الثقافة الإنجليزية في الهند
إذ كان الإنجليز قد نكبوا الهنود بالاستعمار فإنهم قد أسدوا إليهم أعظم الفضل بتعليمهم اللغة الإنجليزية التي فتحت لهم باب الثقافة الإنجليزية الواسع. وهذه الثقافة هي العلاج الحقيقي للاستعمار، لأنها تحتوي على بذرة الحرية التي لا يمكن الاستعمار أن يقتلها. ويمكن الناقد المنصف أن يقول (بعد أن يعدد المظالم الكثيرة التي أوقعها الاستعمار البريطاني بالهند) إن النهضة الهندية الحاضرة إنما تعزى إلى هذه الثقافة الإنجليزية العجيبة، وإن غاندي هو ثمرة هذه الثقافة التي لا يستطيع بها إلا أن يثور في وجه الظلم.
لما وصل الإنجليز إلى الهند كان الهنود — وخاصة الهندوكيين — في ظلامٍ دامس، قد تحجرت تقاليدهم. يقتلون أراملهم ويخضعون لبراهمتهم وراجواتهم، لا يدرسون غير السخف الذي تراكم من العقائد الهندوكية. وكانت البوذية قد انمحت من الهند وطوردت إلى الحدود. وبقيت الحال على ذلك بعد استعمار الإنجليز للهند مدة طويلة إلى أن تعين الأديب الكبير «ماكولي» مستشارًا للمجلس الأعلى في الهند سنة ١٨٣٤، وهناك نسي هذا الأديب مصلحة الاستعمار وآثر عليها مصالح الذهن، فقرر أن يعلم الهنود تعليمًا عاليًا باللغة الإنجليزية. ومن هذا الوقت انفتح أمام الهنود باب المدنية الغربية، وظهرت عندهم الدعوة إلى الحرية والمساواة وغرس الوطنية الهندية الذي يتعهده الآن تاجوري وغاندي ونهرو وغيرهم.
ونستطيع أن نجزم أنه لولا هذه الثقافة الإنجليزية لما ظهرت الدعوة إلى الحرية في الهند، ولما تجرأ رجل مثل غاندي على أن يقول بمساواة المنبوذين بسائر الهندوكيين. ولو كان الهنود يقتصرون في ثقافتهم على الآداب الشرقية لبقوا إلى الآن في خضوعٍ أعمى لولاتهم الإنجليز، كما يخضعون لراجواتهم الهنود وبراهمتهم، ولعدوا أنفسهم منبوذين أمام الحاكم الإنجليزي كما يعد الأنجاس أنفسهم منبوذين أمام سائر الهنودوكيين.
ويجب ألا ننسى أن أنظمة الحكم الدستوري في العالم كله هي إحدى ثمرات الثقافة الإنجليزية، لأن الإنجليز هم الذين قرروا حق الشعب في أن يحكم نفسه. والتقاليد الدستورية هي جميعها تقاليد إنجليزية، وليس هناك ما يعيب الأمم التي نكبت بالاستعمار البريطاني أن تعترف لهذه الثقافة الإنجليزية بهذا الفضل.
ومما يدعو إلى العجب أن ماكولي، الذي عمم اللغة الإنجليزية في التعليم في الهند، كان يسيء الظن بالهنود، حتى كاد يحسبهم غير جديرين بالرقي. ولكنه في هذا الاعتقاد السيئ، الذي بعثه في نفسه ما كان يرى من جمود الهنود، لم يكن يعرف مقدار التنبيه الذي تبعثه الثقافة الإنجليزية التي تمثل في عصرنا الحاضر أحسن ما كان في ثقافة الإغريق القدماء، وتزيد عليها جدًّا ورجولة.
والناس عندما يذكرون الحرية تلتفت أذهانهم إلى الثورة الفرنسية، مع أن بذرة هذه الثورة ترجع إلى إنجلترا، وقد دعا أحد دعاتها «فولتير» إلى الدستور الإنجليزي. وكان خطيبها «ميرابو» يدعو هذه الدعوة أيضًا. وإذا كنا نحن نرى الآن في غاندي داعية مخلصًا للحرية والإخاء والمساواة، فإن آباءنا في القرن الماضي كانوا يرون في «غلادستون» على الرغم من تعصبه الديني، هذا الداعية أيضًا، بحيث يمكن أن نجد صلة روحية بين الاثنين.