هل للمعرفة طريق باطنية غير الحواس الخمس؟
الكشف الباطني يشغل جانبًا ضخمًا من رسالة الغزاليِّ؛ إذ هو في طليعة رجال الفكر الإسلامي، بل العالمي الذين آمنوا بإلهامات الروح، بل وجعلوا من تلك الإلهامات وسائل وغايات للإرشاد والهداية.
وقد اختلف المفكرون قديمًا وحديثًا في طريق المعرفة، وهل تتأتى عن طريق الحواس الخمس فحسب؟ أم لها سُبل وطرق باطنية إلهامية أخرى؟
فالماديون منهم لا يرون للمعرفة بابًا إلا الحواس الخمس المتصلة بالعالم الخارجي، ويقررون أن لا مصدر فوق هذا تهبط منه المعرفة، غير الخيال والتصور، وهم شديدو التهكم برجال الكشف الباطني ومَن سلك مسلكهم من أرباب القلوب أو الرياضة العقلية، ذلك سبيل أصحاب المذاهب المادية من الفلاسفة.
أما الصوفية والروحانيون، على اختلاف أديانهم وألوانهم ومذاهبهم، فيقررون أن للعلم وسائل باطنية تصل بين النفس الإنسانية والعالم الروحاني، يلمسها كل من صفت نفسه من أدران المادة، وتخلصت من شوائب الحياة، فيحصل من هذا الطريق على أسرارِ الوجود وخفايا الخلود، وحِكَمٍ تعلو على الحواس الخمس والمعارف التي تدركها هذه الحواس.
والعلم الحديث القائم على الاستقراء والمشاهدة يعترف في صراحة بأن للمعرفة وسائل أخرى غير الحواس الخمس، وأن هناك إلهامات روحية غامضة لا سبيل إلى معرفة أسرارها أو إنكارها أو التهكُّم عليها.
فمسألة العقل الباطني، والتنويم المغناطيسي الذي عجز الماديون عن إنكاره أو تشكيك النفوس فيه، ما هو إلا ضربٌ من ضروب الأرواح السابحة التي يمكن للأرواح البشرية أن تلتقي بها، وتتحدث إليها، وترشف من نبعها ومعارفها ما شاءت من أسرارٍ وفنون.
وقد دلَّ العلم الحديث على أن المنوَّم تنويمًا مغناطيسيًّا بعد أن تتعطل حواسه يتقمص شخصية أرقى من شخصيته، وتتلبسه روح عاقلة واسعة الإدراك سامية المعارف، تتحدث عن أدقِّ المسائل وأغمض المسالك.
ومن مشاهدات العقل الباطني ما يلمح في كثير ممن نفذ إليهم شعاعه في ناحية خاصة كالحسابين على البديهة، وهم طائفة تُلْقَى عليهم أغمض المسائل الرياضية وأدقها والتي تحتاج إلى زمن كبير في التفكير والعمل، فيجيبون عنها فورًا وهم لا يدرون ولا يعرفون كيف ولا متى حصل هذا!
وهناك أطفال يوقعون على الموسيقا قطعًا وألحانًا يعجز عنها أئمة هذا الفن، وهم لا يعرفون كيف صنع هذا اللحن أو رتب ذاك النغم!
وقد كتب الشاعر «موسيه» عن نفسه فقال: «أنا لا أعمل ولكني أسمع فأفعل، فكأن إنسانًا مجهولًا يناجيني في أذني»، وكان «لامارتين» يقول: «لست أنا الذي يفكر، ولكن هي أفكاري التي تُفَكَّر لي»، وروى الشاعر «رينيه» أنه قد ينام غالبًا وهو يعمل قطعة من الشعر لم تتم، فيستيقظ فيجدها تامَّة في اليوم التالي عندما يفكر فيها. أما «سقراط» فقد كان يسمع بأذنيه ما تلقيه إليه الروح.
بل إن هناك مذاهب فلسفية قديمة قامت بأسراها على المناجاة الروحية والاتصال بالله، ﻓ «أفلوطين» في مدرسة الإسكندرية يرى: «أن الجذب والفيض هما السعادة التي ليست وراءها سعادة»، و«مالبرتش» في القرن السابع عشر يقول باتصالٍ مستمر بين العبد وربه، فمعرفتنا ليست إلا فيضًا من الله، وما يبدو منا من عمل خارجي ليس إلا ظروفًا ومناسبات لتحقيق إرادة الله، وبهذا يتلاشى المخلوق في الخالق، ويندمج الأثر في المؤثِّر.
وأرسطو الذي كان واقعيًّا في بحثه وطرقه، ورجل مشاهدة وتجربة في ملاحظاته واستنباطاته؛ قد انتهى به الأمر إلى أن بنى دراسته النفسية على شيء من الفيض والإلهام.
ومن مذاهب العلم الحديث «مذهب المتأملين» الذين يؤمنون بالتأمل ويفضلونه على القراءات والدراسات. فأصحاب المذاهب الفكرية وقادة الرأي لديهم كانوا من المتأملين، ولم يكونوا من الذين أفنوا حياتهم في البحث والدرس.
والصوفية في الإسلام تحمل لواء الكشف الباطني، وقد ازدحمت مكاتب الفكر الإسلامي بتراث ضخم للصوفية التي حوت معارفها ينابيع من العلوم والفنون، أثارت جدلًا وحوارًا، ولا تزال تثير جدلًا وحوارًا.
ولا ريب في أن الصوفية قد وجدت في الغزاليِّ قائدًا بارعًا ومحاميًا لبقًا وشارحًا ساحرًا، يأسر القارئ إلى صفوفه ويكسب المعارك بفنونه، فاستطاع أن يجعل منها علمًا واضحًا مهذبًا، أو كما قال العلامة ماكدولاند: «إن الصوفية بلغت بفضله ونفوذه وتأثيره مكانًا ثابتًا وطيدًا في الإسلام.»
وتفوُّق الغزاليِّ في تاريخ التصوف مرجعُه إلى تفوقه العلمي؛ فقد درس العلوم الفلسفية والتقليدية والجدلية والمذهبية دراسة لم تتيسر لكاتب صوفي سواء تقدم به تاريخ الزمن أم تأخر.
وبذلك أصبح الغزاليُّ هو كاتب الصوفية الأول، وبفضله وضحت أسرارها ومعانيها، وتحددت أهدافها ومراميها، وكما حطم نفوذ الفلسفة في المشرق بعد سيادة وهيمنة أطلق علم التصوف في السماء، يسبح خفَّاقًا في قداسة ونور وإجلال.
والغزاليُّ يؤمن بأن معارف الباطن هي طريق الهداية؛ لأنَّها اتصال مباشر بالحقائق الخالدة والأسرار النورانية، وصلة مستمرة بين العبد والخالق، أساسها المحبة المتبادلة والإلهامات المشرقة.
وقد أطلق الصوفيون على المعرفة الروحية لقبًا يجعلها أصلًا من الأصول، لا فرعًا من الفروع؛ فأسموها علوم الباطن، وأقاموا ثقافتهم وعبادتهم على أساسها.
إنه عبارة عن نور يظهر في القلب عند تطهيره وتزكيته من صفاته المذمومة، وينكشف من ذلك النور أمور كثيرة كان يسمع من قبل أسماءها فيتوهم لها معاني مجملة غير متضحة، فتضح إذ ذاك حتى تحصل المعرفة الحقيقية بإدراك حقائق علم الدنيا وعلم الآخرة، وهذا ممكن في جوهر الإنسان، لولا أن مرآة القلب قد تراكم صدؤها وخبثها بقاذورات الدنيا، ولا سبيل لهذا العلم إلا بالرياضة والتعليم، وهذه هي العلوم التي لا تسطر في الكتب أو لا يتحدث بها من أنعم الله عليه بشيء إلا مع أهله، وهذا هو العلم الخفي الذي أراده ﷺ بقوله: «إن من العلم كهيئة المكنون لا يعلمه إلا أهل المعرفة بالله، فإذا نطقوا به لم يجهله أهل الاغترار بالله.»
واعلم أن انقسام هذه العلوم إلى خفية وجلية لا ينكرها ذو بصيرة، وإنما ينكرها القاصرون، وقد قال ﷺ: «إن للقرآن ظاهرًا وباطنًا، وحدًّا ومطلقًا»، وقال علي، وأشار إلى صدره: إن هاهنا علومًا جَمَّة لو وجدت لها حَمَلَة، وقال أيضًا: لو أردت أن أفسِّر الفاتحة بما أعلم لاحتجت إلى ثمانين بعيرًا، وقال ابن عباس في قوله تعالى: الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ: لو ذكرت تفسيره لرجمتموني، وقال أبو هريرة: «حفظت من رسول الله وعاءين؛ أما أحدهما: فبثثته، وأما الآخر: لو بثثته لقُطع هذا الحلقوم»، وقال الرسول: «ما فضلكم أبو بكر بكثرة صيام ولا صلاة، ولكن بسر وقر في صدره»، وقال سهل التستري: للعالِم ثلاث علوم: علم ظاهر يبذله، وعلم باطن لا يسعه إظهاره إلا لأهله، وعلم هو بينه وبين الله لا يظهره لأحد. فإن قيل: إذن؛ الظاهر خلاف الباطن، وفي هذا إبطال للشرع. كان الجواب: إن الشرع عبارة عن الظاهر، والحقيقة عبارة عن الباطن، وإن كان لا يناقضه ولا يخالفه، ولا يكون للشرع سر لا يُفشى، بل يكون الخفي والجلي واحدًا، وإنما هو اختلاف العقول والأفهام والظرف والمكان، وإن هناك من يدرك الشيء جملة ثم يدركه تفصيلًا بالتحقيق والفروق، وذلك كما يتمثل للإنسان في عينه شخص في الظُّلمة أو على البعد، فيحصل له نوع علم، فإذا رآه بالقرب أو بعد زوال الظلام أدركه إدراكًا أوفى.