دقت الساعة
(حجرة نوم فاخرة الرياش، تدل على النعمة والثراء! … وهو في نحو الخامسة
والخمسين … مضطجع على فراش المرض … وقد جلست على مقربة منه سيدة في نحو الخامسة والأربعين،
هي: زوجته.)
محمود
(وهو يُصغي)
:
أسمعت يا «حميدة»؟!
حميدة
(وهي تتسمَّع)
:
ماذا يا «محمود»؟
محمود
:
ألم تسمعي شيئًا؟
حميدة
:
لا … أبدًا.
محمود
(مصغيًا)
:
نباح الكلب! … هذا … هذا النباح الغريب! … لقد رأى ولا شك «عزرائيل» … يقترب،
آتيًا الآن إلى بيتنا! … إن الكلاب — كما يقال — ترى «عزرائيل»! … وهي عندما تراه
تنبح مثل هذا النباح! … إنكِ طبعًا تعرفين ذلك؟! … هذا شيء معروف!
حميدة
(في ارتياح)
:
لا يا «محمود» … أرجوك … لا تقل ذلك! … إن مرضك ليس بالخطورة التي تجيز لك
التفكير في الموت!
محمود
:
إن لم يكن مرض القلب بالخطير، فما هو إذن المرض الخطير؟!
حميدة
:
كثيرون مرضى بالقلب، ويعيشون مع ذلك إلى السبعين والثمانين!
محمود
:
وكثيرون أيضًا من المصابين بهذا المرض يموتون فجأةً قبل أن يبلغوا مثلي الخامسة
والخمسين!
حميدة
:
إنك يا «محمود» مصاب بالوهم! … وهذا هو مرضك! … ثق أنها أزمة خفيفة، ستمر بسلام
إن شاء الله!
محمود
:
لن تمر بسلام هذه المرة!
حميدة
:
من أدراك؟ … أنت لست طبيبًا! … بعد قليل يأتي الطبيب ويفحصك، ويُدخِل علينا
الاطمئنان!
محمود
:
الطبيب؟! … هل أرسلتِ في استدعاء طبيب؟!
حميدة
:
طبعًا يا «محمود»! … ضروري!
محمود
:
وما وجه الضرورة؟!
حميدة
:
صحتك أغلى عندنا من كل شيء!
محمود
:
أمِن أجل أن تُثبتوا غلاء صحتي، يجب أن تدفعوا نقودًا لرجل آخر … تسمونه
الطبيب؟!
حميدة
:
وما قيمة النقود كلها إلى جانب ظفر واحد من أظافرك؟!
محمود
:
أيتها الزوجة العزيزة … أنت تعرفين أني لا أحب أن يفحصني طبيب!
حميدة
:
نعم … أعرف … منذ ذلك اليوم الذي فحصك فيه طبيب وقال لك …
محمود
:
قال لي: إني سأموت في ظرف أسبوع، فعشت عشرة أعوام!
حميدة
:
هذا من فضل الله!
محمود
:
بدون شك … هذا من فضل الله! … وهو أيضًا من خطأ الطبيب!
حميدة
:
نرجو أن يخطئ أيضًا هذه المرة مثل ذلك الخطأ.
محمود
:
ثقي أنه سيخطئ … ما في هذا جدال … سيفحصني اليوم ويقول: إني سأعيش عشر سنوات …
ولكني سأموت بعد عشر دقائق!
حميدة
:
لا تفجعني بهذا القول يا «محمود» … أتذهب وتتركني وحيدة؟ … أي خير في الحياة
بدونك؟!
محمود
:
البركة في ابننا «حمادة»!
حميدة
:
ابننا «حمادة» لم يزَل في «الجامعة»! … ولن يتخرَّج قبل عامين … وهو الآن أحوج ما
يكون إلى أبيه، ونُصح أبيه.
محمود
:
لقد رتَّبت شئوني المالية أحسن ترتيب! … وتركت لكِ وله ما يكفل لكما أنعم العيش
وأرغده!
حميدة
:
وهل المال وحده ينشئ الولد؟!
محمود
:
ولد مثل «حمادة» ظهر منه الآن، وهو في الثامنة عشرة، ما لاحظه الجميع من الرجولة،
والخلق، والذكاء، والاجتهاد، لا بد ينتظره المستقبل الباسم الرائع! … فاطمئني
وأبشري!
حميدة
(وهي تكفكف دمعها)
:
إنه يحبك كثيرًا يا «محمود»! … قابله بابتسام!
محمود
:
أهو سيأتي؟! … أليس هو الآن في رحلة مع الطلبة ﺑ «الأقصر»؟
حميدة
:
أرسلت إليه أمس برقيةً ليحضر!
محمود
:
ولماذا فعلتِ ذلك يا «حميدة»؟!
حميدة
:
أتكره ذلك؟! … لقد حسبت أنا أن في وجوده بقربك تسريةً عنك وتسليةً لك في
مرضك!
محمود
:
كنت أفضِّل أن أذهب بدون أن أراه … إني أقابل الموت، كما ترين، بكل جلد! … لأني
كنت أتوقَّعه منذ سنوات! … أعتقد أن في كل سنة منها النهاية المحتومة، فمنظر الموت
لا يمكن أن يُضعفني! … ولكن الذي يُضعفني حقًّا هو منظر الدموع أراها تسيل من عينَي
ابني «حمادة»!
حميدة
:
لن تبصر في عينيه دموعًا … لأني لن أخبره بشيء يفجعه!
محمود
:
نعم! … أكِّدي له أني بخير … إلى آخر لحظة.
حميدة
:
اطمئن.
محمود
(وهو يُصغي)
:
ها هو ذا … نباح الكلب!
حميدة
:
دع عنك هذه الأوهام يا «محمود»! … أرجوك!
(يُسمع صوت جرس خارجي … الزوجان يصغيان في صمت عميق … وتمضي لحظة،
ثم يُطرَق باب الحجرة، ويُفتَح، ويظهر خادم على العتبة.)
الخادم
:
بالباب رجل يقول إنه المحصِّل!
حميدة
:
ماذا تريد؟
الخادم
:
يريد مقابلة سيدي «البك»!
حميدة
(نافذة الصبر)
:
ألم تقل له إن البك مريض، ولا يقابل أحدًا؟!
الخادم
:
قلت له وأفهمته، ولكنه ألح، وقال إنه لن يخرج من هنا حتى يقابل «محمود بك»
شخصيًّا!
محمود
:
المحصل؟! … أي محصل؟! … محصل عوائد؟ … ضرائب؟ … نور؟ … كل شيء مُسدَّد … فيما
أعتقد!
حميدة
(تنهض)
:
سأذهب لأرى الموضوع!
(ما تكاد «حميدة» تخطو نحو الباب … حتى يظهر المحصل على العتبة
حاملًا حقيبةً صغيرة سوداء من الجلد تحت إبْطه.)
المحصل
(بأدب)
:
لا مؤاخذة!
حميدة
(منفجرة)
:
شيء عجيب يا حضرة الفاضل! … أهذه طريقة تدخل بها بيوت الناس؟!
المحصل
:
أظن أنها طريقة لبقة للغاية!
حميدة
:
«البك» مريض كما ترى!
المحصل
:
معذرة! … إني مضطر أن أرى سعادته قبل أن أباشر قطع النور!
محمود
:
حضرتك محصل في إدارة النور؟!
المحصل
:
نعم! … وجئت بخصوص قطع التيار!
حميدة
:
أهذا وقت مناسب؟! … اليوم تفعل ذلك؟ … والبك مريض؟!
المحصل
:
بالطبع هذا غير مناسب لسعادته … ولكنه مناسب لشغلي وواجبي.
محمود
:
وهل نحن تأخرنا في تسديد اشتراك؟!
حميدة
:
مستحيل! … تحت يدي إيصالات الشهر الماضي وما قبله!
المحصل
:
الموضوع لا يتعلق بحضرتك يا «هانم»!
محمود
(يفطن فجأة)
:
آه! … تقصد …
المحصل
:
نعم! … وليس من حسن الذوق أن أُفصِح أمام «الست»!
حميدة
:
لماذا؟
المحصل
(يشير إلى محمود)
:
مسألة خصوصية!
محمود
:
نعم! … فهمت … فهمت … (لزوجته) أرجوك … لحظة واحدة … اتركينا وحدنا لحظة
قصيرة!
حميدة
:
هل ستجهد نفسك الآن في الكلام مع هذا الرجل؟!
محمود
:
دقيقة واحدة فقط! … من فضلك!
حميدة
(وهي خارجة، للمحصل)
:
لا تنسَ أن «البك» مريض!
المحصل
:
أعرف يا سيدتي! … اتركيه في عهدتي!
(«حميدة» تخرج وتغلق الباب خلفها … ويبقى «محمود» والمحصل في الحجرة
وحدهما.)
محمود
(يعتدل قليلًا باهتمام)
:
تقول إنها مسألة خصوصية؟
المحصل
:
بالتأكيد!
محمود
:
تقصد طبعًا البيت الآخر … هناك عند «الست» الأخرى؟
المحصل
(غير فاهم)
:
أي «ست» أخرى؟! … وبيت آخر؟!
محمود
(يتمالك)
:
إذن ماذا تقصد بالضبط؟ … أي اشتراك متأخر عليَّ أنا حتى اليوم؟!
المحصل
:
ليست مسألة اشتراك … ولكن عداد النور به خلل، ولن يسجل شيئًا بعد اليوم … ولا بد
من قطع التيار!
محمود
:
اليوم يا حضرة وأنا مريض؟ … وأنا رجل أنتظر الموت من ساعة لأخرى؟
المحصل
:
تنتظر الموت؟
محمود
:
كما ترى بعينك!
المحصل
:
حقًّا! … حقًّا … أراك على فراش المرض تنتظر، ولكن هل تعرف متى سيحضر؟
محمود
:
من هو؟ … الموت؟ … طبعًا هذا شيء لا يمكن أن أعرفه أنا على وجه التحديد! …
مواعيده لا يعرفها بالدقة سواه هو!
المحصل
:
هذا هو المفروض … وإن كان، بيني وبينك، يندر أن تجد اليوم أحدًا يعرف عمله بالدقة
… (يخرج علبة سجاير) سيجارة يا سعادة «البك»!
محمود
:
أشكرك … أنا ممنوع من التدخين … واجب علينا … أطلب لحضرتك قهوة؟!
(يهم نحو الجرس).
المحصل
(وهو يشعل سيجارته)
:
لا … لا لزوم … شربت منذ ساعة، أكثر من ثلاثة فناجين قهوة عند صديق لي
طبيب!
محمود
:
طبيب؟! … يا حفيظ!
المحصل
:
أتكره الأطباء؟!
محمود
:
وأنت؟ … هل تحبهم؟!
المحصل
:
ليس كلهم … هذا الطبيب صديقي بالذات … لا يربطني به في الحقيقة غير علاقة
العمل.
محمود
:
وما علاقة عملك به؟
المحصل
:
هذه مسألة يطول شرحها … (ينظر إلى ساعة في معصمه) كم الساعة عندك بالدقة
والضبط؟
محمود
(يشير إلى ساعة دقاقة في الحائط)
:
كما ترى! … الرابعة إلا عشر دقائق.
المحصل
(وهو ينظر في ساعته)
:
وأنا عندي إلا سبع دقائق.
محمود
(يشير إلى ساعة الحائط)
:
ساعتنا هذه هي المضبوطة!
المحصل
:
جائز جدًّا … ولكن هل يصح أن أعتمد أنا في عملي على ساعات الزباين؟!
محمود
:
الزباين؟! … حتى الآن لم توضح لي حضرتك الموضوع جيدًا.
المحصل
:
أريد قطع التيار!
محمود
:
ألَا يمكن تأجيل ذلك؟
المحصل
(وهو ينفخ دخان سيجارته)
:
ولا دقيقة! … إني مقيد بمواعيد محدودة مثل الموت!
محمود
:
أتشبِّه نفسك بالموت؟!
المحصل
:
ولمَ لا؟ … هل الموت بغيض إلى هذا الحد؟!
محمود
(وهو يحملق فيه، وقد ارتعد قليلًا)
:
بالعكس! … بالعكس! … إني شخصيًّا أراه لبقًا مهذبًا … لا يقوم إلا بواجب عمله
المحتَّم عليه … بكل أمانة وإخلاص!
المحصل
:
ثق أنه ليس أكثر من موظف!
محمود
(في رجفة)
:
بدون شك!
المحصل
:
موظف يدعو حاله إلى الرثاء … تصوَّر يا سيدي أنه في عمل متصل بالليل والنهار … في
الشرق والغرب … في السِّلم والحرب … أينما ذهبت … وحيثما كنت … تجده مشغولًا،
جادًّا، مسرعًا إلى مواعيده، متأبطًا محفظته السوداء التي تشبه محفظة المحصل … لا
راحة له … فلا إجازة مرضية، ولا عطلة رسمية، ولا علاوة له، ولا ترقية! … فهو دائمًا
في وظيفته … بدرجته … ما يمسي فيه يصبح فيه، من سنين وسنين … لا يشكو، ولا يتذمَّر،
ولا يُضرِب! … إنه أقدم الموظفين المنسيين! … ومع ذلك لا يُذكر اسمه إلا باللعنة،
ولا ينظر إليه أحد بعين شفقة أو رحمة!
محمود
(بلهجة تأثر)
:
مسكين!
المحصل
:
بذمتك يا سيدي «البك»، وأنا راضٍ بذمتك، ألَا تراه يستحق العطف؟!
محمود
(بتأثُّر)
:
من صميم القلب.
المحصل
:
أشكرك!
محمود
(متنبهًا)
:
تشكرني؟!
المحصل
(يستدرك)
:
بالنيابة عنه، فهو على كل حال محصل … مثلي … أنا أقوم بتحصيل اشتراكات وفحص
عدادات … وهو يقوم بتحصيل أرواح … مع العلم بأني أستطيع التهاون قليلًا أو الغلط أو
الكسل … فأتأخر يومًا أو أتقدَّم عن الميعاد … أمَّا هو المسكين، فلا يستطيع أن
يتقدَّم عن مواعيده دقيقة، أو يتأخَّر … فهو قد حدَّد لك الرابعة … فما إن تدق
الساعة الرابعة حتى يحصل!
محمود
(مقاطعًا مرتجفًا)
:
الرابعة!
المحصل
(مستدركًا)
:
مثلًا … مثلًا.
محمود
(لا يصغي إليه وينظر إلى ساعة الحائط مضطربًا)
:
إذن هي الرابعة … عندما تدق!
المحصل
(ناظرًا إليه)
:
ما لك اضطربت؟!
محمود
:
لا … لا شيء … إني … مستعد.
المحصل
:
مستعد لماذا؟!
محمود
:
لقطع … النور …
المحصل
:
مهلًا … في الوقت متسع … الأمر لا يتطلب أكثر من إخراج الورق الخاص بك من هذه
المحفظة … وهذا لا يستغرق وقتًا … خصوصًا ونحن قد تمرَّنَّا على أعمالنا هذه
المِران الكافي!
محمود
:
تسمح في هذه الفترة أن أسوِّي مسألةً عائلية خطيرة … تبرئةً لضميري!
المحصل
:
تفضَّل!
محمود
:
أرجوك أن تفتح الباب وتنادي «الست»!
المحصل
:
بكل سرور … (يفتح باب الحجرة، وينادي) يا هانم! … يا هانم!
حميدة
(تدخل مرتاعة)
:
ماذا حدث؟ … ماذا حدث؟
المحصل
:
لا ترتاعي! … اطمئني!
محمود
:
اقتربي يا «حميدة» … لقد طلبتك لأُفضي لك بسر!
حميدة
:
سر! … أي سر؟!
محمود
:
سر أخفيته عنك مدى ثلاثة عشر عامًا … يجب أن أبوح لك به الآن … وأنا في حضرة
الموت!
حميدة
(تنظر إلى المحصِّل وتهمس لزوجها)
:
تقول أمامه؟!
محمود
:
نعم! … لا بأس من ذلك! … إن حضوره هو الذي ذكَّرني بواجب الإفضاء إليك!
حميدة
:
لقد قال منذ قليل إنه جاءك لمسألة خصوصية … لم يشأ أن يفصح عنها أمامي!
محمود
(بسرعة)
:
تلك مسألة أخرى! … (يستدرك) بل هي — وأنت الصادقة — عين المسألة التي أريد أن
أُفاتحك بها الآن … مسألة خاصة بي أنا! … منذ أربعة عشر عامًا كان عندي كما تعلمين
موظف كفء نشيط أمين هو الذي اعتمدت عليه كل الاعتماد في إدارة محلي
بالغورية!
حميدة
:
«رجب أفندي»! … المرحوم «رجب أفندي»!
محمود
:
هو بعينه!
حميدة
:
ما شأنه؟! … لقد تُوفي منذ ثلاثة عشر عامًا … وقد بعت أنت هذا المحل الذي كان
بالغورية على أثر وفاته!
محمود
:
واشتريت بالثمن عمارةً صغيرة قديمة في شارع خيرت!
حميدة
:
هذا ما لم تخبرني به!
محمود
:
لم أرَ لذلك داعيًا … لأن العمارة أصغر شأنًا من أن أخبرك بأمرها.
حميدة
:
أهذا هو السر الذي تُجهد قلبك في الحديث معي عنه؟!
محمود
:
لا! … ليس هذا هو بيت القصيد! … المرحوم «رجب أفندي» كانت له زوجة … لم أرَها —
والله شهيد على ما أقول — إلا بعد وفاته، وأُقسم لك بهذه الدقائق التي لم يبقَ لي
غيرها من الحياة!
حميدة
(متوجسة)
:
المهم كانت له زوجة!
محمود
:
تركها بعده لا عائل لها ولا معين، وليس في يدها صناعة تُحسنها … وقد جاءتني في
المحل باكية العينين، لا تدري من أمرها مخرجًا، وقد رأيت مصيرها ماثلًا لعيني … فهي
في شبابها عرضة للزلل والغواية والانزلاق! … وإن هي قاومت إلى أمد، وتحصَّنت
بالعفة، وتمسَّكت بالفضيلة، فإن قساوة الحياة لا بد أن ترغمها يومًا على ما تكره
ويكره لها أهل الفضل. وإن ضراوة البشر ظافرة منها ذات يوم، بما يأباه لها الحافظون
لذكرى زوجها، وبما ينكره الحريصون على البر والخير والمعروف!
حميدة
:
وأخيرًا؟!
محمود
:
أخيرًا تزوجتها!
حميدة
:
تزوجتها؟! تزوجت أرملة «رجب أفندي»؟!
محمود
:
لأسباب إنسانية، والله على ما أقول شهيد.
حميدة
:
وأخفيت ذلك عني طول هذه الأعوام؟
محمود
:
مراعاةً لشعورك … ولعدم إزعاجك!
حميدة
:
وهل رُزقت منها بأولاد؟
محمود
:
لا … أبدًا … لحسن الحظ!
حميدة
:
وهل هي على ذمتك حتى الآن؟!
محمود
:
نعم! … ولكنها لن تدخل معكِ ولا مع «حمادة» في الميراث … لقد رتَّبت كل شيء على
هذا الأساس. كل ما فعلته من أجلها هو أني كتبت باسمها العمارة الصغيرة القديمة التي
في شارع خيرت!
حميدة
:
تفعل ذلك كله، وتخفيه عنا يا «محمود»؟!
محمود
:
سامحيني يا «حميدة» في هذه اللحظة الأخيرة!
(جرس الباب الخارجي يرن بشدة.)
حميدة
(ناهضة منتفضة)
:
الباب … لعله «حمادة»! … حضر من السفر … سأرى (تخرج بسرعة).
المحصل
(مقتربًا من «محمود»)
:
أكان من الضروري أن تقول لها ما قلت؟
محمود
:
أتراني أخطأت؟
المحصل
:
لا أدري … إني لا أفهم النساء!
محمود
:
ألا تراها سامحتني؟
المحصل
:
وماذا يهمك الآن أن تكون قد سامحتك، أو لم تسامحك؟ … إنك عما قليل تارك لها
الدنيا بما فيها!
محمود
:
صدقت!
المحصل
:
المصيبة الكبرى التي كانت ستقع على رأسك حقًّا، هي أن تخبرها بذلك، وأنت في عمرك
بقية!
محمود
:
وهل أنا مجنون؟! … والله لو كان في عمري ساعة لَمَا أخبرتها … ولكن عمري الآن
يُقدَّر بالدقائق والثواني … وهذا ما شجَّعني على مُواجهتها بهذا السر!
المحصل
:
دقائق وثوانٍ لا تكفيها لتعذيبك وتنغيصك.
(يُسمع صوت يقترب، ولا تلبث «حميدة» أن تظهر وخلفها الطبيب.)
حميدة
:
هو الطبيب الذي حضر!
المحصل
(مُرحِّبًا)
:
أهلًا وسهلًا بدكتورنا!
الطبيب
(بدهشة)
:
أنت هنا؟! … ماذا تصنع هنا أيضًا؟!
المحصل
(باسِمًا)
:
في انتظارك!
محمود
(للطبيب)
:
أتعرفه؟ (مشيرًا إلى المحصل).
الطبيب
:
كيف لا أعرفه؟! … المعرفة قديمة … منذ أكثر من سبع سنوات! … نعم … منذ أن تخرَّجت
… وفتحت عيادة … جاءني في يوم لتحصيل اشتراك النور، ويظهر أنه استخفَّ ظل العيادة
أو ظلي، فمن ذلك الحين وأنا لا أخطو خطوةً إلا وأراه في وجهي.
محمود
(بدون وعي)
:
يا حفيظ يا رب!
المحصل
:
ماذا تقول؟
محمود
:
لا مؤاخذة! … العفو (يشير إلى الطبيب) أنا … أقصد «الدكتور»!
الطبيب
:
تقصدني أنا؟!
محمود
:
أقصد هذا الاستلطاف المتبادل! … لا بد أن يكون فيه … الخير والبركة!
المحصل
:
بدون شك! … لو لم أجد في «الدكتور» الخير والبركة بالنسبة إليَّ وإلى شغلي لَمَا
تردَّدت عليه، وتوثَّقت بيننا الصلة!
حميدة
:
ما دمت يا «دكتور» فيك الخير والبركة هكذا … فأسرع بالكشف على مريضنا … عسى أن
يتم له الشفاء على يديك!
محمود
(للمحصل)
:
كم الساعة عندك الآن؟!
المحصل
:
انتظر حتى يفحصك «الدكتور»!
محمود
:
مفهوم! … مفهوم!
الطبيب
(يضع سماعته في أذنه ويقترب من «محمود»)
:
تسمح لي أسمع دقات القلب؟
محمود
(يرفع قميصه قليلًا عن قلبه)
:
تفضَّل … وأسرع؛ فالوقت أزف!
الطبيب
(بعد أن يسمع ويخلع سماعته)
:
شيء عجيب!
محمود
:
ما هو الشيء العجيب؟!
الطبيب
:
أخبرني أولًا يا «بك»! … منذ متى وأنت ملازم الفراش؟
حميدة
:
منذ أسبوع يا «دكتور»!
الطبيب
:
لماذا؟
حميدة
:
يشكو من خفقان وضعف في القلب!
الطبيب
:
القلب؟! … القلب سليم! … منتظم! … أستطيع أن أضمن بقاءه بهذه الحيوية والقوة
والانتظام لا أقل من عشر سنوات!
محمود
(ناظرًا إلى المحصل)
:
أسامع؟
الطبيب
:
لماذا تلتفت إلى أخينا هذا؟ … التفت إليَّ أنا «الدكتور»!
محمود
:
نعم! … أنت «الدكتور» الذي سيقبض الأتعاب، ولكنه هو الذي سيقبض!
الطبيب
:
التفِت إلى كلامي جيدًا يا «بك» واسمع نصيحتي: اطرح عنك هذا الغطاء واقفز في
الحال من هذا الفراش! … ولا تخشَ شيئًا!
محمود
:
أقفز من هذا الفراش؟! (يلتفت إلى المحصل سائلًا) الساعة الآن عندك
الرابعة؟!
المحصل
(ينظر في ساعته)
:
الرابعة إلا ثلاث دقائق!
محمود
:
ثلاث دقائق! … المسألة قربت!
الطبيب
:
ثق يا سيدي «البك» أن رقادك هذا في الفراش قد يضرك، ولا ينفعك! … وهو لا داعي له
على الإطلاق! … لأن قلبك صحيح معافًى على خير ما يرام!
محمود
(في سخرية خفية)
:
وسأعيش عشرة أعوام! … مفهوم! … إني كنت على يقين من أنك ستقول هذا الكلام بنصه! …
قبل أن تأتي!
الطبيب
:
سوف ترى أني على حق! … وأن كل ما عندك هو الوهم!
محمود
:
سوف أرى ذلك! … متى؟ … بعد ثلاث دقائق؟! … طبعًا سأرى ذلك … ولكن بعد …
الطبيب
:
بعد عمر طويل؟!
محمود
(للمحصل)
:
يدهشني أنك لا تضحك من هذا الكلام!
المحصل
(بهدوء)
:
لم يعُد يضحكني!
الطبيب
:
ماذا تقول يا حضرة المحصل؟! … تسخر مني؟! … أتظن أني أخطئ في عملي، كما تخطئ أنت
في عملك؟!
المحصل
:
وهل أنا أخطئ في عملي؟!
الطبيب
:
أتُقسم إنك لم تخطئ مرةً في حسبة، أو تحصيل، أو قراءة عداد؟!
المحصل
:
أظن أن هذا غير ممكن!
محمود
:
طبعًا! … هو لا يمكن أن يخطئ!
الطبيب
:
أستغفر الله! … ما من معصوم غير الله!
(تُسمع جلبة في الخارج … وأصوات صياح … ولا يلبث أن يظهر الخادم
مهرولًا متفجعًا.)
الخادم
:
سيدي «حمادة»!
حميدة
(كالمجنونة)
:
«حمادة»؟! … حضر؟! … ماذا به؟! … ماذا أصابه؟! … ماذا أصابه؟!
الخادم
:
أخبره البواب أن «البك» مريض، فقفز إلى السلم فسقط، واصطدم رأسه وتحطَّم على سن
الرخام!
حميدة
(خارجةً مولولة)
:
تحطَّم رأسه؟! … تحطَّم رأسه … ابني! … ولدي!
محمود
(كالمذهول)
:
«حمادة»!
الطبيب
(وهو خارج خلف الأم)
:
أين هو؟ … دعوني أسعفه! … دعوني أفحصه!
المحصل
(يفتح محفظته بهدوء ويُخرج ورقةً يتأمل ما فيها)
:
ما اسم ابنك هذا في ورقة الميلاد؟
محمود
(في ذهوله)
:
«حمادة»!
المحصل
:
اسمه الكامل في ورقة ميلاده؟
محمود
(وهو شارد)
:
في ورقة ميلاده «محمود محمود عبد الموجود»!
المحصل
(وهو يتأمل الورقة في يده)
:
بالضبط هو إذن المقصود!
محمود
(كالمذهول)
:
هو المقصود؟! … «حمادة» … ابني هو المقصود؟!
المحصل
:
أنا آسف … لا تؤاخذني … لا أدري كيف أقدِّم لك اعتذاري عن هذا الخطأ؟ … ولكنه
النظر الذي ضعف من العمل الذي زاد! … قرأت الاسم ولم أُحسِن قراءة السن! … موظف
مرهق … أرث لحاله … إلى اللقاء بعد عمر طويل … صاحبنا «الدكتور» كان معك على
حق!
محمود
:
عمري طويل؟! … أنا؟
المحصل
:
الآن تبدو لي نكبتك جليةً بإفضائك إلى زوجتك بسرك! … لكن هل كان يدور بخَلَدي أني
أنا سأخطئ … سامحني! … والآن (ينظر في ساعته) فلألحق ﺑ «دكتورنا» … فلا بد أن يكون
قد انتهى من عمله، لأبدأ أنا عملي … وأقطع … وأقطع … وأقطع النور! (يشير بالتحية
إلى «محمود» الذاهل ويخرج سريعًا.)
محمود
(يفطن فجأةً من ذهوله ويصيح)
:
«حمادة»! … ابني … يموت في نضرة شبابه … مستحيل … مستحيل … إني واهم! … إني أحلم
… أيها المحصل! … أيها الطبيب! … أنا المقصود! … أنا المقصود!
(يقفز من فراشه ليركض نحو الخارج ولكن … ساعة الحائط تدق دقاتها
الأربع … فيقف مذعورًا! … ولا تلبث أن تنطلق في الخارج صيحة.)
حميدة
(صارخة)
:
مات وحيد!