لست قديسًا ولست سياسيًّا
«ذاعت للمستر غاندي شهرة القداسة، ولكن يبدو للمتأمل أن السياسة فيه تغطي على القداسة. فإنه يحض الهنود على العمل المباشر، وهذا العمل المباشر لا يؤدي إلى الاتحاد، فمن ذلك أنه يدعو إلى الاحتفال بذكرى قتلى شهداء «جالينواه لاباغ»، فهل هذه الذكرى، التي تزيد الأسى والمرارة، تؤدي إلى الوفاق؟ ثم ألا يمكننا أن نحتفل بالذكرى بإقامة معبد للسلام، ومعاونة اليتامى والأرامل، والصلاة على القتلى الذين لم يعرفوا لماذا قتلوا؟ إن العالم مكتظ بالسياسيين وأشباههم ممن يسممون الناس بالوطنية، وثمرة هذا التسميم هي الحروب والثارات والمذابح، كتلك المذبحة التي حدثت في «جالينواه لاباغ». أليس من الأليق بنا أن نعمل للتآلف الذي قصد إليه الأنبياء؟ لقد كان يمكن المستر أن يؤدي هذه المهمة، ولكن الظروف تدفعه إلى المقاومة وتأليب الجماعات. والوقت لا يزال يتسع أمامه لأن يعمل لاتحاد العالم.»
وقد نقلت جميع ما في القصاصة مع أن عادتي ألا أبالي النقد لشخصي أو لخططي، إلا حين أرى التصحيح واجبًا، أو حين يجب التأكيد للمبادئ التي نعمل لها. ولي في نقل هذه القصاصة غرضان: وذلك أنى لا أريد فقط أن أوضح المبادئ التي أدعو لها، ولكني أريد أيضًا أن أثبت احترامي لكاتب هذه الكلمات، الذي عرفته وأعجبت به في السنوات الماضية لما تمتاز به أخلاقه من جمالٍ فريد. وهو هنا يأسف لأنه يرى أني سياسي ولست قديسًا، ولكني أرى أن كلمة «قديس» يجب أن تمحى من ألفاظنا في حياتنا الحاضرة. وذلك لأن لها من الحرمة ما يجب أن تصان من الابتذال بوصف أحد الناس بها، وخاصة إذا وصفت بها أنا. لأني لا أدعي أكثر من أني أنشد الحقيقة في تواضع، وأني أعرف حدود طاقتي، وأقع في الأخطاء التي أعترف بها وأحاول بالتجارب إصلاحها، كما يفعل العالم في معمله. ولكني حتى في هذه التجارب لا أدعي أني عالم، لأني لا أستطيع أن أبرهن على الصحة العلمية للطريق التي أتبعها، بل لا أجد النتائج المحسوسة لهذه التجارب. غير أني، وأنا أرفض وصف القديس لشخصي، وأخيب بذلك رجاء صديق في، أقول له أيضًا إن السياسية لم تغط على آرائي، وإذا كنت أشترك في السياسة، فذلك لأنها تحوطنا وتتحوى علينا كما يتحوى الثعبان على فريسته، وليس في مستطاعنا أن نتخلص منها مهما حاولنا. وأنا إذن أجاهد هذا الثعبان منذ سنة ١٨٩٤ إلى الآن، وأصيب من النجاح قليلًا أو كثيرًا، ومن قبل ذلك جاهدته، منذ أن بلغت سن الرشد.
وإني، لما فطرت عليه من أنانية، أجرب التجارب لكي أعيش في سلام في وسط يعصف بالزوابع بإدخال الدين في السياسة. وأنا لا أعني بالدين هذه الديانة الهندوكية، بل أعني به ما يتجاوز الهندوكية، وما يستطيع أن يبدل الطبيعة البشرية نفسها، ويقيد الإنسان بالحق، ويدأب في تطهيره. وهذا الدين هو النصر المقيم في الطبيعة البشرية، وهو الذي لا يبالي ما يلاقيه الإنسان في سبيل الأداء عما في نفسه. وهو الذي يجعل النفس قلقة حتى تسكن إلى الحق وتعرف خالقها وعلاقتها به.
وهذا الروح الديني هو الذي أوحى إلي خططي … ولم أحد عن هذه الخطط حين اقترحت الاحتفال بذكرى «جالينوه لاباغ»، ولكن الكاتب ينسب إليّ غرضًا لم يخطر معناه ببالي حين قال إني أريد «الاحتفال بذكرى قتل الشهداء». إذ ليس شيء أبعد عن ذهني من ذكرى هذه الفعلة السوداء. وإنما أعتقد أننا سنرى تكرار هذه المأساة في المستقبل، قبل أن نحقق غايتنا. ولذلك ينبغي تهيئة أذهان الأمة لمثل هذه المأساة بالاحتفال بذكرى الأبرياء الذين قتلوا فيها. ونحن نعاون الأرامل والأيتام، ولكن ليس في مستطاعنا «الصلاة على القتلى الذين لم يعرفوا لماذا قتلوا» إذا لم نمتلك الأرض التي تقدست بالدم البريء ونقيم عليها نصبًا تذكاريًّا للقتلى. وليس الغرض من هذا النصب تذكير الناس بفعلة شنعاء، ولكن الغرض هو تشجيع أفراد الأمة على أنه خير لهم أن يموتوا وهم عزل، ليس بهم من قدرة على رد الظلم، من أن يكونوا هم أنفسهم ظلمة جائرين. وإني أود لو تعرف الأجيال القادمة أننا نحن، الذين رأينا الأبرياء يقتلون، لم نرفض أن نذكرهم أو ننكر عليهم جميلهم. ولقد تبرعت السيدة «جينا» بمبلغ صغير لإقامة هذا النصب التذكاري، وقالت وهي تقدمه أن الاحتفال بذكرى هؤلاء الشهداء يقيم لنا على الأقل عذرًا نعتذر به عن العيش في هذه الدنيا.
ثم إن الكاتب يقول عني إني أعمل «لتأليب الجماعات» بدلًا من أعمل «لاتحاد العالم» وقد سبق أن قلت له، ونحن تحت سقفٍ واحد، إني أومن بمذهب العالمية أكثر منه. وما زلت على هذا المذهب، وأرى أنه لولا تأليب الجماعات لما أمكن اتحاد العالم.