في عرين الأسد
اجتاز «أحمد» الدهليز جريًا … ثم فتح الباب ودخل المطعم وشاهده الشياطين الثلاثة … وفهموا من إشارات يدَيه المطلوب، فأسرعوا يُغادرون المطعم إلى سيارتهم … بينما عاد «أحمد» مُتباطئًا حتى يُعطيهم الفرصة لركوب السيارة … عندما ظهر «أحمد» عند الباب الجانبي الضيق … وجد سيارةً في انتظاره وبداخلها «روشيه» الذي كان قلقًا، وقال: أسرع … إن المسافة بعيدة … وهناك مُهمة عاجِلة في انتظارك.
انطلقت السيارة في شوارع «روما» تحت سماءٍ ممطرة وضباب … وأضواء تُبدِّد بصعوبةٍ ظلامَ الليل الشتوي البارد.
كان «أحمد» يجلس صامتًا، يتمنَّى ألا يتحدث إليه «روشيه» أو يسأله … فليست عنده أية معلوماتٍ عن رحلة «كارلو» إلى «سيسيلي».
والشيء الوحيد الذي استنتجه أنَّ العصابة بعد انضمامه إليها أرسلته إلى عاصمة «المافيا» في «سيسيليا» حيث اختفى عن أعين الشرطة … وفي نفس الوقت لتُعلِّمه فنون قتال العصابات وغيرها من «التخصصات» التي تحتاجها العصابة الشهيرة من فتح الخزائن … ونسف الأماكن … وتهريب المخدرات وغيرها …
ولِحُسن الحظ ظل «روشيه» مُستغرقًا في خواطره … والسيارة تقطع الشوارع ببطء … فالأرض زلقة والسيارة تكاد تفقد تَوازُنها …
وبعد نحو ثلاثة أرباع الساعة … تجاوزت السيارة الطرق المُزدحمة … ودخلت إلى الريف الإيطالي الهادئ … وأخذت السيارات تُقلِّل من سرعتها تدريجيًّا … وخشي «أحمد» أن تلفت سيارة الشياطين أنظار «روشيه» أو السائق … ولكنَّ شيئًا من ذلك لم يحدث …
وأشرفوا على سورٍ من الأسلاك الشائكة … وخلفه سورٌ آخر من الأشجار والحشائش العالية … وأطلق السائق الضوء ثلاث مرَّاتٍ مُتتالية … ثم أطفأ أنوار السيارة نحو نصف دقيقة، ثم أطلقها ثلاث مراتٍ أُخرى … وانفتحت بوابة في السور واجتازتها السيارة.
بدأ «أحمد» يُحِسُّ بنوعٍ من الاضطراب … ولكنه ظلَّ متماسكًا أعصابه، حتى وقفت السيارة أمام قصرٍ عتيق مَبنِي على الطراز الروماني ذي الأعمدة الرخامية … وقال «روشيه»: لعلك تذكر أنك أتيتَ إلى هنا من قبل!
رد «أحمد»: نعم.
روشيه: لقد قضيتُ هنا أول ليلة بعد انضمامك إلى العصابة.
أحمد: نعم.
وفتح باب القصر على الفور، وقال «روشيه»: ستقابل «بوكاشيو» الآن.
لم يرد «أحمد»، وكان مشهد القصر من الداخل مُثيرًا … فقد كان مفروشًا بأفخر أنواع الأثاث … وقد وقف في أركانه عددٌ من الحراس … وتحدث «روشيه» في صوتٍ خافت إلى شخصٍ تقدَّم منه … ونظر الرجل إلى «أحمد» لحظاتٍ ثم قال: لقد تغيرتَ قليلًا يا «كارلو» … ولكن صحتك الآن أفضل مما كانت … لقد اعتنى بك الرفاق في «سيسيلي».
ولم يرد «أحمد» وسار خلف الرَّجُلَين إلى بابٍ مغلق فتح بعد أن دقَّه أحد الرجلين … ودخلوا إلى غرفة نوم هادئة الأنوار، تنتشر فيها رائحة السيجار … وبها فراش ضخم جلس فيه رجلٌ عجوز … ضئيل الحجم نحيف، مُعوَّق اليدَين، وقد تغطَّى حتى صدره بالأغطية الثقيلة.
ووقف بجوار الفراش رَجُلان أحدهما ضخم الجثة مُترهل الجسد … والثاني نحيفٌ وطويل …
استنتج «أحمد» على الفور أن الرجل الموجود في الفراش هو الزعيم المُرعب «بوكاشيو» الذي أخذ ينظر إلى «أحمد» بعينَين شِبه مُغمضتَين … وقال «روشيه»: إنه «كارلو» أيها الزعيم.
ولم يلتفت «بوكاشيو» إلى ما قاله «روشيه»، بل ظل يُحدِّق في «أحمد» دون أن ينطق بكلمةٍ واحدة.
وساد الصمت الحجرة، ولم يَعُد يُسمع سوى صوت أنفاس الرجل الضخم … ثم أشار «بوكاشيو» فجأة إلى الرجل الضخم دون أن يُكلمه.
وأسرع «موانزا» خارجًا وعاد الصمت يلفُّ الغرفة … وأشار «بوكاشيو» إلى الرجل النحيف إشارةً خاصة، فمدَّ يده إلى علبة دواء ناوله قرصًا منها وكوب ماء … وتناول «بوكاشيو» الدواء وأغمض عينيه، وتذكَّر «أحمد» مغامرةً سابقةً قابل فيها زعيمًا مثل «بوكاشيو» مُشرفًا على الموت … ولكنه ما زال يَحكُم عصابةً عاتية.
وعاد «موانزا» بالحقيبة، وعرفها «أحمد» على الفور.
كانت إحدى الحقائب الأربع للشياطين بل كانت حقيبته شخصيًّا … ففي كل حقيبة علامة مميزة لمن يحملها … ووضع «موانزا» الحقيبة أمام «أحمد»، وفتح «بوكاشيو» عينَيه … وأشار إلى «أحمد» بإصبعه دون أن ينطق بكلمةٍ واحدة، كان واضحًا أن الحديث يُجهِده … أو لعلَّها تعليمات الأطباء بألا يبذل أي مجهود.
جلس «أحمد» بجوار الحقيبة … كان في إمكانه أن يفتحها في ثوانٍ قليلة … ولكنه كان يفكر فيما ينبغي عمله … هل يفتحها … أو ينتظر قليلًا حتى تتطوَّر الأحداث …
قال «أحمد»: أحتاج إلى أدواتٍ بسيطة للفتح.
وأسرع «موانزا» خارجًا وعاد بعد دقائق، ومعه حقيبة صغيرة فتحها …
ودُهش «أحمد» لمُحتويات الحقيبة، فقد كان بها مجموعة من أندر أدوات فتح الخزائن التي رآها في حياته …
وأشار «بوكاشيو» إليه بإصبعه في حركةٍ دوارة … يقصد أن يُسرع في العمل …
وأخذ «أحمد» يتظاهر بالانهماك في فتح الحقيبة … والعيون التي بالغرفة كلها مُسلطةٌ عليه … ولم يكن يدري ماذا يجب أن يفعل بالضبط … ولكنه اتخذ قراره في النهاية … فهذه المجموعة من البشر من أخطر المجرمين الذين قتلوا وسرقوا ودمَّروا … وحطموا الشباب بالهيروين …
وقتلوا النساء من أجل الثروة والسطوة والنفوذ … وهي فرصةٌ ذهبية للقضاء عليهم جميعًا، ففي الحقيبة كمية من الدِّيناميت تكفي لنسف الغرفة بمن فيها … ومن الممكن عمل التوقيت المناسب …
دق جرس التليفون الداخلي بجوار فراش الرجل المريض، ورفع السماعة وأخذ يتسمَّع، وسمع «أحمد» كلمة «كارلو» تنطق بدهشة … ورفع عينيه إلى «بوكاشيو» فوجده ينظُر إليه كما ينظر الثعبان إلى عصفورٍ صغير …