جهاد الغزاليِّ
بعد أن تطهر الغزاليُّ في عزلته، وبعد أن أعدَّ نفسه إعدادًا عقليًّا وروحيًّا لرسالته الإصلاحية، وبعد أن آمن بأن لديه مسببات النجاة لهؤلاء الذين يسيرون في الحياة بلا غرض ولا غاية ولا هدف نبيل، يسيرون تعلو وجوههم علامات التعب والأسى، وتزخر قلوبهم بشهوات النفس والهوى، وتموج عقولهم بالترهات والأكاذيب والضلال؛ فارق اعتكافه وعزلته ليحمل راية الجهاد، راية الأنبياء والمصلحين والقادة.
فهو يعتقد أن الاعتكاف والعزلة والنجاة بالنفس أوهى درجات اليقين والإيمان، أما الجهاد في سبيل الخير والإصلاح وتهذيب الإنسانية وهديها فهو رسالة الأنبياء، ورسالة العلماء الذين هم ورثة الأنبياء، والحفظة على تشريعهم، فإن كان الورع والزهد عبادة فالجهاد لإصلاح حالة المجتمع هو أسمى حالة التقوى، بل هو روح العبادة ونورها وعلامة اليقين والإجلال لها.
فارق الغزاليُّ عزلته ليواجه الحياة برسالته، وهو يعلم أن دون تلك الرسالة أهوال وعقبات، ولكن الإيمان لا يروعه هَوْل، ولا يفل من عزمه مشقة الطريق ووعورة المسالك.
- (١)
الخوض في الفلسفة.
- (٢)
الخوض في طريق التصوف.
- (٣)
الانتساب إلى دعوى العلم.
- (٤)
سوء أخلاق العلماء.
أخذتُ أسأل المقصر: ما لك تقصر؟ إن كنت مؤمنًا بالآخرة فلماذا لا تستعد لها؟ وإن كنت لا تؤمن بالآخرة وإنما لا تستطيع المجاهرة فأنت منافق ضائع الرأي! فكانت الأجوبة كما يأتي:
فمِن قائل يقول: هذا أمر لو وجبت المحافظة عليه لكان العلماء أجدر بذلك، وفلان من المشاهير بين الفضلاء والعلماء لا يصلي، وفلان يشرب الخمر، وفلان يأكل أموال الأوقاف وأموال اليتامى، وفلان يأخذ الرشوة على القضاء والشهود، وهؤلاء قد ضلوا بالقدوة السيئة.
وقائل ثانٍ يدعي علم التصوف، ويزعم أنه قد بلغ مبلغًا ترقى به عن الحاجة إلى العبادة.
وثالث يتعلل بشبهة أخرى من شبهات أهل الإباحة، ويزعم أن مشايخه قد فعلوا وقد أفتوا، وهؤلاء ضلوا عن التصوف.
ورابع اشتغل بالعلوم والمذاهب، فيقول: الحق مشكل، والاختلاف فيه كثير، وليس بعض المذاهب أولى من بعض، وأدلة العقول متعارضة؛ فلا ثقة برأي أهل الرأي!
وخامس يقول: أنا أعظم من أن أقلد، فقد قرأت الفلسفة وأدركت حقيقة النبوة، وقد بلغت مرتبة من الحكمة، والمقصود من العبادة ضبط عوام الخلق وتقيدهم عن التقاتل والتنازع والاسترسال في الشهوات، فما أنا من العوام الجُهَّال حتى أدخل تحت نير التكليف، وإنما أنا من الحكماء أتبع الحكمة.
حتى إن بعضهم كان يشرب الخمر، ويقول: إنما نهي عن الخمر؛ لأنَّها تورث العداوة والبغضاء، وأنا بحكمتي متحرز عن ذلك، وإني أقصد بها شحذ خاطري. حتى إن ابن سينا كتب: «أنه عاهد الله أن لا يفعل كذا وكذا، ولا يشرب الخمر تلهيًا، بل تداويًا وتشافيًا.»
فلما رأيت ذلك اعتزمت كشف أسرارهم، وتحطيم تلك الأصنام من العلماء والفلاسفة؛ لكثرة خوضي في علومهم وطُرقِهم، أعني الصوفية والفلاسفة ودعاة الفقه والعلم.
وإذن؛ ففساد القادة، وضلال الأتباع، والجهل بالشريعة؛ كانت دوافع الغزاليِّ في تركه العُزلة، وإعلانه الجهاد، وقيامه بالدعوة إلى تجديد الروح الإسلامي، والآداب الإسلامية والأخلاق النبوية.
وفي سبيل تطهير المجتمع الإسلامي رفع الغزاليُّ لواء رسالته الأخلاقية، وهي من أجلِّ جوانب رسالته العامة.
ولو سئل فقيه عن معنى الإخلاص أو التوكل أو وجه الاحتراز من الرياء لتوقف فيه، ولو سألته عن اللعان والظهار لسرد عليك مجلدات من التفريقات الدقيقة التي تنقضي الدهور ولا يحتاج إلى شيء فيها، وهو لا يزال يتعب ليلًا ونهارًا في حفظها ودرسها، ويغفل عن روح الإسلام ومعانيه.
وإذا روجع فيه قال: اشتغلت به؛ لأنَّه علم الدين وفرض كفاية، ويلبس على نفسه وعلى غيره في تعلمه.
ولو كان غرضه الحق في تعلم فرض الكفاية لَقَدَّم عليه فرض العين، بل قدَّم عليه كثيرًا من فروض الكفاية، فكم من بلد ليس فيه طبيب إلا من أهل الذِّمة، ثم لا ترى أحدًا يشتغل به ويتهاترون على علم الفقه لا سيما الخلافيَّات والجدليَّات، والبلد مشحون من الفقهاء.
فليت شعري! كيف يرخص فقهاء الدين في الاشتغال بفرض كفاية قد قام به جماعة إهمال ما لا قائم به؟ هل لهذا سبب؟ إلا أن الطب ليس متيسرًا به الوصول إلى تولي الأوقاف والوصايا وحيازة أموال اليتامى، وتقلُّد القضاء والحكومة والتقدم به على الأقران والتسلط به على الأعداء.
تلك أخلاق العلماء والفقهاء في عصره، وهذا مبلغها من الفساد وفهم الشريعة والأخلاق، وإذا فسد العلماء والفقهاء فسدت الجماهير وفسدت الصورة النبيلة التي للدين.
وقد استطاع الغزاليُّ أن يظفر بنصر كامل، بل استطاع أن يدفع قافلة الحياة في عصره إلى وجهة جديدة، وأن يحمل الناس على نهج جديد لا تزال آثاره تسود عصرنا وتهيمن على توجيهاته رغم القرون والأحقاب.
يقول العلَّامة ماكدولاند: «إن الغزاليَّ عاد بالناس من الجري في أثر النظريات والجدل، والفقه والمنطق والعلوم الدينية، واختلاف المذاهب والطرق، إلى الحياة الحقيقة والاتصال المُلَابس للدين والسُّنة والكتاب، بل إلى روح الدين ذاته وجوهره ولبابه دون القشور والسطوح والمسائل النظرية الكثيرة العقد، وإن ما وقع في أوربا عند تحطيم نير الفلسفة المذهبية في القرون الوسطى، بل إن ما هو اليوم بالذات واقع بسبيل هذا، ونحوه قد وقع بالفعل في الإسلام لعهد إمامة الغزاليِّ وزعامته الفكرية، وقيامه بدعوته وأداء رسالته.
وقد كان في وسعه أن يكون فقيهًا مع الفقهاء ومذهبيًّا مع المتبذهبين، ولكن طريقته في الحق وفضله ينحصران في توفره على إبراز الكتاب والسنة، وجعلهما أساسًا علميًّا لا تحوُّل عنه ولا تبديل له، وقد ظهر دائمًا أن الانطلاق من البحث النظري عن الحقائق والجدل فيها، والحوار المقيم عليها، إلى الأخذ بهذه الحقائق الأساسية في غير جدلٍ عقيم، وبحثٍ غير مجد؛ هو في الواقع الفرار من النزعة المذهبية، والتخلص من نيرها المستبد الأليم.
وقد حاول الإمام أبو الحسن الأشعري ذلك بالذات قبل الغزاليِّ بمائتي سنة، كما حاوله ابن رشد كذلك بعد مائة سنة من رحيله، وكما فعل في عهدنا هذا «إسبرنجر» إذ أراد أن يُدخل حياة جديدة على الإسلام في الهند فلم يوفَّق وعاد فاشلًا، ونحسبه لم ينجح لأنَّ المهمة كانت شاقة عصيبة عليه، أو لأنَّه لم يكن له من الإيمان والشخصية ما كان للغزاليِّ من ذلك كله.»
ولا جدال في أن الغزاليَّ — كما يقول ماكدولاند — قد انتصر بإيمانه وشخصيته، وما كان لرجلٍ أن ينتصر في تلك المعركة إلا بإيمان لم يَهِن، بل يلهم وينتصر، وشخصية تحمل جيلها على الإجلال والإيمان.