التقاليد القاتلة
الأصل في التقاليد أنها عادات نشأت لمصلحة معينة ثم تقادم عليها الزمن فاشتبكت بالدين، وأصبحت لها حرمة ورعاية في النفس، فتحجرت، ولم يعد أحد يجرؤ على تنقيحها. وهي في هذا التحجر تؤذي الأمة التي تخضع لها. وذلك لأن الحياة يجب أن تكون حرة تقبل التحول والتطور ولا تجمد وتتحجر بالتقاليد.
وقد نشأت في الشرق تقاليد تهين الكرامة الإنسانية. ولا تزال الأمم الشرقية، حتى الراقية منها مثل اليابان تئن منها، فقد ذكر الأستاذ محمد ثابت في رحلته إلى اليابان كيف يتفشى البغاء في تلك البلاد وكيف يقدم رب البيت لضيفه بغيًّا تقضي معه ليلته. وقد كان قبل ذلك يرى من التقاليد أن يقدم زوجته.
وإذا تركنا اليابان رأينا الصين بتقاليدها الحجرية، فإن الصينيين قصروا المرأة على الخدمة في الفراش، وهم لهذا السبب لم يروا فائدة في نمو قدميها، فكان من تقاليدهم أن يربطوا قدمي الصبية الصغيرة حتى يكف نموها، وهذه الأربطة كانت تشد حول القدم فتقف حركة الدم، فتتألم الصبية، وقد تقضي الليل كله وهي لا تنام من فرط الألم، فإذا ما بلغت العشرين، وهي في هذا الوجع، فرح بها أبواها المغفلان وتباهى كلاهما بأن قدم ابنتهما لا تزيد على قدم الطفل. وهي عندما تتزوج يذكر صغر قدميها بين محاسنها، مع أنها لا تستطيع أن تنهض من فراشها ولا تنتقل من مكان إلى مكان آخر إلا وهي محمولة. وأحيانًا، عندما تبلغ الثلاثين أو الأربعين، تكون الأربطة المشدودة حول القدم قد تجاوزت غايتها، فتموت القدم، وتسقط عن الساق، كما تموت يد المجذوم وتسقط عن الذراع.
والأصل في هذه التقاليد أن الصيني لم يبغ من المرأة الصينية إنسانًا له حقوق الإنسان، وإنما قصد منها إلى خادمة ملازمة للفراش. وقد نجح، وكان في نجاحه سقوط الصين.
والآن يقوم الشبان المجددون في الصين بهدم التقاليد، وقد نجحوا في هدمها، ولذلك شرعت الصين تنهض وتدخل في عداد الأمم المتمدنة.
ثم انظر إلى الهند، فقد كان من تقاليدها إلى بداية القرن الماضي أنه عندما كان الزوج يموت يأتى بأرملته وهي حية فتحرق مع جثته، وكان هذا عندهم من الدين. وقد كفوا عن ممارسة هذه العادة، ولكن لا يزال من بقاياها كراهة الأرامل، والتشاؤم منهن، ومعاملتهن أسوأ معاملة. والأرامل لا تتزوج إلى الآن في الهند.
وإلى الآن لا يزال من تقاليدهم نوع من البغاء الديني، فإن الهندوكي المؤمن ينذر ابنته لخدمة المعبد، فإذا بلغت سن الصبا حملها إليه فتصير بغيًّا لرجال المعبد، فإذا تجاوزت سن الشباب والجمال طردوها منه فتعود بغيًّا لسائر الناس. وقد أعلن غاندي الحرب على هذه التقاليد وهو لا يزال في المعمعة لم يكتب له النصر.
ويرى القارئ من هذه الأمثلة أن المرأة في اليابان والصين والهند لقيت — ولا تزال تلقى — ضروبًا من الهوان لا يلقاها الحيوان. وهي رويدًا رويدًا ينزاح عنها هذا العبء، على أيدي الشبان المجددين الذين يهدمون التقاليد ويفكرون في مصالح المستقبل دون حرمة الماضي.
وأخيرًا نجد من تقاليد الهند هذه النجاسة التي تنسب إلى نحو ستين مليونًا من المنبوذين، فإن هذه التقاليد العجيبة تقول بحرمانهم من الحقوق الإنسانية البسيطة. ويجوز للهندوكي أن يلامس التيس والعجل والخروف فلا يتنجس ولكنه يتنجس إذا لامس هذا الإنسان الذي يسميه منبوذًا.
لقد استطاع غاندي أن يؤلف من الأمة الهندية إجماعًا على طلب الاستقلال ومكافحته الاستعمار، ولكنه وجد بعد أربعين سنة من الجهاد أن التقاليد تذل الهند أكثر مما يذلها الإنجليز. وهو عندما يصوم من أجل المنبوذين يحاول أن يؤلف إجماعًا آخر لمحو النجاسة من الهند.
والشرق ينهض عندما يمحو هذه التقاليد المذلة. وهذا الغرب المستعمر لن يحترم الشرق حتى يحترم هذا الشرق أبناءه، رجالًا كانوا أم نساءً، فيساوي بين الرجل والمرأة وبين المنبوذ والمقبول.