غاندي والمدنية الحديثة
إذا نظرنا إلى غاندي، وقابلنا بين معيشته وآرائه ونظرته العامة للحياة وبين ما هو مألوف الآن في الحضارة الغربية من النزعات الثقافية والصناعية، ألفينا غاندي الخصم المخلص لهذه النزعات، بل يمكن أن يعد في نظر الغربيين أعظم رجعي في العالم الآن.
ولكن رجعيته ليست تنطعًا وعنتًا ومكابرة، وإنما هي رجعية سارة توقظ الذهن وتحيي القلب وتعيد لنا ذكريات «جان جاك روسو» و«برناردان دوسان بيير» و«تولستوي» و«ثورو» وهم جميعهم رجعيون.
وذلك أن رجعية غاندي هي في لبابها دعوة إلى الرجوع إلى السذاجة الطبيعية وكراهة التصنع والبذخ، فإن روسو ذاع صيته في عالم الأدب الأوربي بمؤلفاته التي دعا فيها إلى كراهة المدنية والرجوع إلى الطبيعة. وقد فتن بدعوته الناس وهيأ الأذهان للثورة الكبرى في باريس، وكتابه عن التربية، ومقالته عن العلم والمدنية، كلاهما يمكن غاندي الآن أن يكتبهما ويقول بجميع آراء روسو فيهما.
وقد راجعت الدعوة إلى الطبيعة أيام روسو وظهر أثرها في مؤلفات برناردان دوسان بيير، ومن أغرب ما يذكر هنا أن هذا المؤلف الذي عاصر نابليون قد تخيل السذاجة الطبيعية في «الكوخ الهندي» الذي يعرف غاندي الآن آلاف الأمثال منه.
ولكن أغلب الظن أن غاندي لم يتأثر كثيرًا بروسو وبرناردان دوسان بيير، وذلك لأن ثقافته الغربية تعتمد على أصل إنجليزي. وليس هذا الأصل فقيرًا في الدعوة إلى الطبيعة والتشنيع على المدينة، فإن رومكين عاش حياته في إنجلترا وهو يلعن الحضارة لأنها تستبدل بالجياد والعربات قطارًا من حديد يصفر ويملأ الريف بدخانه وضوضائه، وكان هو نفسه إذا أراد التنقل من مكان إلى آخر عمد إلى جواده أو إلى عربته التي تجرها الجياد. وهو أول كاتب حاول أن يوحد بين الأخلاق والاقتصاديات، كما يفعل الآن غاندي الذي ترجم إلى الهندوكية كتابه في هذا الموضوع لأنه وافق هواه وطابق نزعته.
ولكن القارئ لمقالات غاندي، المتتبع لسيرته، لا يتمالك من الشعور بأن أعظم المؤلفين أثرًا في ذهنه هو تولستوي. فقد أحبه غاندي إلى حد أن أسس في أفريقيا الجنوبية «مزرعة تولستوي» وقد كان تولستوي يرى أن العمل اليدوي ضرورة لازمة للأخلاق الحسنة، وكان يصنع الأحذية لأهل قريته. وكذلك يرى غاندي الآن هذا الرأي ويغزل وينسج للهنود. وقد بلغ من كراهة تولستوي للحضارة الأوربية أن كان يعلن، ويكرر الإعلان، بأن الطب يضر الناس. وكراهته للطب هي في الحقيقة كراهة للعلم. وكذلك يرى غاندي الآن عندما يقول إن الطب من اختراع إبليس. وقد كان في شبابه، قبل أن يصل إلى مقام الكشف الذي هو فيه الآن، يؤمن بالطب، ويتعالج إذا مرض على أيدي الأطباء، ولكنه كف وتاب وأصبح يتعالج بالحمية والأعشاب والفواكه وله من صحته الحاضرة ما يؤيد مذهبه.
ولكن لتولستوي أثرًا آخر في غاندي، لأن هذا الكاتب الروسي العظيم كان يؤمن بأن المبادئ الدينية التي تقول بالرحمة والتضحية هي مبادئ عملية يمكن العمل بها على الرغم من اعتراض بعض الأوربيين بأنها خيالية. ويعرف القراء أن غاندي يمارس الآن هذه المبادئ ممارسة عملية وينجح بتطبيقها في كسر شوكة المستعمرين.
ثم هناك كاتب أمريكي قد تأثر به غاندي كثيرًا، نعني به ثورو، فإن هذا الكاتب هجر المدن وقصد إلى الريف والغابة وقنع بأقل مقدار من الطعام واللباس، وهو صاحب كلمة «العصيان المدني» التي نقلها عنه غاندي وعمل بها.
هؤلاء هم الكتاب الذين يشعر المتتبع لسيرة غاندي أنهم أثروا فيه وجعلوه يجنح إلى الطبيعة ويجحد الحضارة الأوربية. ولست أعني أنه ليس له سوى فضل النقل، فإنه عبقري الذهن ألمعي القلب، ينظر إلى الدنيا نظرًا بكرًا. ونحن لذلك نقرؤه وكأنا نرتوي منه بماء صاف. وخير من أن نقول إنه ناقل أن نقول إنه تربة خصبة زكت فيها أسمى المبادئ الرجعية الحديثة. وأنا أذكر هنا «الرجعية» كما يرى القارئ، وأزكيها، لأن كل رجعية تهيب بنا إلى العودة إلى الوطنية إنما تستبدل ببذخ المدينة ترفًا جديدًا للنفس، وحسبنا ذلك.
ولكن لغاندي رجعية أخرى هي كراهة الآلات وإيثار الصناعات اليدوية، وهذه رجعية لا يمكن الدفاع عنها، كما سيرى القارئ.