الفقر والنجاسة
النجاسة في الهند صفة المنبوذين ورثوها بحكم التقاليد. ولكن الفاقة العظيمة التي يعيش فيها هؤلاء المنبوذون تجعل نجاستهم حقيقية وليست دينية فقط. فإنهم يمنعون من امتلاك الأرض، ومن حفر الآبار للاستقاء، وعليهم يقع واجب نزح الكنف من المدن وحمل الزبالة. فإذا لم تلحقهم النجاسة من الدين فإنها تلحقهم من هذه الصناعات وأمثالها، ومن حرمانهم الذي يضطرهم إلى الاستقاء من البرك والمناقع.
ولو تحسنت الحال الاقتصادية في الهند واستطاع المنبوذون أن يعيشوا من إحدى الصناعات التي يكسبون منها أجورًا عالية لكان في مقدورهم أن يستروا أجسامهم بملابس حسنة وأن يأكلوا الأطعمة المغذية ويسكنوا المنازل النظيفة. وفي مثل هذه الحال يكذب الواقع المأثور فلا تنسب إليهم النجاسة أو على الأقل يخف وقعها.
«يعيش في الهند نحو أربعين مليونًا لا يحصل أحدهم على أكثر من وجبة واحدة في اليوم. ويقول السير تشارلس إليوت إن في الهند سبعين مليونًا لا يتاح لأحدهم أن يشبع ولو مرة واحدة في العام.»
«هل منكم من يعرف أن وافدة الإنفلوانزا قد قتلت في العام الماضي نحو ستة ملايين شخص في الهند؟ أليس في هذا العدد العظيم ما يدل على علاقة هذه الوفيات بالفقر وضعف السكان عن المقاومة؟»
وكوخ الفلاح الهندي يدل على الفقر البالغ. فإنه يبنيه من الطين جدرانًا أربعة ليس لها نوافذ أو باب، وهو يبني خارج هذا الكوخ مصطبة يقعد عليها للاستراحة. وهو لا يعرف من الملابس غير وزرة يتسر بها عورته. وهو يكد في الزراعة بياض النهار وبعض الليل هو وزوجته وأولاده. وعليه أن يدفع للمالك نصف الناتج من الزراعة وعليه أن يؤدي ضريبة الملح للحكومة.
وإذا كانت هذه حال الفلاح فكيف تكون حال المنبوذ؟
وفي المدن الكبرى مثل بومباي يعيش العمال في فقر مرعب، فإن هناك مساكن متوسط ما تحتويه الغرفة فيها نحو ستة أو سبعة أنفس. وينصح مدير الإحصاء في الهند بأن يعلم الناس طرق ضبط التناسل، وليس شك في فائدة ضبط التناسل، ولكن جهل الطبقات الفقيرة وما يمكن أن يقيمه رجال الدين من العقبات في سبيل الدعاية يحولان دون ذلك.
وليس للحكومة ملاجئ تؤوي السائلين أو المحتاجين. ومع أن حكومة الهند تتعلل لإحجامها عن الإصلاح بجهل الأمة الهندية فإن الأمة نفسها قامت بإصلاحات عديدة في الدين والاجتماع والاقتصاد لم تقم بمثلها الحكومة. ففي المدن الكبرى أسس الأغنياء ما يسمى «دار مسألة» وهي مأوى للسائلين يأكلون فيه وينامون إذا ثبت عجزهم عن الكسب.
ولم تكن الهند بهذه الحال من الفاقة في الأزمنة الماضية، وإنما جاءتها هذه الفاقة من الإنجليز. وليس شك في أن الزراعة كانت أحيانًا لا تؤتي غلاتها لقلة الأمطار، فيحدث القحط، ولكن مثل هذا القحط لم يكن يحدث لولا زيادة السكان المتوالية مع بقاء غلاتها على ما هي عليه لا تزيد.
والسبب الأصلي لفاقة الهند — على ما أوضح غاندي — هو قتل الصناعات الهندية وخاصة الغزل والنسج، لكي يفتح الطريق لمنسوجات لنكشير فتستأثر بأسواق الهند. وقد كانت الأقمشة الهندية معروفة، يتهادى بها الملوك والأمراء، ولكن الإنجليز قتلوها وعمدوا إلى كل رجل معروف ببراعته في النسج فقطعوا يده، حتى ماتت صناعة النسج وأصبح الهندي الذي كان يشتري منسوجات بلاده لنفسه ولزوجته وأولاده يشتري منسوجات لنكشير الإنجليزية.
وهذا هو ما يجعل غاندي يلح على الهنود في الرجوع إلى المغزل والمنسج. فإنه يريد من ذلك أن يكافح الفاقة ويقدم للفلاح الهندي صناعة أخرى إلى جنب الزراعة تزيد كسبه وتمكنه من أن يشتري الطعام الكافي لأسرته، فإن الزراعة في الهند تقتضي كدًّا متواصلًا بضعة أشهر ثم راحة متواصلة بضعة أشهر أخرى. فإذا استطاع الفلاح أن يغزل في مدة الراحة أمكنه أن يزيد مكاسبه بعض الشيء مما يعينه على المعيشة الحسنة.
وعلاج الفاقة هو — كما بيننا — علاج أيضًا للنجاسة لأن الكرامة الاجتماعية تجيء في إثر الكرامة الاقتصادية.