فلما كانت الليلة ٨٨٣
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن مريم الزنارية ما زالت هي ونور الدين في لذة وطرب إلى أن طلع الغلام النواقيسي فوق سطح الكنيسة وضرب الناقوس، فقامت من وقتها وساعتها ولبست ثيابها وحلِيَّها، فشقَّ ذلك على نور الدين وتكدَّر وقته، فبكى وسكب العَبَرات، وأنشد هذه الأبيات:
ثم إن السيدة مريم ضمَّتْ نور الدين إلى صدرها، وقبَّلت خده وقالت له: يا نور الدين، كم يومًا لك في هذه المدينة؟ فقال: سبعة أيام. فقالت له: هل سرتَ في هذه المدينة وعرفت طرقها ومخارجها وأبوابها التي من ناحية البر والبحر؟ قال: نعم. قالت: وهل تعرف طريق صندوق النذر الذي في الكنيسة؟ قال: نعم. قالت له: حيث كنتَ تعرف ذلك كله، إذا كانت الليلة القابلة ومضى ثلث الليل الأول، فاذهب في تلك الساعة إلى صندوق النذر وخذ منه ما تريد وتشتهي، وافتح باب الكنيسة الذي فيه الخوخة التي توصل إلى البحر، فإنك تجد سفينة صغيرة فيها عشرة رجال بحرية، فمتى رآك الريس يمدُّ يدَيْه إليك، فناوِلْه يدك فإنه يطلعك في السفينة، فاقعد عنده حتى أجيء إليك، والحذر ثم الحذر من أن يلحقك النوم في تلك الليلة، فتندم حيث لا ينفعك الندم. ثم إن السيدة مريم ودَّعَتْ نور الدين وخرجت من عنده في تلك الساعة ونبَّهَتْ جواريها وسائر البنات من نومهن، وأخذتهن وأتت إلى باب الكنيسة ودقَّتْه، ففتحت العجوز الباب، فلما طلعت منه رأت الخُدَّام والبطارقة وقوفًا، فقدَّموا لها بغلةً فركبتها وأرخَوْا عليها ناموسية من الحرير، وأخذ البطارقة بزمام البغلة ووراءها البنات، واحتاط بها الجاووشية وبأيديهم السيوف مسلولة، وساروا بها إلى أن وصلوا إلى قصر أبيها.
هذا ما كان من أمر مريم الزنارية، وأما ما كان من أمر نور الدين المصري، فإنه لم يَزَلْ مختفيًا وراء الستارة التي كان مستترًا خلفها هو ومريم إلى أن طلع النهار، وانفتح باب الكنيسة وكثرت الناس فيها، فاختلط بالناس وجاء إلى تلك العجوز قيِّمة الكنيسة، فقالت له: أين كنتَ راقدًا في هذه الليلة؟ قال: في محلٍّ داخلَ المدينة كما أمرتِني. فقالت له العجوز: إنك فعلتَ الصوابَ يا ولدي، ولو كنتَ بِتَّ الليلةَ في الكنيسة كانت قتلتك أقبح قتلة. فقال لها نور الدين: الحمد لله الذي نجَّاني من شر هذه الليلة. ولم يزل نور الدين يقضي شغله في الكنيسة إلى أن مضى النهار وأقبل الليل بدياجي الاعتكار، فقام نور الدين وفتح صندوق النذر وأخذ منه ما خفَّ حمله وغلا ثمنه من الجواهر، ثم صبر إلى أن مضى ثلث الليل الأول وقام ومشى إلى باب الخوخة التي توصل إلى البحر، وهو يطلب الستر من الله، ولم يزل يمشي إلى أن وصل إلى الباب وفتحه وخرج من تلك الخوخة وراح إلى البحر، فوجد السفينة راسيةً على شاطئ البحر بجوار الباب، ووجد الريس شيخًا كبيرًا ظريفًا، لحيته طويلة وهو واقف في وسطها على رجلَيْه، والعشرة رجال واقفون قدامه، فناوله نور الدين يده كما أمرته مريم، فأخذه من يده وجذبه من البحر، فصار في وسط السفينة، فعند ذلك صاح الشيخ الريس على البحرية وقال لهم: اقلعوا مرساة السفينة من البر، وعوموا بنا قبل أن يطلع النهار. فقال واحد من العشرة البحرية: يا سيدي الريس، كيف نعوم والملك أخبرنا أنه في غدٍ يركب السفينة في هذا البحر ليطَّلِع على ما فيه؛ لأنه خائف على ابنته مريم من سرَّاق المسلمين؟ فصاح عليهم الريس وقال: ويلكم يا ملاعين، هل بلغ من أمركم أنكم تخالفونني وتردُّون كلامي؟ ثم إن ذلك الشيخ الريس سلَّ سيفه من غمده وضرب به ذلك المتكلم على عنقه، فخرج السيف يلمع من رقبته، فقال له واحد: وأي شيء عمل صاحبنا من الذنوب حتى تضرب رقبته؟ فمدَّ يده إلى السيف وضرب به عنق هذا المتكلم، ولم يزل ذلك الريس يضرب أعناق البحرية واحدًا بعد واحد حتى قتل العشرة ورماهم على شاطئ البحر، ثم التفت إلى نور الدين وصاح عليه صيحةً عظيمة أرعَبَتْه، وقال له: انزل اقْلعِ الوتد. فخاف نور الدين من ضرب السيف ونهض قائمًا ووثب إلى البر وقلع الوتد، ثم طلع في السفينة أسرع من البرق الخاطف، وصار الريس يقول له: افعل كذا وكذا، ودور كذا وكذا، وانظر في النجوم، ونور الدين يفعل جميع ما يأمره به الريس وقلبه خائف مرعوب، ثم رفع شراع المركب وسارت بهما في البحر العجاج المتلاطم الأمواج. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.