الغزاليُّ ينشد الحقَّ ولا يتقيد بالمذاهب
بعد أن طوف الغزاليُّ في آفاق العلوم التقليدية والعقلية والمذهبية، وبعد أن صقل روحه بالمجاهدات والكشف الباطني، استنَّ لنفسه نهجًا مستقلًّا؛ فهو طالب حقٍّ وحكمة، شعاره: «لا تعرف الحق بالرجال، بل اعرف الحق تعرف أهله»، وبهذا ابتدع الغزاليُّ مذهبًا فريدًا بين مذاهب الفكر الإسلامي.
فهو لا يتقيد ولا يقيد نفسه بالانتساب إلى فرقة ما، أو مذهب خاص، أو يربط تفكيره إلى مركبة جماعة من جماعات العلم يفكر بتفكيرهم؛ فيصوِّب ما يصوِّبون، ويخطِّئ ما يخطِّئون.
بل هو ينشد الحق والحق وحده أينما وجد، وأيَّ لسان به نطق؛ فيأخذ من آراء المتكلمين ما يؤمن به، ومن آراء الفقهاء ما يعتقده بلا عصبية أو جمود. فهو يبيح لنفسه الاجتهاد، بل يبيح لكل إنسان الاجتهاد؛ ليكون صاحب مذهب ورأي لا عبدًا من عبيد التقليد والمذاهب.
لعلك تقول إن كلامك في هذا الكتاب انقسم إلى ما يطابق مذهب الصوفية، وإلى ما يطابق مذهب الأشعرية وبعض المتكلمين، ولا يفهم الكلام إلا على مذهب واحد. فما الحق من هذه المذاهب؟ فإن كان الكل حقًّا، فكيف يتصور هذا؟ وإن كان بعضه حقًّا فما ذاك الحق؟
اطرح المذاهب، فليس مع واحد منهم معجزة يترجح بها جانبه. فاطلب الحق بطريق النظر، لتكون صاحب مذهب، ولا تكن في صورة أعمى مقلد، وإنما خذ الحق أينما وجدته، وفي أي ناحية كان، واطلب الحق بالنظر لا بالتقليد؛ فالحكمة ضالة المؤمن يلتقطها أينما وجدها.
وتلك رحابة فكرية من الغزالي لم تعرف لغيره من رجال الدين؛ فهو ينشد الحق لا المذهب، ويعرف الحق أولًا ثم الرجال، لا الرجال أولًا ثم الحق.
وهو يرى أن العصبية لمذهب ما تَحْرِمُ الإنسان من جني ثمراتٍ طيِّبةٍ في غيره. فليس مذهب ما مهما عاديناه وخاصمناه يخلو من فكرة رائعة، ونظرة صائبة ولو في جانب واحد، ومذهبنا الذي نعتنقه مهما أحببناه وقدسناه لا يخلو من ضعف ولو في فكرة واحدة من طرائق بحثه وعرضه، فَلِمَ نقيد أنفسنا، والعلم كالفكر يجب أن نحرره من العصبية، فننشده في كل أفق ونطلبه في كل نبع؟!
وهي فلسفة غزالية مبتكرة في التفكير الإسلامي، بل هي فلسفة غدت اليوم من سمات العلماء المجددين.