الاستعمار البريطاني
يرجع الاستعمار البريطاني إلى التنبه التجاري الذي أعقب المكتشفات الجغرافية التي قام بها الإسبان والبرتغاليون، فإن كلًّا من فرنسا وهولندا وبريطانيا قامت تنتفع بهذه المكتشفات في نشر تجارتها في الشرق، فلما كانت أواسط القرن الثامن عشر كانت «شركة الهند الشرقية» قد استولت على ممتلكات ومصانع كبيرة في الهند، وأقامت عليها الحصون، وصارت تجند الجيوش لحماية ممتلكاتها وتتدخل في شئون الإمارات الهندية. وما إن وافت سنة ١٨٥٧ حتى كان في يد الإنجليز نحو ثلثي الهند، تحت حكمهم المباشر، إما عن طريق هذه الشركة وإما عن طريق الحكام الذين تعينهم بريطانيا.
وهذه الشركة، كما هو واضح من اسمها، هيئة تجارية، ولكنها اقتنت الأسلحة ونظمت الجيوش واستغلت الانحطاط الشرقي في الهند، وخاصةً انحطاط الأمراء، حتى أصبحت وكأنها دولة كبرى. ومن هذا الأصل نفهم الباعث الاقتصادي للاستعمار البريطاني.
وحدثت ثورة الهنود سنة ١٨٥٧ فأخمدها الإنجليز. ومن ذلك الوقت ألغيت الشركة وأصبح الحكم يتولاه «نائب الملك» المسئول أمام البرلمان البريطاني. ولا يستطيع الإنسان أن يقول ماذا كان يحدث لو لم تستول بريطانيا على الهند، فقد كان يمكن أن تكون الهند الآن أمة متحدة متقدمة مثل اليابان، كما كان يمكن أن تكون أيضًا أمة رجعية متناحرة مثل الصين (قبل نهضتها الأخيرة)، فإن الإنجليز لم يستطيعوا بسط سلطانهم على الهند إلا للانحطاط البالغ الذي انحدر إليه الهنود.
وقد انتفع الهنود كما استضروا بالحكم الإنجليزي، وإن كان الضرر أكبر من النفع. فإن الإنجليز أبطلوا إحراق الأرامل، لأن الأرملة الهندوكية كانت تحرق عقب وفاة زوجها كما أنهم أبطلوا وأد البنات، فإن الهنود مثل جميع الشرقيين، يكبرون من شأن الذكر ويحطون بقدر الأنثى، وكان وأد البنات شائعًا في الهند، كما لا يزال في الصين، وكما كان عند العرب في الجاهلية. وقد منع الإنجليز هذا الوأد فهو لا يمارس الآن إلا خفية ومع التعرض للعقوبة عندما تعرف الحقيقة.
وأكبر فضل للإنجليز على الهند أنهم أدخلوا الثقافة الغربية الحديثة، فإن الهنود كافة كانوا يدرسون الثقافة الشرقية، وهي تقاليد في العقائد والتاريخ والأخلاق، بل حتى في العلوم. فلما كان «ماكولي» الأديب الإنجليزي المعروف في الهند سنة ١٨٣٥ يؤدي وظيفة المستشار لشركة الهند الشرقية، رأى أن يوجه شباب الهند وجهة الحضارة الحديثة بأن يعلمهم اللغة الإنجليزية، فكتب تقريرًا يقول فيه إنه «يجب جعل الإنجليزية وسيلة التعلم، حتى تنشأ في الهند طبقة هندية في اللون والدم ولكنها إنجليزية في الآراء والأخلاق والذهن».
وغاندي يحارب الآن التعليم باللغة الإنجليزية ويطلب أن يكون باللغة الهندية، وهو محق في ذلك. ولكن لولا هذه الطبقة التي تثقفت بالثقافة الإنجليزية لما بلغت الحركة الوطنية مبلغها الحاضر، فإن ثقافة الهند لم تكن تعرف الوطنية كما نفهمها، كما لم تكن تعرف الحضارة الحديثة. أما الآن، وبعد أن تكونت هذه الطبقة، فلا خوف من التعليم باللغة الهندية، لأن الإيمان بالثقافة الحديثة قد تم، ولا خوف هناك من الرجوع إلى الثقافة الهندية التقليدية ومقاطعة الثقافة الحديثة.
وقد أضر الإنجليز الهنود بحصرهم التعليم في طبقة صغيرة، وهي كما يقول أحد الإنجليز: «أقلية مكرسكوبية». فإنهم كانوا، وما زالوا، ينفقون ملايين الجنيهات على الجيش، وعلى مرتبات الموظفين الإنجليز، في حين كانت ميزانية التعليم على الدوام ضئيلة. فإن متوسط ما تنفقه حكومة الهند على التعليم العام لا يزيد على أربعة مليمات لكل شخص في العام.
وأضروهم أيضًا بقتل صناعاتهم. بل هناك ما يؤيد القائلين بأن الإنجليز باشروا بأنفسهم، وبطرق هي غاية في النذالة والخسة والتوحش، قتل الصناعات الهندية؛ لكي يبيعوا للشعب الهندي مصنوعات إنجلترا. وهم من هذه الناحية كانوا سببًا مباشرًا للفاقة العظيمة في الهند وللمجاعات التي تكتسح البلاد من وقت لآخر.
فإذا أضفت إلى ذلك تلك الخصال السيئة التي تتفشى في بعض الأفراد من الطبقة العالية في الأمة، لوجود الحاكم الأجنبي فيها، وكيف يستحيل الرجل الشريف إلى جاسوس على أهله ووطنه، وإذا أضفت أيضًا ما تفعله السيطرة الأجنبية من إيحاء روح الذل في سائر أفراد الأمة، عرف أنه ليس في الاستعمار أو السيطرة الأجنبية شيء من الفضائل يعادل الرذائل التي يفشيها.