غاندي والطعام
لا ينظر الناس إلى غاندي من حيث إنه زعيم الوطنية الهندية فحسب، بل هم ينظرون إليه من حيث إنه معلم ديني ومصلح اجتماعي، له آراء ممتازة في الحكومة والزواج والصناعة، بل له آراء في اللباس والطعام.
وغاندي يدرس الطعام لبواعث وغايات مختلفة، فإنه هو نفسه ينزع إلى النسك ويحتاج إلى الطعام الذي يوافق حياة النسك. ثم هو يقول بالعودة إلى الطبيعة، وهذه العودة تقتضي بساطة العيش والرضى بأبسط الأطعمة وأقلها حاجة إلى عناية الطباخ وتعدد التوابل واختلاف الألوان. وهو بعد ذلك يجد في درس الطعام ما يبصره بالخطط الوطنية، كما رأينا في مسألة الملح.
فقد رأيناه يختار من بين الضرائب ضريبة الملح التي فرضتها الحكومة على الهنود ويطلب إلغاءها. ولهذا الالتفات الخاص لضريبة الملح علاقة بالطعام الهندي، فإن الهندوكيين أقل الشعوب تناولًا للحم، إذ هم جميعهم يقدسون البقرة ولا يذبحونها، وفيهم طوائف لا تذوق اللحم بتاتًا كالطائفة التي ينتمي إليها غاندي. ثم إن الفاقة التي تشمل الهند تجعل ٩٩ في المائة من السكان لا يحصلون من الغذاء إلا على الأطعمة النباتية، ومن المعروف أن الطعام النباتي يحتاج إلى كثير من الملح الذي لا يحتاجه الطعام اللحمي، بل هذه الحاجة نجدها في الحيوانات التي تغتذي بالأعشاب، فإنها تشتهي الملح، فإن لم تجده لحست التراب لما فيه من ملوحة، حتى إن الصيادين في أفريقيا يضعون الملح شركًا يصيدون به البهائم كالغزلان والجاموس ونحوهما. أما السباع التي تأكل اللحم فلا تحتاج إلى الملح. والطبقات الفقيرة في كل أمة تكثر من استعمال الملح لهذا السبب، أي لأنها تعتمد على الأطعمة النباتية الرخيصة ولا تستطيع أن تشتري أطعمة اللحم.
ومن هنا كانت حاجة الهنود إلى الملح كبيرة جدًّا؛ لأنهم يقتاتون بالأطعمة النباتية. ومن هنا أيضًا اختيار غاندي لضريبة الملح عندما قر العزم على مخالفة الحكومة ودعا الجمهور إلى الكف عن أدائها، فإن هذا الاختيار يدل على علمه بحاجة الطعام النباتي إلى الملح وضرورته لجميع السكان.
وغاندي مثل جميع الزعماء وقادة الفكر ينفق من نفسه مجهودًا كبيرًا، ويحتاج إلى توفير الوقت والصحة، لكي يعالج نكبتي الاستعمار والتقاليد اللتين تروج بهما بلاده. وقد درس لنفسه موضوع الغذاء لكي يعرف أوفق الأطعمة لكي يعمل أطول الوقت، وينفق أكبر المجهود مع لزوم النسك، مع ما بين النسك والمجهود من مناقضة. فإن الناسك يكف شهواته بالصوم وقلة الغذاء، والمجاهد يحتاج إلى الغذاء الوافر الذي يحركه على الدوام إلى النشاط. وقد اضطر غاندي إلى أن يدرس الطريقة التي يلائم فيها هاتين الغايتين. وقد وجد بالتجارب التي أجراها على نفسه أنه لكي يراقب ما يدخل ذهنه يجب عليه أن يراقب ما يدخل معدته. وهو الآن يقتصر من الأطعمة على لبن عنزته وعلى الفواكه الجافة كالبلح وغيره. وهذا الطعام يكفيه بالغذاء الذي يلزم جسمه. ولبن الماعز كثير الدسم قليل المعادن، والفواكه الجافة خالية من الدسم كثيرة المعادن، ومنهما يؤلف طعام تام لرجل مثل غاندي لا يعمل بعضلاته وإنما يعمل بذهنه وينشد هدوء العواطف لا ثورتها.
وقد بدأ غاندي تجاربه في نفسه منذ سنة ١٩٠٦ حين رأى العلاقة بين الأخلاق والطعام، وحين عين لنفسه أخلاقًا خاصة يختار لها الطعام الذي يساعده على التخلق بها. وكان ينظر إلى أثر الطعام في الشهوة الجنسية التي يبدو من كلامه أنها أقلقته كثيرًا حتى انتهى إلى القول إنه لا يصح للزوجين أن يناما في غرفة واحدة. وهذا القلق يدلنا على عبقرية غاندي، فإنه قل أن نجد عبقريًّا أو رجلًا ممتازًا بنشاط الذهن لا تقلقه الشهوة الجنسية قلقًا كبيرًا، وبعد ست سنوات من هذه التجارب انتهى إلى أن أحسن الأطعمة له هو الفواكه والجوز، مع إيثار الطازجة على الجافة. فعاش عليها مدة لا يتناول شيئًا من الحبوب أو اللبن. وكان مع هذا الطعام البسيط يصوم بعض الأيام لا يتناول غير الماء. واستطاع بهذا الطعام أن يقمع الشهوة الجنسية قمعًا باتًا، ولكنه وجد همودًا في الجسم جعله يطلب اللبن. فلما عاد إليه استيقظت الشهوة الجنسية، فكتب يقول عن ذلك: «ليس عندي أقل شك في أن اللبن يجعل ممارسة الطهارة شاقة.»
وقد رأى غاندي من هذه التجارب أن أفكاره بل أخلاقه كانت تتغير بتغير طعامه.
وأخيرًا رضي بالتسوية بين ذهنه وشهوته، فأخذ باللبن والفواكه، واقتصد في قوته بالنوم في غرفةٍ أخرى غير الغرفة التي تنام فيها زوجته. وبهذا النظام استطاع غاندي أن يعمل نهاره كله وبعض ليله لخدمة بلاده. فهو لا يقيل عقب الغذاء، كما نقيل، لأننا نثقل ونسترخي بعد طعام اللحم، ولكنه هو يبقى نشطًا طول نهاره.
ولو أن كل رجل ممتاز في قواه الذهنية أو الأخلاقية مثل غاندي شرح للناس الطعام الذي يأكله والذي ساعده على أداء مهامه الشاقة لانتفع الناس بتجاربه، ولكن قل أن نقرأ ترجمة أحد العظماء، ونرى فيها وصفًا لطعامه، كما نرى في ترجمة غاندي. ولسنا نعني أن الطعام الذي اهتدى إله غاندي يفيد جميع الناس، بل نرى خلاف ذلك، وهو أن مثل هذا الطعام قد يضر بعض الناس. ولكنا نعني أن اختيار الطعام، وخاصة عند القادة والزعماء الذين يطلب منهم مجهود كبير، يحتاج إلى عناية وتجارب حتى يهتدوا إلى ما يوافقهم منه. وطعام كل إنسان هو كالحذاء أو العمرة أو البذلة، يحتاج إلى قياس خاص بعد اعتبار الجسم من حيث مزاجه، ثم اعتبار الحرفة التي يحترفها الشخص. وقد عرف غاندي قياسه، واطمأن، ويجب على كل منا أن يعرف أيضًا قياسه بعد التجارب التي يقوم بها في نفسه.