ما لم يعرف عن غاندي
أكثر المعروف عن غاندي يتعلق بجهاده السياسي والأساليب التي اتبعها في هذا الجهاد، ولكن هناك أشياء أخرى في حياة هذا العظيم تستحق الالتفات، سواء منها ما يتصل بحياته الخاصة أو حياته العامة.
وأول صفات غاندي هو النسك، فإنه لا يأكل سوى القليل من البلح والجوز والرز والليمون ولبن المعز وزيت الزيتون، ولا يتناول غير وجبتين في اليوم، الأولى في الصباح والثانية عند الغروب. وهو لا يعرف الخمر أو الشاي أو القهوة. وفراشه حرام من الصوف يفرشه على الأرض ووسادته كتابان أو ثلاثة كان يطالعها سالف نهاره. فإذا كان الصيف والحر نام في العراء وافترش التراب. وغرفته التي يعمل فيها عارية ليس فيها غير رف الكتب والمكتب.
وهو لا يملك شيئًا من حطام الدنيا، وقد نزل هو وزوجته عن كل ما يملكانه للفقراء.
وليس غاندي خطيبًا، وهو في الخطابة مثله في الحياة ساذج لا يتشدق ولا يتفصح، فهو يخطب كما يتكلم، ومع ذلك يقنع سامعيه. وقد قال عنه سلفه ومعلمه في الوطنية جوكيل: «لقد صنع غاندي من مادة الأبطال والشهداء، لا بل هو أكثر من ذلك، لأنه يملك تلك القوة الروحية التي تحيل العامة من الناس أبطالًا وشهداء.»
بل لقد خطب بين العاهرات وطلب منهن أن يتركن البغاء وأن يقبلن على المغزل، فسمعن له، وأطعنه.
وقد جعل غاندي المغزل عبادة، وأصبح حتى صار الغني يمارسه وكأنه نوعٌ من البر. وصارت السيدة الغنية تطرح الحرير وتلبس القماش الوطني، وقد رسخ في ذهنها أنها لا تخدم الوطن فقط بل تخدم الله.
•••
وزوجة غاندي وأولاده هم تلاميذه يجرون على سنته، وهذه الزوجة تدعى «كستور باي» تزوجها وهو في الثانية عشرة من عمره، وهي امرأة ضئيلة تلبس القماش الهندي، وتجول في القرى، تدعو إلى الغزل وتحض على المساواة بين المنبوذين وسائر الهنود. ولما قبض على ولديها وزجا في السجن جاءتها خطابات التعزية والتشجيع من جميع أنحاء الهند، فكتبت في الصحف تقول: «قبض على اثنين فقط من أولادي، وهناك آلاف من أبناء الأمهات الهنديات قد قبض عليهم أيضًا وهم الآن بين جدران السجون، وإذن ليس لي الحق في أن أسكب دموع الحزن ما دام كثير من الشباب قد غصبوا من أمهاتهم.»
ووقف ابنه «ديفانداس» في القفص أمام القاضي فقال: «إني أعلن بأن التهمة الموجهة إلي صحيحة، وكل ما قلته أو فعلته كان مني بسبق إصرار، وقد أتيت ما أتيت وأنا عارف بتبعة ما أفعل، ولذلك أطلب أقصى العقوبة.»
•••
«لا يفتح الطريق إلى الله لغير الشجعان، وهو مقفل أبدًا أمام الجبناء.
ولا يشرب من إناء الله غير ذلك الذي يترك ابنه وزوجته وثروته وحياته.
وفي الحق من طلب الجواهر كان عليه أن يغوص في أعماق البحار وقد وضع حياته في كفه.
وهو لن يخاف الموت، إذ هو ينسى شقاء الروح والجسم.
ولن يربح شيئًا ذلك الذي يقف على الشاطئ وقد خاف وتردد.»
قال أسقف مدراس في خطبة ألقاها في كنيسته: «إني أعلن في صراحة، وإن كان هذا يحزنني كثيرًا، أني أرى في المستر غاندي ذلك الصبور المعذب من أجل الحق والرحمة ممثلًا حقيقيًّا للمسيح أكثر من أولئك الذين ألقوا به في السجن، وهم الذين يسمون أنفسهم مسيحيين.»
وفي غاندي عطف عظيم على المنكوبين، وكثيرًا ما قصد إلى المعابد، حيث يقعد المجذومون على درج المعبد للشحاذة، يعرضون قروحهم على الناس لاستدرار رحمتهم. فكان يقعد إلى المجذوم ويمسح قروحه بملابسه ويضمدها بيديه.
ومن هنا عطفه على المنبوذين فإنه لا يطيق أن يرد عليه البراهمة بأن الدين قد حكم بنجاستهم، إذ هو يرد عليهم بقوله:
«يمكن إبليس على الدوام أن يستشهد بنصوص الكتب المقدسة، ولكن هذه الكتب لا يمكنها أن تتجاوز العقل والحق، تطهر الأول وتنير الثاني.»
•••
قصد مائة من البغايا إلى غاندي يسألنه النصيحة، فقعد إليهن ساعتين يتحدث وإياهن عن الشقاء الذي يعانينه. وكان في تلميحهن، عندما يعجزن عن التصريح، ما كان يدرك غاندي مغزاه. وقال بعد ذلك:
«إن هاتين الساعتين اللتين قضيتهما مع هؤلاء الأخوات هما الآن أكثر من الذكريات … لقد حنيت رأسي في خزي عميق أمام هؤلاء الأخوات وسقوطهن.»
ثم يقول: «نحن الرجال يجب أن نحني الرءوس خزيًا ما دام هناك امرأة واحدة قد أرصدناها لشهوتنا. وإني لأوثر أن ينقرض النوع البشري كله على أن نكون دون البهائم، حين نجعل أشرف ما خلقه الله غاية شهوتنا. وليس في جميع الشرور والمفاسد التي تقع تبعتها على الإنسان ما هو أسفل ولا أنذل ولا أوحش من هذا الاستغلال للنساء.»
•••
ما رأي غاندي في الفنون الجميلة؟
يرى فيها ما يرى المصلح المشغول بتزويد الأمة بما يكفي مئونتها، ويرى فيها رأي الناسك الذي يقنع ببلغة العيش. وهو هنا يقول:
«يكفيني من غرفتي أربعة جدران، ولا أكاد أحتاج إلى سقف فوقها، وحسبي أن أنظر إلى قبة السماء وأرى النجوم منتثرة فيها فأمتع عيني بجمالها الذي لا يفنى، فإن هذا عندي يعلو على جميع الفنون الإنسانية في الجمال. ولست أعني أني أتجاهل قيمة الأعمال الفنية، ولكني عند المقابلة بجمال الطبيعة أشعر شعورًا عميقًا بأنها غير حقيقية.»
ثم يقول: «إني أعترف بأني لا أستطيع أن أجد في أحد الرسوم ما يثير في نفسي ذلك الشعور بالعجب والسمو كما أجد عندما أتأمل السماء بنجومها. أليست جميع الأعمال الإنسانية تافهة بجانب أعمال الله الغنية العظيمة التي تغمر الكون؟»
ثم يقول هذا الناسك: «إن الحياة أعظم، ويجب أن تكون أعظم، من جميع الفنون. بل إني أذهب إلى أبعد من ذلك وأصرح بأن الإنسان الذي تقرب حياته من الكمال هو الفنان الأعظم، إذ ما معنى الفن إذا لم يقم على أساس الحياة الشريفة وهيكلها؟»
ولسنا ننتظر منه بعد ذلك أن يقول في أوسكار وايلد غير هذا الذي يقوله:
«كان وايلد يقصر مهمة الفن على إبراز الشكل التام، ولذلك لم يتراجع عن تمجيد ما يخالف الأخلاق.»
وهو هنا يوافق تولستوي وروسكين على رأيهما في الفنون. وقد ذكر هو أنه تأثر كثيرًا بمؤلفاتهما.