عزبة تولستوي
قضى غاندي تجاربه الأولى في الوطنية العملية في أفريقيا الجنوبية، وهناك رأى محنته، ومحنة بلاده، وشرع يدرس الطرق والوسائل لكي يرفع من كرامة الهنود وينزع عنهم نير الذل الذي وضعه عليهم البوير والإنجليز في أفريقيا الجنوبية.
وهناك شرع في حضانة هذه الأفكار التي أفرخت الآن في الهند، فعرف الكف عن العنف والقوة الروحية والمقاومة السلبية والعصيان المدني. ولما عاد إلى الهند استطاع أن يستعمل هذه الوسائل بعد تجربة طويلة وممارسة مفيدة في ترنسفال حيث يعمل كثير من أبناء الهنود المهاجرين.
وقد عرف القارئ أن غاندي تلميذ تولستوي، وأنه شغف بمبادئه، واستملى هذه المبادئ عندما فكر في خططه السياسية. وقد رأى وهو في أفريقيا الجنوبية أن هذه المبادئ تحتاج لممارسة يومية حتى تخرج من النظريات إلى العمليات، ورأى أيضًا أن هذه الممارسة تحتاج إلى نظر جديد للدنيا، وإلى تربية للأخلاق، تحتاج إلى اعتكاف عن المدن وانكفاف عن مطامعها كما تحتاج إلى حسم للشهوات، ولذلك كله دعا طائفة من مواطنيه وأسس وإياهم «عزبة تولستوي».
ولم يشتر هذه العزبة وإنما أخذها هبة من أحد أغنياء الهنود، وكانت تبعد عن جوهانسبرج بنحو عشرين ميلًا، وكان بها ألف ومائة فدان وفيها نحو ألف شجرة مثمرة. وإلى هذه العزبة قصد هو وأربعون من الهنود، منهم المسلم والهندوكي والمسيحي والبارسي، وكان معهم خمسة من النساء وثلاثة رجال هرمين ونحو ثلاثين صبيًّا وطفلًا.
وكان الغرض الأول من «الاعتكاف» في هذه العزبة أن يتعلم المقيمون فيها كيف يتسامحون مع اختلاف الدين أو المذهب. وكيف يرضون بالتعاون، ويرون الشرف في الخدمة، سواء في المنزل أو الحقل. ثم كيف يعيشون وليس لأحدهم مطمع في أن يتفوق على الآخرين بزيادة في المال أو الجاه. فإذا استطاعوا أن يقهروا أنفسهم، ويذللوا عواطفهم، أمكنهم بعد ذلك أن يصمدوا للخصوم وأن يتلقوا الشدائد وهم صابرون وقد وطنوا النفس على الفوز الأخير.
وصدم غاندي لأول وهلة باختلاف عادات الطعام التي تتعلق بالدين أو المذهب. فإن كلًّا من المسيحي والمسلم يأكل اللحم بينما الهندوكي يرى في ذلك جرحًا لأقدس عاداته الدينية. فكيف يمكن قومًا، يعيشون معًا، ويأكلون على مائدة واحدة، أن يتفقوا في هذا الموضوع؟
عمد غاندي إلى الهندوكيين فطلب إليهم أن يسمحوا لإخوانهم من المسلمين والمسيحيين بتناول اللحم فسمحوا ورضوا. وهنا رأى غاندي أول أمارات النجاح لخططه، فإن هؤلاء، حين رأوا تسامح الهندوكيين، رفضوا طعام اللحم وقنعوا بالأطعمة النباتية، وأصبحت العزبة كلها لا يذبح فيها حيوان. ثم كان لهذه المجاملة نتيجة أخرى، فإنه عندما جاء شهر رمضان صام المسلمون فرأى سائر الهنود من أبناء المذاهب الأخرى أن يصوموا إكرامًا لإخوانهم، فازدادوا بذلك حبًّا وتوثقت بينهم أواصر الإنسانية والإخاء.
وكانوا كلهم يخدمون، لهم مطبخ كبير يتناوبون الخدمة فيه مع ترك الرياسة والتدبير للنساء. وكانوا يتناولون طعامهم على مائدة واحدة، فإذا فرغوا حمل كل منهم أطباقه وغسلها بنفسه وأعادها إلى المطبخ. ولم يكن يؤذن لواحدٍ بالشراب أو التدخين.
وكانوا يعيشون عيشة ساذجة لا يعرفون غير أقل اللباس وأقل طعام. يعملون نهارهم، فإذا قضوا عملهم انكفأ الصغار إلى المدرسة حيث يتولى تعليمهم الكبار المتعلمون منهم. ولم يكن غاندي متعصبًا لمذهبه، فقد حدث أن تكاثرت الثعابين في العزبة وتردد السكان في قتلها، لأن قتل الحي حرام عند غاندي وسائر الهندوكيين. وكان بينهم رجل إنجليزي قد استهوته هذه المعيشة الساذجة فترك المدينة ورحل إليهم يساكنهم ويعايشهم، ففي ذات يوم رأى في فراشه ثعبانًا، فعاد إلى غاندي يسأله ماذا يصنع به، هل يقتله أم يترك له الفراش، فأشار عليه غاندي بقتله.
وفي هذه العزبة تعلم الهنود تلك المبادئ السامية التي أزهرت بعد ذلك في الهند، لأن كلًّا منهم هزم في نفسه أنانيته أولًا فلم يكن كبيرًا عليه بعد ذلك أن يهزم في الإنجليز أنانيتهم. وبكلمةٍ أخرى نقول إنهم أصلحوا ما بأنفسهم ثم عمدوا إلى غيرهم يصلحونه، فكان لهم ما أرادوا.