الخوف من الموت
كنت قد أخذت أخيرًا في جمع نعوت مختلفة للاستقلال، فمن هذه النعوت أن الاستقلال هو ترك الخوف من الموت، لأن الأمة التي تجيز لنفسها أن تتأثر من الخوف من الموت لن تنال استقلالها. وهي لو نالته لما استطاعت القيام عليه والاحتفاظ به.
إن الإنجليزي يحمل حياته في كفه. وكذلك العربي والياباني، كل منهما يعد الموت كأنه لا يزيد على ألم من الآلام المعتادة، وهو لا يبكي إذا مات له قريب. ونساء البوير لا يعرفن لهذا الخوف معنى. ولقد مات في الحرب الأخيرة بين البوير والإنجليز آلاف من الشبان، وترملت آلاف من النساء، فلم يبالين ذلك. إذ لم يكن يهمهن قليلًا أو كثيرًا أن يموت ابن أو زوج، لأنه كان يكفيهن، أو يزيد على كفايتهن أن الأمة برت بشرفها. وما منفعة الزوج إذا أصبحت الأمة عبيدًا؟
لقد رأى البوير أنه خير لهم أن يدفنوا رفات أبنائهم ويذكروا حياتهم الخالدة، من أن ينشئوا في وسطهم عبيدًا. وهكذا راضت الأمهات قلوبهن على الصرامة، وقدن أبناءهن في بشر وابتهاج إلى ملك الموت.
وأولئك الذين ذكرناهم، يقتلون غيرهم، ويقتلهم غيرهم. ولكن ماذا نقول في أولئك الذين لا يقتلون غيرهم وإنما يرضون بأن يكونوا هم القتلى والضحايا؟ إن هؤلاء يستحقون إعجاب العالم وحبه. إنهم ملح الأرض.
لقد حارب الإنجليز الألمان، وقتل كل منهم الآخر، وكانت نتيجة هذا القتال زيادة العداوات. وزاد القلق، وساءت حال أوروبا من هذه الحرب، وزاد المكر، وصارت كل أمة تحتال وتداور الأمم الأخرى.
ولكننا عندما نقول إنه يجب ألا نخاف الموت ندعو إلى ما هو أشرف وأطهر من القتال والحرب، وبهذا نؤمل أن نحقق الظفر العظيم في أقصر وقت.
وعندما نحقق استقلالنا يكون كثير منا قد أقلع عن الخوف من الموت. وإلا فإننا لن نبلغ الاستقلال. والذين ماتوا في قضية الوطن كانوا إلى الآن من الصبيان. ولم يزد عمر واحد من الذين قتلوا في عليكرة على ٢١ سنة، ولم يعرف أحد أشخاصهم. فإن لجأت الحكومة إلى الضرب بالرصاص فإني أرجو أن يكون في الصف الأول من الضحايا الذين يقدمون أنفسهم للموت بعض الرجال.
ولماذا نحزن إذا مات بعض الصبيان أو الشبان أو الشيوخ؟ إنه لا تمر لحظة على العالم حتى يولد ويموت فيها أناس. وعلينا أن نشعر ببلاهتنا عندما نفرح بمولود أو نحزن لميت. وأولئك الذين يؤمنون بالروح يعرفون أن الروح باق بعد الموت. وليس هناك بين الهندوكيين أو المسلمين أو البارسيين من لا يؤمن بالروح. وأرواح الموتى سواء وأرواح الأحياء. فإن الخلق والفساد دائبان لا يفتران، وليس فيهما ما يدعونا إلى الفرح أو الحزن. وحتى عندما نقصر الرحم الإنسانية على أبناء أمتنا فقط، ونجعل منها أسرة كبيرة، ونسأل كم مولود يولد فيها لكي نحتفل به، ثم كم ميت فيها يموت لكي نرثيه، فإننا نقصر عن البكاء وتجف دموعنا. وحسبنا هذه السلسلة من الخواطر لكي نتخلص من الخوف من الموت.
وقد قيل إن الهند بلاد الفلاسفة، ولم نرفض نحن قبول هذه التحية، ومع ذلك فإنا لا نكاد نعرف أمة أخرى تجزع للموت كما نجزع، ثم في الهند نفسها ليست طائفة تجزع للموت كما يجزع الهندوكيون. ونحن نطير من الفرح إذا ولد لنا مولود، ويشملنا عندئذ طرب سخيف، فإذا مات ميت تهتكنا في العويل الصاخب الذي يؤرق الجيران طول الليل. فإذا كنا نرغب في الاستقلال، وإذا كنا نريد بعد تحقيقه أن نحتفظ به، فلا بد من أن نجحد هذه العادات ونقلع عنها.
ثم ما هو الحبس عند الرجل الذي لا يخشى الموت؟
إذا تأمل القارئ هذا الموضوع قليلًا فإنه واجد أننا إذا لم نحقق استقلالنا فإن عجزنا عن تحقيقه سيعود إلى أننا لا نتقبل الموت، وما هو أقل من الموت، هادئين راضين.
وكلما ازداد عدد الأبرياء الذين يتلقون الموت بصدورهم ويضحون بأنفسهم، كانت تضحيتهم أداة لخلاص الآخرين، فتقل الآلام بذلك. وكل ألم نقبله بابتهاج، تزول عنه صفته، فيستحيل إلى فرح مقيم في النفس. وذلك الرجل الذي يفر من الآلام ويخشاها يبقى في هم وغم، حتى إذا وقعت به ألفته قد أشقى — من خوف وقوعها — على الهلاك. ولكن ذلك الذي يعد نفسه في ابتهاج لقبول أي شيء ينزل به لا يحس ألمًا، لأن ابتهاجه يقوم لديه مقام المخدر.
وإنما أكتب هذا لأني أرى أننا لا يمكننا أن نحقق استقلالنا إلا إذا كنا على أهبة الموت ننتظره ونقدر وقوعه. ومن استعد، وتأهب، كان حريًّا أن ينجو من الحوادث. واعتقادي الراسخ أن التأهب يقتضي اتخاذ القماش الوطني، وإذا نحن نجحنا في الاقتصار على القماش الوطني فإن هذه الحكومة، أو أية حكومة غيرها، لا يمكنها أن تجرب فينا تجربة أخرى.
ولكن مع ذلك يجب ألا نهمل الطوارئ، فإن للسلطان سكرة تعمي وتصم، حتى لا يقدر الأقوياء أن يروا ما تحت أنفهم أو يسمعوا ما يطرق آذانهم. ولسنا نعرف إلام تنتهي هذه الحكومة التي أسكرها سلطانها، وعلى ذلك يبدو لي أنه يجب على جميع الوطنيين أن يستعدوا للموت والحبس وما إليهما.
والشجعان يلقون الموت وعلى شفاههم الابتسامات، ولكنهم مع ذلك يحترسون. فإنه ليس في هذه الحرب السلمية للاستقلال مكان للرعونة … فإنا لا نقترح الموت أو الحبس من أجل غاية تخالف الأخلاق الحسنة، ولكن يجب أن نستعد للصعود على المشنقة ونحن نقاوم مظالم الحكومة.
كان القديس فرانسس يطوف في الغابات، ولم ينله مع ذلك أذى من الثعابين أو سائر الوحوش، بل حدث العكس، وهو أن هذه الحيوانات كانت تألفه. والآن في الهند يعيش آلاف من «الفقراء» وأصحاب الطريقة في غابات هندوستان بين الأسود والببرة والثعابين، فلا نسمع أن واحدًا منهم قد قتلته هذه الحيوانات. وإني أؤمن بذلك المذهب الذي يقول إنه ما دام الإنسان لا يعتدي على الحيوان فإن هذا لا يعتدي عليه أيضًا. وأعظم صفات الإنسان وأجلها هو الحب. وعبادة الله هي هباء ما لم يكن الحب أساسها.
•••
إنما ننشد بالحب أن نقهر غضب الإنجليز الحاكمين وأنصارهم. علينا أن نحبهم وندعو الله أن يحبوهم بالحكمة لكي يروا ما يبدو لنا من أخطائهم. ويجب أن نرضى بأن يقتلونا، ولكن يجب ألا نقتلهم نحن. وإذا ألقوا بنا في السجون فيجب أن نرضى بهذا الحظ دون أن نحس بالكراهة ونفكر في الانتقام.