فلما كانت الليلة ٩٧٦
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن قمر الزمان لمَّا سافر، قالت له الصبيَّة: إن أردتَ السلامة فسافِرْ بنا على غير طريق معهودة. فقال: سمعًا وطاعة. ثم سلك طريقًا غير الطريق التي تعهَّدَ الناس المشي فيها. ولم يزل مسافرًا من بلاد إلى بلاد حتى وصل إلى حدودِ قُطْرِ مصر، ثم كتب كتابًا وأرسله إلى والده مع ساعٍ، وكان والده التاجر عبد الرحمن قاعدًا في السوق بين التجار، وفي قلبه من فراق ولده لهيب النار؛ لأنه من يومِ توجَّهَ ما أتاه من عنده خبر. فبينما هو كذلك، وإذا بالساعي مقبل وقال: يا سادتي، مَن فيكم اسمه التاجر عبد الرحمن؟ فقالوا له: ما تريد منه؟ قال لهم: إن معي كتابًا من عند ولده قمر الزمان، وقد فارقتُه عند العريش. ففرح وانشرح، وفرح له التجار وهنَّوه بالسلامة، ثم أخذ الكتاب وقرأه، فرآه مِن عند قمر الزمان إلى التاجر عبد الرحمن، وبعد السلام عليك وعلى جميع التجار، فإن سألتم عنَّا فلله الحمد والمنة، وقد بعنا واشترينا وكسبنا، ثم قدِمْنا بالصحة والسلامة والعافية. فعند ذلك فتح باب الفرح وعمل الولائم وأكثر الضيافات والعزائم، وأحضَرَ آلات الطرب، وأتى في الفرح بأنواع العجب، فلما وصل ولده الصالحية، خرج إلى مقابلته أبوه وجميع التجار، فقابلوه واعتنقه والده وضمَّه إلى صدره وبكى حتى أُغمِي عليه، ولما أفاق قال له: يوم مبارك يا ولدي؛ حيث جمَعَنا بك المهيمِن القادر. ثم أنشد قول الشاعر:
ثم أفاضَ من شدة الفرحِ دمعَ العين، وأنشد هذين البيتين:
ثم إن التجار تقدَّموا إليه وسلَّموا عليه، فرأوا معه أحمالًا كثيرة وخدمًا وتختروانًا، وهو في دائرة واسعة، فأخذوه ودخلوا به البيت، فلما خرجت الصبيَّة من التختروان رآها أبوه فتنةً لمَن يراها، ففتحوا لها قصرًا عاليًا كأنه كنز نُحِلت عنه الطلاسم، ولما رأتها أمه افتتنت بها وظنَّتْ أنها مَلِكة من زوجات الملوك، وفرحت بها وسألتها، فقالت لها: أنا زوجة ولدك. قالت: حيث تزوَّجَ بكِ ينبغي لنا أننا نقيم لكِ فرحًا عظيمًا حتى نفرح بك وبولدي.
هذا ما كان من أمرها، وأما ما كان من أمر التاجر عبد الرحمن، فإنه بعد انفضاض الناس ورواح كل واحد إلى حال سبيله، اجتمع بولده وقال له: يا ولدي، ما تكون هذه الجارية عندك؟ وبكم اشتريتها؟ فقال له: يا والدي، إنها ليست جارية، وإنما هي التي كانت سبب غربتي. قال والده: وكيف ذلك؟ قال: إنها التي كان يصفها لنا الدرويش ليلةَ ما بات عندنا، فإن آمالي تعلَّقت بها من ذلك الوقت، ولا طلبتُ السفر إلا من أجلها حتى تعرَّيت في الطريق وأخذتِ العربُ أموالي، وما دخلتُ البصرةَ إلا وحدي، وحصل لي كذا وكذا … وصار يحكي لوالده من المبتدأ إلى المنتهى. فلما فرغ من حديثه قال له: يا ولدي، وبعد ذلك كله هل تزوجتَها؟! قال: لا، ولكن وعدتها أن أتزوَّج بها. قال له: هل مرادك الزواج بها؟ قال: إنْ كنتَ تأمرني أفعل ذلك، وإلا فلا أتزوَّجها. قال له: إن تزوَّجتَ بها أكون بريئًا منك في الدنيا والآخرة، وأغضب عليك غضبًا شديدًا! كيف تتزوَّج بها وهي عملت هذه الفعال مع زوجها؟ وكما عملتها مع زوجها على شأنك تعمل معك مثلها على شأن غيرك؛ فإنها خائنة، والخائن ليس له أمان. فإن كنتَ تخالفني أكون غضبانًا عليك، وإن سمعتَ كلامي أفتِّش لك على بنتٍ أحسن منها، تكون طاهرةً زاكية، فأزوِّجك بها ولو كنتُ أنفقُ عليها جميع مالي، وأعمل لك فرحًا ليس له نظير، وأفتخر بك وبها، وإذا قال الناس: فلان تزوَّج بنت فلان، أحسن من أن يقولوا تزوَّج جارية معدومة النَّسَب والحسب. وصار يرغِّب ولده في عدم زواجها، ويذكر له في شأن ذلك عبارات ونكتًا وأشعارًا وأمثالًا ومواعظ، فقال قمر الزمان: يا والدي، حيث كان الأمر كذلك، فلا علاقةَ لي بزواجها. فلما قال قمر الزمان ذلك الكلام قبَّله أبوه بين عينيه، وقال له: أنت ولدي حقًّا، وحياتك يا ولدي لا بدَّ لي من أن أزوِّجك بنتًا ليس لها نظير. ثم إن التاجر عبد الرحمن حطَّ زوجة عبيد الجوهري وجاريتها في قصر عالٍ، وقفل عليهما، وقيَّد بهما جارية سوداء توصِّل لهما أكلهما وشربهما، وقال لها: أنتِ وجاريتك تستمران محبوستين في هذا القصر حتى أنظر لكما مَن يشتريكما وأبيعكما له، وإن خالفتِ قتلتُك أنتِ وجاريتك؛ فإنك خائنة ولا خيرَ فيكِ. فقالت له: افعل مرادك؛ فإني أستحقُّ جميع ما تفعله معي. ثم قفل عليهما الباب ووصَّى عليهما حريمه، وقال: لا يطلع عندهما أحد ولا يكلِّمهما غير الجارية السوداء التي تعطيهما أكلهما وشربهما من طاقة القصر. فقعدت هي وجاريتها تبكي وتتندَّم على ما فعلت بزوجها.
هذا ما كان من أمرها، وأما ما كان من أمر التاجر عبد الرحمن، فإنه أرسل الخُطَّاب يخطبون بنتًا ذات حَسَبٍ ونَسَبٍ لولده، فلا زلن يفتشن، وكلما رأين واحدة يسمعن بأحسن منها، حتى دخلن بيت شيخ الإسلام، فرأيْنَ بنته لم يكن لها نظير في مصر، وهي ذات حُسْن وجمال، وقَدٍّ واعتدال؛ لأنها أحسن من زوجة عبيد الجوهري بألف طبقة. فأخبرته بها، فذهب هو والأكابر إلى والدها وخطبوها منه، وكتبوا الكتاب وعملوا لها فرحًا عظيمًا، ثم عمل الولائم وعزم في أول يوم الفقهاء، فعملوا مولدًا شريفًا. وثاني يوم عزم التجار تمامًا، ثم دُقَّت الطبول وزمرت الزمور وزُيِّنت الحارة والخط بالقناديل، وفي كل ليلة تأتي سائر أرباب الملاعب ويلعبون بأنواع اللعب، وكل يوم يعمل ضيافة لصنف من أصناف الناس حتى عزم العلماء والأمراء والصناجق والحكام، ولم يزل الفرح قائمًا مدة أربعين يومًا، وكل يوم يقعد التاجر ويستقبل الناس، وولده يقعد بجانبه ليتفرَّج على الناس وهم يأكلون من السماط. وكان فرحًا ليس له نظير. وفي آخر يوم عزم الفقراء والمساكين، غريبًا وقريبًا، فصاروا يأتون زُمُرًا ويأكلون، والتاجر جالس وابنه بجنبه. فبينما هم كذلك، وإذا بالشيخ عبيد زوج الصبيَّة داخل في جملة الفقراء وهو عريان تعبان، وعلى وجهه أثر السفر، فلما رآه قمر الزمان عرفه، فقال لأبيه: انظر يا أبي إلى هذا الرجل الفقير الذي دخل من الباب. فنظر إليه فرآه رثَّ الثياب وعليه خلق جلباب يساوي درهمين، وفي وجهه اصفرار يعلوه غبار، وهو مثل مقاطيع الحجاج، ويئِنُّ أنينَ المريض المحتاج، ويمشي بتهافُت في مشْيِه ذات اليمين وذات الشمال، وتحقَّق فيه قول مَن قال:
ويقول الآخر:
وما أحسن قول الشاعر:
وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.