الصراع بين الغزاليِّ والفلاسفة
إن الصراع الذي أثاره الغزاليُّ وحمل لواءه ضد الفلسفة والفلاسفة ليحتل من الثقافة الإسلامية وتاريخ الفكر العام جانبًا خطيرًا؛ فقد انتظم في الاهتمام به رجالُ الفكر في مختلف العصور والأزمان على اختلاف ألوانهم ومذاهبهم.
فقد كان للفلسفة في الشرق سيادة وجلال، بل لقد كادت الفلسفة أن تحل مكان الدين، فاستحوذت على الذهن والتفكير واتسعت التصورات، وانتشرت التأملات الفلسفية، وجرى الناس وراء النظريات والجدل جريًا أتعبهم وأتعب معتقداتهم وأتعب الحياة معهم.
ولا شكَّ في أن علماء الكلام الإسلاميين قد استفادوا من الفلسفة؛ فالإمام الأشعري وهو ثاني اثنين أو ثالث ثلاثة أحدثوا أكبر انقلاب فكري في تاريخ الإسلام قد استعان بكثير من النظريات العلمية الفلسفية لتدعيم علم الكلام، وتقوية حججه وطرائق بحثه.
كما أثرت الفلسفة في أدلة الفقه وطرائق بحثه، وأثرت أكثر من هذا في رجال العقل الإسلامي؛ فقد بذل الفلاسفة الإسلاميون كثيرًا من الجهود في سبيل التوفيق بين الفلسفة والدين؛ فابتدعوا مذهبًا وسطًا في علوم ما وراء الطبيعية، وابتكروا نظريات تتأرجح هنا وهناك للمصالحة والتوفيق بين فلسفة الإغريق ونظم الإسلام.
ورغم هذا فقد رهبها رجل الفقه، كما رهبها رجل الكلام؛ فحاربوها وجادلوها وابتدعوا لحربها علوم التوحيد.
وجاء الغزاليُّ وطبول الحرب تدوي باسم الدين، وحماية الجماهير من لوثة الوثنية والتضليل والتشكيك العقلي.
جاء والنزاع بين الفلسفة والدين هو موضوع الساعة، كما هو موضوع الساعة أبدًا في كل العصور والدهور؛ فمشكلة العقل والدين مشكلة خالدة، ما دام هناك فكر يسبح ووحي يُتبع.
وكان لا بدَّ للغزاليِّ من خوض المعركة؛ فقد اجتمعت في يديه أسلحة لم تجتمع لغيره، ولقلمه جولات يترقبها جيله ويرمقها بالإجلال والإكبار، وهو رجل قتال وكفاح، يلبي الصيحة ويحمي حماه.
أرسل الغزاليُّ صيحة لا تعرف المجاملة ولا اللين، ففض في صراحة وعنف النزاع بين العقل والعاطفة، والوحي والفلسفة.
وأحدثت تلك الصيحة دويًّا، فهي صيحة جديدة النغم ساحرة اللحن قوية اليقين، فقد كان الغزاليُّ هو المفكر الأول والوحيد الذي لم يكتفِ مثل علماء الكلام باقتباس عدة مباحث متفرقة للفلاسفة ثم نقضها؛ بل قام لهدم البناء كله، ذلك البناء الذي أنشأه الإغريق وهذبه الفلاسفة المسلمون.
ولم يكن الغزاليُّ هادمًا فحسب، بل أقام من أنقاض البناء الفلسفي الذي هدمه على رءوس أصحابه صروحًا من الفلسفة الأخلاقية الدينية، لا يزال يعمرها المسلمون إلى اليوم.
والغزاليُّ لم ينكر الجانب العقلي والرياضي من الفلسفة، بل اعترف بهما وتركهما للموازين العقلية، وإنما حطَّم جانب ما وراء الطبيعة، وحطم معه الفلاسفة بتهم المروق والزندقة.
والغزاليُّ بعد ذلك — كما يقول العلامة ماكدولاند — أوَّلُ من أدنى الفلسفة وقرَّب بحوثها الدينية أو الإلهيات من متناول الذهن العادي وتعاطي الناس عامة لها، وكانت من قبله محفوفة بالأسرار مكتنفة بالغموض والرهبة، كأنها علم لاهوتي لا يدركه غير أصحابه والراسخين فيه؛ لما كان لاصطلاحاتها من الغرابة على الأذهان، حتى لتقتضي معرفتها الدرس المجهد، والاستظهار الشاق، وكان من الصعب تفهمها ودراستها، فقد انتقلت النظريات والمذاهب والأفكار اليونانية بأكثر مصطلحاتها وتعبيراتها إلى السريانية أولًا ثم إلى العربية، وأوجب هذا الانتقال تصحيفًا وتحريفًا عند التعريب، وكان لا بدَّ من طول دراسة وتقص متواصل قبل معرفة مصطلحات الجدل والإلمام بعلم المناظرة.
فلما جاء الغزاليُّ مزَّق الحب وأطلق النور في الظلمات، فإن كتابه «تهافت الفلاسفة» لم يكتب لطلاب الفلسفة، وإنما كتب للجماهير كافة، وقربت مناهله وموارده لسائر الوُرَّاد والقاصدين، وهذا ما أغضب ابن رشد؛ فاتهم الغزاليَّ بأنه أباح العلم للعامة وأفقده أرستقراطيته.
أما بعد، فإني التمست كلامًا شافيًا في الكشف عن تهافت الفلاسفة، وتناقض آرائهم، ومكامن تلبيسهم وإغوائهم، ولا مطمع في إسعافك إلا بعد تعريفك مذاهبهم، وإعلامك معتقدهم؛ فإن الوقوف على فساد المذاهب قبل الإحاطة بمداركها محال، بل رمي في العماية والضلال؛ فرأيت أن أقدم على بيان تهافتهم كلامًا وجيزًا مشتملًا على حكاية مقاصدهم في علومهم المنطقية والإلهية، من غير تميز بين الحق والباطل، بل لا أقصد إلا تفهم غاية كلامهم من غير تطويل.
وحينما فرغ الغزاليُّ من تلك الرسالة، عمد إلى أخرى أشد صعوبة وأكثر التواء، وذلك هو تصديه لكل هؤلاء، والتمييز بين حقهم وباطلهم.
درس الغزاليُّ المذاهب الفلسفية كافة، ثم لخَّصها وركزها في عشرين مسألة رئيسية، استطاع أن يزيفها في قوة وتفوق تزييفًا جرَّ عليه عداء الفلاسفة عداءً ملتهبًا قاسيًا، حتى إن ابن رشد كان يلقبه ﺑ «الجاهل الشرير».
ولكنه من الناحية الأخرى رفع له مكانًا في الشرق، وخاصة بين الدينيِّينَ لم يستطع باحث أن يزاحمه فيه رغم توالي السنين والقرون.
ولا جدال في أن الغزاليَّ قد نجح في حملته نجاحًا باهرًا؛ لمكانته العلمية ولسلطانه الواسع على النفوس والقلوب، نجاحًا نلمس أثره قويًّا واضحًا في الشرق؛ إذ أصبح اسم الفلسفة فيه حليفَ الزندقة والإلحاد.
ولقد أنتجت تلك الحركة ثمارًا طيبة؛ لأنَّها خففت من غلواء المذاهب الفلسفية، وأبعدت فتنتها عن كثير من العقول، إلا أنها كانت كما يقول الغزاليُّ في موازينه العلمية: «إن لكل شيء وجهين؛ وجه خير ووجه شر.» لأنَّها أنتجت من الناحية الأخرى فكرة متطرفة مسرفة في التطرف، ترمي إلى النفور من الفلسفة طالحها وصالحها بلا تمييز أو تفكير.
وبلغ من الغلو في تلك الناحية أنْ حرَّم كثير من علماء الدين البحوثَ العقلية، بل اتخذ هذا التحريم حجة في المناقشات ودحض البراهين، حتى أصبح شعارًا للجامدين من الفقهاء رميُ المفكرين بالزندقة والإلحاد.
والغزاليُّ لم يقصد هذا ولم يرم إليه، وإنما جرح من الفلسفة كل ما يتعارض مع أصول الدين وقواعده، وأما ما عدا ذلك فقد دافع عنه بحرارة وغذاه وأوضحه، ونشره على الخافقين في بحوثه ودراساته.
يقول الغزاليُّ في مقدمة كتابه «تهافت الفلاسفة» ما خلاصته: «إن الفلاسفة من عهد أرسطو إلى عهدنا هذا قد بنوا مذاهبهم في الإلهيات على ظنٍّ وتخمين، من غير تحقيق ويقين، ويستدلون على صدق علومهم الإلهية بظهور العلوم الحسابية والمنطقية، ويستدرجون بهذا ضعفاء العقول، ولو كانت علومهم الإلهية متقنة البراهين نقية عن التخمين كعلومهم الحسابية لما اختلفوا فيها، كما لم يختلفوا في الحسابية والمنطقية.»
وبهذا المنطق القوي الواضح السائغ ناقش الغزاليُّ الفلاسفة، فحطم ونقض جميع ما دبجت أقلامهم في الإلهيات وعلوم ما وراء الطبيعة.