غاندي وفورد
إذا كان في العالم شخصان يناقض أحدهما الآخر في مبادئه وأفكاره، ومع ذلك نرى لكل منهما مكانًا في قلوبنا، ونحبهما على السواء، فهما غاندي وفورد.
فإن غاندي يمثل الشرق القديم كما يمثل فورد الغرب الحديث.
يدعو غاندي بلسانه وسيرته إلى الروحية والزهد، بينما يدعو فورد إلى المادية والترف. ويكبر غاندي من شأن الضعف وسذاجة الريف، بينما فورد يعمل للمدنية ولغته هي لغة الطاقة الكهربائية أو الحرارية. وأخيرًا يدعو غاندي إلى العمل اليدوي، بنما يدعو فورد إلى إلغاء العمل اليدوي من العالم والاقتصار على الآلات.
وبكلمةٍ أخرى نقول إن فورد يمثل المدنية الغربية التي تقول بالاستمتاع بما في الدنيا من أطايب اللذات الحسية والمعنوية وزيادة فراغ الناس لكي يشغلوه بالاستمتاع، وإنما يزيد هذا الفراغ إذا هم جعلوا الآلات الضخمة تعمل أعمالهم. بينما غاندي يمثل المدنية الشرقية حين يدعو إلى القناعة والنسك وإنكار النفس والكد والكدح باتخاذ صناعة يدوية كالغزل مثلًا.
وأساس المدنية الغربية الآن هو العلم والتجربة، وكلاهما يؤمن به فورد ويعتمد عليه، وقد استطاع بهما أن يخرج في اليوم الواحد عشرة آلاف أتومبيل من مصانعه وأن يعطي أصغر عامل عنده ٣٠ جنيهًا في الشهر، وأن يوفر له الفراغ الذي يبلغ ١٧ ساعة في يوم العمل ويومين كاملين في الأسبوع.
وأساس المدنية الشرقية هو إلى الآن، وكما يفهمه غاندي، الدين والتقاليد. وهو لذلك يرى أن الوطنية والحرفة يجب أن يرتكزا على أساس من الدين. واحترامه للبقرة، وكراهته للتزاوج بين الطبقات الهندوكية يدلان القارئ على تعلقه بالتقاليد.
وقد يقال هنا إن غاندي لا يكره العلم وإنه لم يقل ذلك قط، وهذا صحيح، ولكن كراهته للآلات، بل كراهته للطب، وهما ثمرة العلم، يدلان القارئ على اتجاه ذهنه.
إن التناقض واضح، فإن المدنية الغربية، التي يمثلها فورد وشو ورسل ومصطفى كامل، تؤمن بالعلم. وهي وإن لم ترفض التقاليد فإنها تبتسم لها ابتسامة التسامح. وهي تتجه نحو توفير الرفاهية، وكأنها تقول: «يجب أن نأكل أحسن الأطعمة وأطيبها، ونؤثث بيوتنا بأفخر الرياش، ولا نكسب عيشنا إلا بأقل جهد. وعندئذ لا تكون حياتنا إلا للتمتع الجسمي والتثقف الذهني. ويجب ألا نعيش إلا في المدينة.»
ولكن المدنية الشرقية التي يمثلها غاندي وتولستوي تؤمن بالفلسفة والدين والتقاليد، وتدعو إلى النسك والقناعة، وكأنها تقول: «يجب أن نقنع بالعيش في كوخ في وسط الريف، ونرضى بأقل اللباس والطعام، وعلينا أن ننسك ونتأمل ونتعبد. وحسبنا من الطبيعة أن نتمتع برؤية حيوانها ونباتها لا أن نستغلهما.»
- الأولى: غاية الخلاق. لأنه يرى كما كان يرى تولستوي أن كل إنسان يجب أن يعمل وينتج لكي يشعره بأنه عضو نافع في الأمة.
- والثانية: غاية وطنية. وهي اعتماد الهنود على مصنوعاتهم وتركهم للمصنوعات الإنجليزية حتى يخضع الإنجليز لشروطهم ويعترفوا باستقلالهم.
وقد نجح غاندي في ذلك نجاحًا كبيرًا جدًّا. ولكن الذين يعرفون الفرق بين الغزل على الآلات والغزل على المغزل لا يتمالكون من الأسف لضياع الجهد الإنساني. فإن رجلًا واحدًا يقعد إلى آلة حديثة من آلات الغزل تعمل بالطاقة الكهربائية مثلًا يمكنه أن يخرج مقدارًا من الغزل يساوي ما يخرجه مائة تقريبًا من الغازلين بأيديهم. فالقول بأن الآلات سيئة هو بمثابة القول بأننا نكره للناس الراحة، وأننا نفضل للعمل الذي يكفي لعمله شخص واحد أن يكد فيه مائة شخص.
ولكن يجب ألا نتهم غاندي بأنه يتعامى عن فائدة الآلات، وأولى من ذلك أن نقول إنه يريد أن يجعل الوطنية الهندية وطنية اقتصادية، لأنه يعرف أن أساس الاستعمار هو الاستثمار. ولكنه يرى أن شراء الآلات الكبيرة التي تقوم بالغزل يحتاج إلى رءوس ضخمة من الأموال لا قبل للهنود بجمعها في فاقتهم الحاضرة، ولذلك هو لا يبالي زيادة الجهد في سبيل نهضة صناعية تعتمد في المستقبل على صناعة الآلات الكبيرة.
فإذا كان هذا التفسير يتفق وأغراضه فليس هناك شك في أنه اختار أحكم السبل للوصول إلى غايته، وذلك لأن أرخص شيء في الهند هو العامل الهندي، إذ هو أفقر عامل في العالم. ولكن إذا صدق هذا التفسير انتهينا منه إلى أن غاندي يعمل لتحقيق المدنية الغربية في الهند، أي مدنية الآلات، وأنه يخدم مبادئ فورد.
والواقع أننا نجد من غاندي إيماءً أو تلميحًا يدل على أنه لا يعارض في وجود الآلات، ولكنه لا يحب في الوقت نفسه أن يضعف الحماسة للمغزل، إذ هو يذكر من آن لآخر أن الهند في «طور انتقال» وكأنه يضمر في هاتين الكلمتين أن الهند ستعبر بالمغزل إلى عصر الآلات والصناعات الكبيرة.
ونحن في مصر الآن في مثل هذا الطور نرى أنه يجب أن ينهض كفاحنا السياسي للاستقلال على أساس اقتصادي. فنحن نشجع الصناعات المصرية اليدوية ونشعر لفقرنا بأننا عاجزون عن تأسيس المصانع الكبيرة التي تنتج إنتاجًا عظيمًا، ولكن مع ذلك ننشد ذلك اليوم الذي نستطيع فيه أن يكون كل إنتاجنا بالآلات وليس بالأيدي.
وإذن يجب أن نحب غاندي ونمجد أساليبه في فترة الانتقال هذه وفي تحقيق الاستقلال السياسي، ولكن يجب أن نذكر مع ذلك أننا لن نكون أمة قوية تعد من أمم القرن العشرين المتمدنة حتى نجعل فورد غايتنا في الاعتماد على الآلات.
وبعبارة أخرى يجب على الهند أن تنقلب كما انقلبت اليابان فتنسى ماضيها وتقاليدها، ولكن غاندي يرى أنها يجب ألا تنسى هذا الماضي، أو هذه التقاليد، قبل أن تحقق استقلالها وتخرج الإنجليز من بلادها. وهو مصيب في رأيه.