فلما كانت الليلة ٩٧٧
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن التاجر عبد الرحمن لما قال له ولده: انظر إلى هذا الرجل الفقير. قال: يا ولدي، مَن هذا؟ قال له: هذا المعلم عبيد الجوهري زوج المرأة المحبوسة عندنا. فقال له: هذا الذي كنتَ تحدِّثني عنه؟ قال: نعم، وقد عرفتُه معرفةً جيدة. وكان السبب في مجيئه أنه لما ودَّعَ قمر الزمان توجَّهَ إلى دكانه، فجاءته دقة شغل فأخذها واشتغلها في بقية النهار، وعند المساء قفل الدكان وذهب إلى البيت، ووضع يده على الباب فانفتح، فدخل فلم يرَ زوجته ولا الجارية، ورأى البيت في أسوأ الحال، منطبقًا عليه قول مَن قال:
فلما رأى الدار خالية التفَتَ يمينًا وشمالًا، ثم دار فيه مثل المجنون، فلم يجد أحدًا، وفتح خزينته فلم يجد فيها شيئًا من ماله ولا من ذخائره، فعند ذلك فاق من سكرته وتنبَّه من غشيته، وعرف أن زوجته هي التي كانت تتقلَّب عليه بالحِيَل حتى غدرته، فبكى على ما حصل له، ولكنه كتم أمره حتى لا يشمت به أحدٌ من أعدائه، ولا يتكدَّر أحد من أحبابه، وعلم أنه إذا باحَ بالسرِّ لا يناله إلا الهتيكة والتعنيف من الناس، وقال في نفسه: يا فلان، اكتم ما حصل لك من الخبال والوبال، وعليك بالعمل بقول مَن قال:
ثم إنه قفل بيته وقصد الدكان ووكَّل بها صانعًا من صنَّاعه، وقال له: إن الغلام التاجر صاحبي عزم عليَّ أن أروح معه على مصر بقصد الفرجة، وحلف أنه ما يرحل حتى يأخذني معه بحريمي، وأنت يا ولدي وكيلي في الدكان، وإن سألكم عني الملِك فقولوا له: توجَّهَ بحريمه إلى بيت الله الحرام. ثم باع بعض مصالحه واشترى له جِمَالًا وبِغالًا ومماليك، واشترى له جارية وحطَّها في تختروان وخرج من البصرة بعد عشرة أيام، فودَّعه أحبابه وسافر والناس لا يظنون إلا أنه أخذ زوجته وتوجَّه إلى الحج. وفرحت الناس وقد أنقذهم الله من حبسهم في المساجد والبيوت في كل يوم جمعة، وصار بعض الناس يقول: لا ردَّه الله إلى البصرة مرةً أخرى حتى لا نُحبَس في المساجد والبيوت في كل يوم جمعة؛ لأن هذه الخصلة أورثت أهل البصرة حسرةً عظيمة. وبعضهم يقول: أظنُّه لا يرجع من سفره بسبب دعاء أهل البصرة عليه. وبعضهم يقول: إن رجع لا يرجع إلا منكَّس الحال. وفرح أهل البصرة بسفره فرحًا عظيمًا بعد أن كانوا في حسرة عظيمة حتى ارتاحت قططهم وكلابهم، فلما أتى يوم الجمعة نادى المنادي في البلد على العادة بأنهم يدخلون المساجد قبل صلاة الجمعة بساعتين أو يستخفون في البيت، وكذلك القطط والكلاب، فضاقت صدورهم، فاجتمعوا جميعًا وتوجَّهوا إلى الديوان ووقفوا بين يدي الملك وقالوا له: يا ملك الزمان، إن الجوهري أخذ حريمه وسافر إلى حج بيت الله الحرام، وزال السبب الذي كنا نُحبَس لأجله. فبأي سبب نُحبَس الآن؟ فقال الملك: كيف سافَرَ هذا الخائن ولم يُعلِمْني؟! لكن إذا جاء من سفره لا يكون إلا خيرًا، روحوا إلى دكاكينكم وبيعوا واشتروا؛ فقد ارتفعت عنكم هذه الحالة.
هذا ما كان من أمر الملك وأهل البصرة، وأما ما كان من أمر المعلم عبيد الجوهري، فإنه سافر عشرة مراحل فحلَّ به ما حلَّ بقمر الزمان قبل دخوله البصرة، وطلعت عليه عرب بغداد فعرَّوْه وأخذوا ما كان معه، وجعل روحه ميتًا حتى خلص، وبعد ذهاب العرب قام ومشى وهو عريان إلى أن دخل بلدًا، فحنَّن الله عليه أهل الخير، فستروا عورته بقِطَع من الثياب الخَلقة، وصار يسأل ويتقوَّت من بلد إلى بلد حتى وصل إلى مصر المحروسة، فأحرَقَه الجوع فدار يسأل في الأسواق، فقال له رجل من أهل مصر: يا فقير، عليك ببيت الفرح، كُلْ واشرب، فإن هناك في هذا اليوم سماطَ الفقراء والغرباء. فقال: لا أعرف طريق الفرح. فقال له: اتبعني وأنا أريه لك. فتبعه إلى أن وصل إلى البيت. فقال له: هذا هو بيت الفرح، فادخل ولا تخَفْ، فما على باب الفرح من حجَّاب. فلما دخل رآه قمر الزمان فعرفه وأخبر به أباه. ثم إن التاجر عبد الرحمن قال لولده: يا ولدي، اتركه في هذه الساعة، ربما يكون جائعًا، فدَعْه يأكل حتى يشبع ويسكن روعه وبعد ذلك نطلبه. فصبرا عليه حتى أكل واكتفى وغسل يديه وشرب القهوة والشربات السكر الممزوجة بالمسك والعنبر، وأراد أن يخرج، فأرسل خلفه والد قمر الزمان، فقال له الرسول: تعالَ يا غريب كلِّم التاجر عبد الرحمن. فقال: ما يكون هذا التاجر؟ فقال له: صاحب الفرح. فرجع وظن أنه يعطيه إحسانًا، فلما أقبل التاجر رأى صاحبه قمر الزمان، فغاب عن الوجود من الحياء منه، وقام له قمر الزمان على الأقدام، وأخذه بالأحضان، وسلَّمَ عليه، وتباكَيَا بكاءً شديدًا، ثم إنه أجلَسَه بجانبه. فقال له أبوه: يا عديمَ الذوق، ما هذا شأن ملاقاة الأصحاب! أرسِلْه أولًا إلى الحمام، وأرسِلْ إليه بدلةً تليق به، وبعد ذلك اقعد معه وتحدَّث أنت وإياه. فصاحَ على بعض الخدَّام وأمرهم أن يُدخِلوه الحمام، وأرسَلَ إليه بدلة من خاص الملبوس تساوي ألف دينار وأكثر من ذلك المبلغ، وغسلوا جسده وألبسوه البدلة، فصار كأنه شاه بندر التجار. وكان الحاضرون سألوا قمر الزمان عنه حين غيابه في الحمام وقالوا: مَن هذا؟ ومن أين تعرفه؟ فقال: هذا صاحبي، وقد أنزلني في بيته، وله عليَّ إحسان لا يُحصَى؛ فإنه أكرمني إكرامًا زائدًا، وهو من أهل السعادة والسيادة، وصنعته جوهري ليس له نظير، وملك البصرة يحبه حبًّا كثيرًا، وله عنده مقام عظيم وكلام نافذ. وصار يبالغ لهم في مدحه ويقول: إنه فعل معي كذا وكذا، وأنا صرتُ في حياءٍ منه، ولا أدري ما أجازيه به في مقابلة ما صنعه معي من الإكرام. ولم يزل يُثنِي عليه حتى عظُمَ قدْرُه عند الحاضرين، وصار مُهابًا في أعينهم. فقالوا: نحن كلنا نقوم بواجبه وإكرامه من شأنك، ولكن مرادنا أن نعرف ما سبب مجيئه إلى مصر؟ وما سبب خروجه من بلاده؟ وما فعل الله به حتى صار في هذه الحالة؟ فقال لهم: يا ناس، لا تتعجبوا، إن ابن آدم تحت القضاء والقدر، وما دام في هذه الدنيا لا يسلم من الآفات، وقد صدق مَن قال هذه الأبيات:
اعلموا أني أنا دخلت البصرة في أسوأ من هذه الحالة، وأشد من هذا النكال؛ لأن هذا الرجل دخل مصر مستور العورة بالخلقان، وأما أنا فإني دخلت بلاده مكشوف العورة، يد من خلف ويد من قدام، ولا نفعني إلا الله وهذا الرجل العزيز، والسبب في ذلك أن العرب عرَّوني وأخذوا جمالي وبغالي وأحمالي وقتلوا غلماني ورجالي، ورقدت بين القتلى فظنوا أني ميت، فذهبوا وفاتوني، وبعد ذلك قمت ومشيت عريانًا إلى أن دخلت البصرة، فقابلني هذا الرجل وكساني وأنزلني في بيته وقوَّاني بالمال، وجميع ما أتيت به معي ليس إلا من خير الله وخيره. فعندما سافرت أعطاني شيئًا كثيرًا ورجعت إلى بلادي مجبور الخاطر، وفارقته وهو في سيادة وسعادة، فلعله حدث له بعد ذلك نكبة من نكبات الزمان أوجبت له فراق الأهل والأوطان، وجرى له في الطريق مثل ما جرى لي، ولا عجب في ذلك، ولكن ينبغي لي الآن أن أجازيه على ما صنع معي من كريم الفعال، وأعمل بقول مَن قال:
فبينما هم في هذا الكلام وأمثاله، وإذا بالمعلم عبيد مقبلٌ عليهم كأنه شاه بندر التجار، فقام إليه الجميع وسلموا عليه وأجلسوه في الصدر، وقال له قمر الزمان: يا صاحبي، نهارك مبارك سعيد، لا تحكِ لي على شيء جرى عليَّ قبلك، فإن كان العرب عرَّوك وأخذوا منك مالًا، فإن المال فدى الأبدان، فلا تغمَّ نفسك، فإني دخلت بلادك عريانًا، وقد كسوتني وأكرمتني ولك عليَّ الإحسان الكثير فأنا أجازيك. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.