرًا فاصلًا.
شكَّ الغزاليُّ في كل علم درسه، شكَّ في قيمة العلوم كما شكَّ في مظاهر الحياة وأهدافها وغايتها، شكَّ في كل ما يقع تحت الحسِّ وفي كل ما يثبته العقل، شكَّ حتى في تفكيره! ثم التمس الهداية عن طريق الحواس والعقل، ونشدها في كل أفق شاهَدَ فيه الضياء والنور، أو خُيل إليه أن فيه الضياء والنور.
ولنا أن نسأل هل شكوك الغزاليِّ طارئة؟ وهل حقيقة أن الشك لم يظفر بقلبه إلا في المدرسة النظامية؟ وهل حقيقة أنه اعتزل الطعام والكلام لأنَّه وجد نيته في التدريس غير خالية من حب الشهرة والمجد؟
عراقته في الشكِّ
إن نظرة إلى حياة الغزالي ترينا أنه عريق في الشك؛ فهو يحدثنا أنه كان في مطالعاته يخوض بحورَ العلم خوضَ الجَسور لا خوضَ الجبان الحذور، وأنه كان يتوغل في كل مُظلمة، ويتهجم على كل مشكلة، ويتفحص كل عقيدة، لا يميز بين محقٍّ ومبطل، ومتسنن ومبتدع، لا يغادر باطنيًّا إلا ويحب الاطلاع على مبادئه، ولا ظاهريًّا إلا ويريد الإحاطة بآرائه، ولا زنديقًا إلا ويتجسس على ألوان زندقته، ولا متعبدًا إلا ويجتهد في تفهم دوافع عبادته، كل ذلك منذ شبابه.
أليست هذه أكبر آيات الشكِّ؟ وأليست هذه نُذُر عدم الإيمان أو الاطمئنان إلى مذهب من المذاهب أو لونٍ من الألوان؟
وقد أخطأ كثير من مؤرخي الغزاليِّ حينما ظنُّوا أن فترة الشك إنما ظفرت بقلبه وهو يُدَرِّس في المدرسة النظامية، وأنه قد وثب من الشك إلى التصوف وثبًا، ويستدلون على هذا بأن كُتب الغزاليِّ التي كتبها قبل ذلك التاريخ قد خلت من جموح المتَشَكِّك، ووثبات عدم الإيمان.
ويقولون أيضًا: إن عصر الغزاليِّ كان من أكبر عهود الشكِّ والتلوُّن في التاريخ؛ فليس ثمة من تقاليد أو رهبة تمنع الغزاليَّ من المجاهرة بشكه في مثل هذا المحيط، وهو الجريء المتوثب.
ويظنون بهذا أنهم قد أقنعوا أنفسهم وأقنعوا التاريخ معهم.
فلو تأملنا قليلًا في كُتبه التي كتبها في تلك الفترة لرأينا عجبًا! لرأينا الغزاليَّ المؤمن فيما يظهر، هو أكبر شاكٍّ فيما يبطن.
ومن يقرأ مقاصد الفلاسفة يلمح من بين سطوره أن الغزاليَّ يكتب ليقنع نفسه؛ ولهذا فهو يجمع شتيتًا من حجج الفلاسفة ويعرضها ويبسطها ويتلاعب ويفتن في تصويرها وتلوينها، وكأنه يتغزَّل فيها ويناغيها.
وقد عُرف عنه هذا في ردوده على الباطنية؛ فقد عمد إلى توضيح مذاهبهم تمهيدًا لمهاجمتهم، ولكنَّه كان في توضيح مبادئهم أكثر منهم أنفسهم بيانًا وفصاحة وإغراء في عرض حججهم وإبراز قوة الإقناع فيها.
فلما هاجمهم لم يُغنِ عنه هذا شيئًا في اتهامه بالميل إليهم والمحبة لهم.
ومَن يقرأ تهافت الفلاسفة يلمس أنه كتب أولًا وقبل كل شيء ليرضي شكوكَه، فهو يهاجم الفلسفة في عنف وفي حرارة، ويجمع في يديه جميع الأسلحة الفكرية التي يؤمن بها والتي لا يؤمن؛ ليحطم الفلسفة ومذاهبها ودعاتها، بل ليحقر من شأنها، ولينال من أفكارها وطرقها العقلية في إصرار وعناد.
ثم من يقرأ كُتبه المعاصرة لهذا التاريخ يرى تباينًا عجيبًا في آرائه، فهو يهاجم الفلاسفة محتجًّا بآراء المعتزلة والأشعرية، ويهاجم المعتزلة محتجًا بأهل السنة، ويهاجم رجال الفقه محتجًّا بالتصوف.
وإذن؛ فالغزاليُّ عريقٌ في الشك، أو على الأقل لم يهب نفسَه لفكرة واحدة، ولم يستأثر بقلبه إيمانٌ معين.
ولكن الغزاليَّ امتاز بين المتشككين بأنه نشد الهداية في صدق وحرارة، وتلمسها راغبًا حقًّا في الظفر بها، كان يشعر بحنين ملحٍّ إلى الاطمئنان واليقين، يطاول تلك الرغبة الملحة في الشكِّ والجدل.
ومرجع هذا أن الغزاليَّ كان يلتقي في قلبه خليطٌ من شكوك عقله بخليطٍ من إيمان قلبه؛ فقد كان عقله أدنى إلى عقول العلماء الذين لا يؤمنون إلا بالمنطق وحقائق الموازين العلمية، بينما كانت روحه أدنى إلى أرواح الزاهدين العابدين.
ومن هنا نفهم السرَّ في الصراع المشبوب أبدًا بين روحه وعقله، ومن هنا ندرك السرَّ في أنه كلما اشتدت به ثورة الشك كان يأخذه المرض حتى يعجز عن الطعام والكلام.
وقد ثارت به في المدرسة النظامية عندما بلغ غايةً عليا بين العلماء ورجال المال والجاه رغبةٌ مُلِحَّة إلى الإيمان، كما ثارت به ثورة من الشك حارة قاسية.
الأولى تذكره بالآخرة ونعيمها ورضاء الله وجلال القُرْب منه، وتذوق رحيق الرضا والسلام واليقين.
والثانية تمنيه وتعده بالجاه والمال والتفوق العلمي ولذَّة النصر في ميادين الجدل والحوار، وتنذره أنه قد يفارق كل هذا، ويحرم من كل هذا؛ فيشقى ويتألم، ثم يحاول الرجوع فلا يستطيع؛ فيفقد الراحتين ويُحرم اللذتين.
وتردد الغزاليُّ طويلًا بين تجاذب شهوات الدنيا ودواعي الآخرة، حتى فقد إرادته وأضاع اختياره، وأصبح ألعوبة لأفكاره وأهوائه.
احترق الغزاليُّ في تلك الفترة بهلبِ الحيرة والشك وتلاطم الفكر، وحيرة العقل والقلب والحس، حتى سرى الأمر من الروح إلى الجسد؛ فأمسك لسانه، حتى فقد الكلام، وأورثه ذلك حزنًا في القلب بطلت معه قوة الهضم. فقال الأطباء: هذا أمر نزل بالقلب ومنه سرى إلى المزاج، فلا علاج إلا بزوال علته الذهنية والفكرية.
وفي تلك الظلمات وبين النار والدخان، والنور الذي يلوح من وراء الأفق التجأ الغزاليُّ إلى الله؛ يطلب النجدة، ويطلب الإيمان، وينشد اليقين والسلام، فأجابه الذي يجيب المضطر إذا دعاه، وأراه من الأسرار ما سهل عليه الإعراض عن الجاه والمال والأصحاب.
الهداية
فارق الغزاليُّ بغداد، بل فارق حياته الأولى بشكوكها العقلية الملحة، ومتاعبها الدنيوية، وملاذِّها الجسدية؛ ليستبدل بالشكِّ إيمانًا ثابتًا لا تجرؤ عليه الشكوك أو الخيالات، وبدنيا القراءات والمجادلات دنيا من تأملات الفكر وكشف الروح، وبمتاع الجسد متاعًا علويًّا.
فارق الغزاليُّ بغداد؛ لينطلق سائحًا في أحلامه وتفكيره، وليبتدع ما شاء له الإلهام من تراثٍ خالد.
فارق المنصب الرفيع، والعيش الهنيء؛ للزهد والتقشف والتأملات العليا، وهو انقلابٌ بعيد المدى، لا في حياته وتاريخه، بل في تاريخ الفكر الإسلامي إلى يومنا.
وهذا الانقلاب هو سرُّ خلود الغزاليِّ؛ إذ به جدد نفسه، بل من آثاره أن جدد الغزاليُّ الحياة الفكرية لعصره، بل كان من نتائجه أن طبع القرون التي تَلَتْه بطابعه وتفكيره.
فارق بغداد وفارق التدريس؛ ليلجأ إلى الله في بيته الحرام، بل ليهنأ بالإيمان ومعرفة الله عن طريق الاتصال الشخصي به، جاعلًا الوساطة في ذلك الروح لا العقل، جاهد الغزاليُّ نفسه جهادًا خالدًا ليخلصها من شوائب الحياة؛ حتى تصفو صفاء يؤهلها للمعرفة واليقين والتلقين.
وبهذا سلك الغزاليُّ إلى الهداية مسلك الكشف الروحي، والتجأ إلى الاعتكاف والمجاهدة ليطهِّر نفسه، ويعدها للانقلاب الفكري العظيم.
خاتمة حياته
ومن البيت الحرام رحل الغزاليُّ إلى دمشق، ويقول المقريزي في المقَفَّى: «إنه جعل وهو في دمشق يعكف في زاوية في منارة الجامع الأموي ويلبس الثياب الخشنة، ويتقللُ في مطعمه ومشربه، واعتزل الناس، وأخذ في تصنيف كتابه إحياء العلوم، وذهب يطوف المشاهد ويزور التُّرَبَ والمساجد، ويروِّض نفسه على المجاهدات ويكلفها مشاق العبادات إلى أنْ لَانَ له صعبُها وسهُل له بعد ضيقٍ رحبُها.»
ومن ثم صفت روحه صفاء أهلها لاقتباس النور من منابع النور العليا، فألَّف أخلد كتبه ومنها الإحياء، كما ذهب إلى بيت المقدس، واعتكف في المنارة الغربية من المسجد الأقصى، ثم رحل إلى الإسكندرية.
ثم عاد إلى وطنه خراسان فعاش معتزلًا منهمكًا في التأمل والمجاهدة والتفكير، ومن عجبٍ أنه عاود التدريس في المدرسة النظامية بنيسابور! ثم رجع إلى طوس، واتخذ إلى جانب داره مدرسة للفقهاء وخانقاه للصوفية، ووزَّع أوقاته بين تلاوة القرآن، ومجالسة أرباب القلوب والتدريس، والكشف الباطني، كما أخذ يدرس علم الحديث.
لما كان يوم الإثنين، وقت الصبح، توضأ أخي أبو حامد وصلَّى، وقال: عليَّ بالكفن. فأخذه وقبَّله ووضعه على عينيه، وقال: سمعًا وطاعة للدخول على الملك. ثم مدَّ رجليه واستقبل القبلة ومات قبل الإسفار.
الشكُّ مقدمةُ اليقين
تتراوح حياة الغزاليِّ بين فكرتين، لكل منهما أكبر الأثر في دراساته وتوجيهاته، وإلى هاتين الفكرتين ترجع جميعُ الألوان والصفات المميزة لميراثه الثقافي، وهما الشكُّ والإيمان، فهما مفتاح الوصول إلى تفهم شخصيته وأساليبه وأفكاره.
وقد آمن الغزاليُّ بالشكِّ واعتنقه صراطًا علميًّا، يقول في خاتمة كتابه «ميزان العمل»: «ولو لم يكن في مجاري هذه الكلمات إلا ما يشكك في اعتقادك الموروث لتنتدب للطب فناهيك به نفعًا؛ إذ الشكوك هي الموصلة إلى الحق، فمن لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر بقي في العمى والضلال».
وإذن؛ فالشكوك في مطلع حياة الغزاليِّ كانت طريقه إلى الحق، فمن لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر بقي في العمى والضلال. تلك هي شريعة الغزاليِّ، وهذا هو منهاجه العلمي، وقد درَس العلوم التقليدية والفلسفية والمذهبية في هذا الضوء.
وقد سبق الغزاليُّ بجعله الشكَّ مذهبًا من مذاهب العلم، وفي إيمانه بأن الشكوك هي طريق الحقائق «ديكارتَ» و«دافيد هيوم» وهما أئمة هذا المذهب في الفلسفة الأوربية الحديثة، بل لقد أصبح الشكُّ مذهبًا من مذاهب العلم المعاصر، بل لونًا من ألوان التجديد والابتكار.
ولا ريب في أن شكوك الغزاليِّ قد أفادته فائدة كبرى في دراساته؛ فقد علمته أن يناقش قبل أن يؤمن، وعلمته ألَّا يقنع بما علِم، بل يطلب المزيد أبدًا.
وبهذا كان الغزاليُّ يجدد حياته العلمية على فترات متعاقبة، كما دفعه الشكُّ إلى عدم الرهبة من الخرافات المقدسة التي كانت تسبح في كتب عصره، أو التزييفات الدينية المحاطة بجلال وهمي في أذهان العامة، كما علمته عدم الرهبة أيضًا حيال الأفكار والمذاهب التي تستند إلى أسماء خلدها الفكر والتاريخ؛ وبهذا نجا من التقليد كما نجا من الخضوع لفلسفة الإغريق.
بل إن هذه الشكوك هي التي أعدته لتلك الوثبة الكبرى إلى سماء الإيمان، وهي التي سهلت عليه عندما حصل اليقين اعتزالَ الحياة والناس؛ لينعم بمتاع عزيز على الحياة والناس.
وعظمة الغزاليِّ تمتْ بسبب وثيق إلى هذا الشك؛ فهو الذي حمله على دراساته الكبرى، ومجادلاته العظمى، واشتباكاته المتعددة مع النِّحَل والفِرق والمذاهب، فلما حصل عنده اليقين كان يقين القوي الواثق الذي لا يداني ولا يُماري.
كما أن هذا الشك كان علامة عقل كبير، لا يؤمن بقيود التقليد، بل يؤمن بنفسه أوَّلًا فيُجل ما يهدي إليه العقل، ويرفض ما سواه.
ذلك الروح العظيم وذلك العقل الكبير، وهذا الاطلاع الشامل، وهذا الصراع بين العقل والروح، بين المشاعر والأحاسيس المختلفة؛ هو الذي أعدَّ الغزاليَّ لرسالته الخالدة.
فقد خرج الغزاليُّ من هذا الصراع العنيف، وذلك التجاذب بين الدنيا والآخرة طاهرًا نقيًّا كالسبيكة الذهبية تزيدها النار لمعانًا وإجلالًا، احترق الغزاليُّ فتطهر فكرًا وعقلًا وقلبًا.
كما ظهر تأثير تلك المرحلة واضحًا في تكوين آرائه الاجتماعية والخلقية؛ لأنَّه استطاع أن يدرس في نفسه تقلبات الأهواء وإغراءات اللذة، ونعيم الطاعة ومُتع العبادة، وخَبَرَ التصادمَ بين شهوات النفس وميول القلب وأسرار الروح، ولَمَسَ نقط الضعف في الإنسان، وعرف كيف تعالج وبأي أسلوب تُداوى.
ولما آمن بعد شكٍّ كان إيمانَ الواثق الدارس لا إيمان المستسلم المقلد، فكان إيمانه هو الذي أتاح له تلك القوة الروحية الكبرى التي هيمن بها على عصره وعلى العصور التالية.
كما أنَّ صَقْلَ نفسِه وعقله بالمجاهدات أكسبه روحًا تخفق على القرطاس، وتلمع بين الكلمات، وتملك على القارئ أحاسيسه، وتمنحه متاعًا لقلبه ومتاعًا لعقله ومتاعًا لروحه، ندر أن يوجد عند غيره من سادة القلم والفكر.
كان الغزاليُّ بنشأته وتأملاته وتنقلاته وكشوفه الروحية ودراساته العلمية أصلحَ قادةِ عصره لتلك الوثبة التي جدد بها روح الإسلام في القرن الخامس.
الغزاليُّ يهدف نحو الحقِّ
كافح الغزاليُّ شكوكَه كفاحًا قويًّا، ولم يستسلم لها استسلامًا تامًّا كما حدث ﻟ «دافيد هيوم»، بل سعى إلى الإيمان جاهدًا، وطلب الحقيقة في إلحاحٍ ولهفة.
كان يحسُّ ظمأً ملحًّا إلى الإيمان بحقائق ثابتة ترضي عقله، وترضي قلبه، وترضي روحه، وترضي المثل العليا التي ينشدها في الحياة.
كان الغزاليُّ يسهد ليله في طلب الهدى وتلمُّس أبواب النور، وكانت جفونه تذبل وتتألم، وهو يبحث وراء الصواب، ويطرق تلك الأبواب الخفية التي تتلمسها الروح الضالة في شوق ولهفة؛ علها تظفر بحكمتها وغايتها.
كان يحلم ويتأمل ويطيل التفكير والتأمل؛ لأنَّه يشعر بفراغِ الإيمان يملأ حياته فراغًا، وببرودة الشكِّ تميت حسَّه، وتميت عواطفه، وتميت جوانب الخير في قلبه، كان يحسُّ ضآلة الحياة بلا هدف ولا يقين.
وقد جعل دراساته للعلوم وسيلة من وسائل الاهتداء، كما هي وسيلة من وسائل المعرفة، وقد تدبَّر الفقه طويلًا وهو علم الأحكام والنظم الإسلامية، وكان ينشد فيه أكثر مما ينشد في غيره؛ الإيمان، ولكنه لم يجد فيه سكينة نفسه؛ لأنَّ الغزاليَّ المشبوب الروح، الحار العواطف لا ترضيه تلك المجادلات اللفظية، ولا تلك الأقيسة الجامدة؛ فهو لم يحس قلوب الفقهاء تخفق فيما كتبوا، ولم يلمس أرواحهم ترفرف فيما دبجوا، وهو يريد شيئًا يرضي الروح والقلب.
ودرس علم الكلام ليصل إلى الله، وليقنع نفسه بأدلته، ويرضي قلبه بألحانه ونغمه، وهو علم الشريعة وخلاصة فلسفتها وكنز مجدها، ولكنه وجد الكلاميين يذكرون الله وصفاته وكأنهم يقيمون بناء هندسيًّا، أو يجرون عملية من عمليات الحساب في برودة الحاسبين وجمود عواطفهم وأحاسيسهم.
ودرس الفلسفة وهي مفخرة العقل البشري، ليرضي عقله بآياتها، ثم يرضي يقينه برموزها، ولكن الفلسفة زادته شكًّا بافتراضاتها وألغازها وبقية الوثنية السابحة في معارفها، بل زادته نفورًا من موازين العقل، ونفورًا من الاهتداء بوساطة العقل.
ولجأ إلى التصوف علَّه يشفي غُلَّتَه الصادية، فيذكر لنا «عبد الغافر» كيف أن أبا حامد بعد أن أوغل في دراسة العلم والتبحر فيه، عافه وتبرم به، ولم يجد فيه أية جدوى له، فدار بعينيه يتلمَّس ما يجدي على نفسه ويعده لزاد الآخرة، فاهتدى بهدي «الفارمذي الصوفي» وأخذ عليه، واشترك في حلقات الأذكار معه، ولكنه لم يبلغ من كل ما سلك شيئًا تطمئن به نفسه.
كان يمثل من جديد تلهُّف سيدنا إبراهيم الخليل وتعطُّش روحه إلى الإيمان؛ فهو يتلمس الخالق في ضياء القمر، ثم يشاهده آفلًا فلا يعجبه هذا الأفول، بل يجل الخالق عن أن تعتريه صفة من صفات النقص والتحول، ثم يرى الشمس؛ فيفرح بها، ويطمئن إليها، ويظنها ربَّةَ الأكوان؛ لأنَّها أكبر من القمر وأشد سناء وبريقًا، ثم يراها غاربة فيجحدها وينكرها، ويبحث عن خالقه من جديد؛ حتى أتاه اليقين.
وفي هذا التيه الحار الملتهب عثر الغزاليُّ على رجلٍ شديد الإيمان، شديدِ الورع، هو الإمام الصوفي «يوسف النسَّاج» فصحبه معه، وأخذ يصقل روحه بالرياضة والمجاهدة حتى طرق معه باب اليقين والنور.
كنت في مبدأ أمري منكرًا لأحوال الصالحين ومقامات العارفين، حتى صحبت شيخي يوسف النساج، فلم يزل يصقلني بالمجاهدة حتى حظيت بالواردات، فرأيت الله تعالى في المنام، فقال لي: يا أبا حامد. فقلت: أو الشيطان يكلمني؟ قال لا، بل أنا الله المحيط بجهاتك الست. ثم قال: يا أبا حامد، زر مساطرك، واصحب أقوامًا جعلتهم في أرضي محل نظري، وهم الذين باعوا الدارين بحبي. قلت: بعزتك إلا أذقتني برد حسن الظن بهم؟ قال: قد فعلت، والقاطع بينك وبينهم تشاغلك بحب الدنيا، فاخرج منها مختارًا قبل أن تخرج منها صاغرًا، فقد أفَضْتُ عليك أنوارًا من جوار قدسي. فاستيقظت فرحًا مسرورًا، وجئت إلى شيخي يوسف النساج، فقصصت عليه المنام، فتبسم وقال: يا أبا حامد، هذه ألواحنا في البداية، بل إن صحبتني ستكحل بصيرتك بإثمد التأييد، حتى ترى العرش ومَن حوله، ثم لا ترضى بذلك حتى تشاهد ما لا تدركه الأبصار، فتصفو من الأكدار طبيعتُك، وترقى على طور عقلك، وتسمع الخطاب من الله تعالى كموسى: إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ.
فكان هذا هو الفيصل، وكانت تلك الرؤيا هي خاتمة الجهاد النفسي، وخاتمة الشكوك، وبداية اليقين والإلهام، والخيط الأول في الفلسفة الغزاليَّة الروحانية.
كان التشاغل بالدنيا هو الحجاب الذي يجب على الغزاليِّ أن يمزقه، وكان حب الله والتفاني في عبادته هو قطرة النور الأولى في هذا الفيض، فَتَصوَّف وسلك الطريق، وسار على الجادة؛ حتى كان طليعة القوم ودليل القافلة.
كان هذا الحب الإلهي هو إلهامه ودليله ورائده، فأصبحت رسالته عبادة ومحبة، وقد صبغ الوجود، وأفنى ذاته في جلال تلك المعاني حتى غدا العلم لديه تعبدًا؛ لأنَّه يريه الله في كل شيء، ولأنه يجعل الطبيعة أمامه محاريب دائمة للصلاة والفِكر.
وهكذا لجأ الغزاليُّ إلى الاعتكاف والعزلة في جوانب المساجد ومناراتها، يعبد الله ويتأمل في آياته، ويفنى حبًّا وغرامًا.
سعادة كل شيء لذته وراحته، ولذة كل شيء تكون بمقتضى طبعه، وطبع كل شيء ما خلق له؛ فلذة العين في الصور الحسنة، ولذة الأذن في الأصوات الطيبة، وكذلك سائر الجوارح بهذه الصفة، ولذة القلب الخاصة بمعرفة الله سبحانه وتعالى؛ لأنَّه مخلوق لها، وكل ما لا يعرفه ابن آدم إذا عرفه فرح به مثل الشطرنج إذا عرفها فرح بها، ولو يُنْهَى عنها لم يتركها، ولم يطِقْ عنها صبرًا، وكذلك إذا وقع في معرفة الله سبحانه وتعالى فرح بها ولم يصبر عن المشاهدة؛ لأنَّ لذة القلب المعرفة، وكلما كانت المعرفة أكبر كانت اللذة أكبر؛ ولذلك فإن الإنسان إذا عرف الوزير فرح، ولو عرف المليك لكان أعظم فرحًا، وليس موجود أشرف من الله سبحانه وتعالى؛ لأنَّ شرف كل موجود به ومنه، وكل عجائب العالم أثر من آثار صنعته، فلا معرفة أعز من معرفته، ولا لذة أعظم من لذة معرفته، وليس منظر أحسن من منظر حضرته، وكل لذات شهوات الدنيا متعلقة بالنفس، وهي تبطل بالموت، ولَذَّة معرفة الله متعلقة بالقلب فلا تبطل بالموت؛ لأنَّ القلب لا يهلك بالموت، بل تكون لذته أكثر وضوءُه أكبر؛ لأنَّه خرج من الظلمة إلى النور.
فالغزاليُّ يقرر في ثقة يقينية ووضوح وصراحة بأن الحياة الفاضلة السعيدة هي معرفة الله وعبادة الله ومحبة الله؛ تلك هي الغاية العليا والهدف الأسمى؛ لأنَّ كل لذة سواها فانية، وكل غاية سواها لاغية.
فإن كان «شوبنهور» لخَّص فلسفته كلها في كلمة واحدة هي جماع رسالته؛ إذ يقول: «إن الحياة إرادة»، وإذا كان «نيتشه» جعل آيته الذهبية قوله: «الحياة هي القوة»؛ فإن آية الغزاليِّ ورسالته: «الحياة محبة وعبادة.»
وبذلك يلتقي الغزاليُّ بالفيلسوف الروماني «سنكا» الذي كان يقول: «ولدنا خاضعين لأحكام الله، فمن أطاع الله كان حرًّا آمنًا سعيدًا»، ويتفق مع «أرسطو» في قوله: «الأشرار يطيعون خيفة، والصالحون على حبٍّ.»
وقد أعدَّ الغزاليُّ نفسه لتلك الرسالة بالتطهر والصفاء والاعتكاف الكامل، كان يتعبد تعبد العاشقين الوالهين.
ثم غادر محاريبه وخلواته ليزاحم الإنسانية في موكبها وليرشدها إلى طريقها. رأى الغزاليُّ الناس يسيرون في مواكب الحياة لا يدرون لماذا هم سائرون، ولا يسألون لماذا يسيرون! شَاهَدَ القطيع البشري لا يعرف الراحة، ولا السعادة ولا السلام، ولا يدرك نعمة الاستقرار الكبرى، شَاهَدَ دنيا يمزقها التعب والبغضاء، فنادى بمعاني الحياة المقدسة، وأرشد إلى غاية الوجود العليا، فأذاق المتعبين المجهدين الضالين رحيق الراحة، ونعيم المحبة، وسِحر السلام.