صوم غاندي
صام غاندي في مايو ١٩٣٣ من أجل المنبوذين ٢١ يومًا فكانت تنبئنا التلغرافات كل يوم عن حالته فيها، وكلنا شعر بالقلق على حياته.
وقد سبق له أن صام ٢١ يومًا أخرى سنة ١٩٢٤ من أجل الوفاق بين المسلمين والهندوكيين. ففي تلك السنة تفاقم الخلاف بين هاتين الطائفتين، واشتد التعصب، فكثر القتل ودنست المساجد والمعابد من الرعاع. ورأى غاندي أن يرحل بنفسه إلى الأقاليم الشمالية حيث كانت المنازعات الطائفية تؤدي كل يوم إلى سفك الدماء.
وأقام غاندي في بيت في دهلي قد أقيمت أمامه سارية الملك أسوكا، هذا الملك العظيم الذي أرسل إلينا في مصر أيام البطالسة يدعونا إلى البوذية ونبذ الحرب وتعميم السلام، وعلى هذه السارية قد كتب بعض أقواله في الدعوة إلى التسامح، فكان اختياره لهذا المكان رمزًا للمهمة التي أرصد نفسه للقيام بها بهذا الصوم وهي إلهام النفوس روح التسامح.
وهو قبل أن يستقر رأيه على هذا الصوم جاهد لتعميم الوفاق، فكان يخاطب الزعماء ويكتب ويخطب، ولكن الأحقاد الدينية لم تخمد، فرأى عندئذ أن يصل إلى ضمير الهندية بأن يمرض نفسه أما أعينها، وهو يتضور، ويتألم، من أجلها. وقد يموت وهو في هذه المحنة فيكون موته قاضيًا على هذه الأحقاد التي تمزقها وتظلم حياتها. وقد فكر وأعاد التفكير واجتره اجترارًا حتى هداه الإلهام إلى وجوب الصوم.
وغاندي كلما أدلهم خطب أو تفاقمت حال لا يرجى لها علاج يخلو إلى نفسه، كما فعل الأنبياء، فيصلي ويتأمل، وقد فعل ذلك في سنة ١٩٢٤ ولم يستطع أحد أن يرده عن قراره. ونحن نرى هذه الأيام، في حياة غاندي وإصراره على الجهاد، لمحة من حياة الأنبياء القدماء.
وقد لازمه في ذلك الصوم صديقه المسلم الدكتور أنصاري كما لازمه بعد في صومه الثاني، وكان حين شرع في صومه الأول قد أبل من مرضه الذي احتيج فيه إلى إجراء عملية جراحية وقطع الزائدة الدودية. فكان الخوف عليه عظيمًا لأنه كان في النقه يحتاج إلى ما يقويه، ولأنه كان يخشى عليه كثيرًا مما يضعفه. ومضت الأيام الأولى وهو متماسك متمالك، ولكنه خار في اليوم الثاني عشر وخفت صوته وغارت عيناه، وألح عليه الأطباء في الإفطار، ولكنه رفض. وكان يقول للأطباء: «ثقوا بالله» و«لقد نسيتم قوة الصلاة».
وقال في ذلك الوقت: «لست أرغب إلى مسلم أو هندوكي أن ينزل عن ذرة من مبادئه الدينية، وكل ما أطلب منه أن يعرف أن ما يتمسك به إنما هو من الدين، ولكني أطلب من جميع الهندوكيين والمسلمين ألا يتقاتلوا من أجل الربح المادي. وإني لأتألم أكبر الألم إذا عرفت أن صومي يجعل إحدى الطائفتين تنزل عن مبدأ من مبادئها. فإن صومي هو مسألة خاصة بيني وبين الله.»
واستطاع غاندي أن يمضي ٢١ يومًا في الصوم، واحتفل بإفطاره فرتل هو وأصدقاؤه من الهنود بعض الأناشيد الهندوكية. ثم رتل صديقه «إمام صاحب» سورة من القرآن، ثم رتل أصدقاؤه من المسيحيين بعش الأناشيد باللغة الإنجليزية. وتقدم إليه «الدكتور أنصاري» بكوب من عصير البرتقال فشربه، وكان هذا إفطاره، فانفض الذين حوله وانكفأ هو إلى فراشه حيث نام.
•••
ولا بد أن هذه المحنة التي خرج منها غاندي سليمًا قد قوته في اجتياز المحنة الثانية، وإن كان جسمه قد صار أضعف وأقل تحملًا للخطر. وهو إذا لم يكن قد نجح في إزالة الأحقاد الدينية فإنه استطاع أن يخففها. والنجاح التام الذي لا ينقصه شيء لا يوجد إلا في خيال الأطفال، وهو في صومه من أجل المنبوذين لا يطمع في محو النجاسة محوًا تامًّا ولكنه يرجو التخفيف من أذاها.
ومهما استغربنا الطرق التي يتبعها غاندي في تنبيه الأمة الهندية وإيقاظ ضميرها فإننا لا نستطيع الشك في أنه يعرف اللغة التي يخاطب بها أمته، كما أنه الآن مثل رائع يدعو إلى الإصلاح والتقوى والخير والبر.