فلما كانت الليلة ٩٧٩
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن عبد الله بن فاضل لمَّا خرج من باب القصر وهو يظن أن أبا إسحاق النديم نائم، فلما خرج تعجَّبَ أبو إسحاق وقال في نفسه: إلى أين يذهب عبد الله بن فاضل بهذا السوط؟ فلعلَّ مراده أن يعذِّب أحدًا، ولكن لا بد لي من أن أتبعه وأنظر ما يصنع في هذه الليلة. ثم إن أبا إسحاق قام وخرج وراءه قليلًا قليلًا، بحيث إنه لم يرَه، فرأى عبد الله فتح خِزانة وأخرج منها مائدة فيها أربعة أصحن من الطعام، وخبزًا وقُلَّة فيها ماء، ثم إنه حمل المائدة والقُلة ومشى، فتبعه أبو إسحاق مستخفيًا إلى أن دخل قاعة، فوقف أبو إسحاق خلف باب القاعة من داخل، وصار ينظر من خلال ذلك الباب، فرأى هذه القاعة واسعة ومفروشة فرشًا فاخرًا، وفي وسط تلك القاعة سرير من العاج مصفَّح بالذهب، وذلك السرير مربوط فيه كلبان في سلسلتين من الذهب، ثم إنه رأى عبد الله حطَّ المائدة على جانب في مكان وشمَّر عن أياديه وفكَّ الكلب الأول، فصار يتلوَّى في يده ويضع وجهه في الأرض كأنه يقبِّلُ الأرض بين يديه ويعوي عواءً خفيفًا بصوت ضعيف، ثم إنه كتَّفه ورماه على الأرض وسحب السوط ونزل به عليه وضربه ضربًا وجيعًا من غير شفقة، وهو يتلوَّى بين يديه ولا يجد له خلاصًا. ولم يزل يضربه بذلك السوط حتى قطع الأنين وغاب عن الوجود، ثم إنه أخذه وربطه في مكانه، وبعد ذلك أخذ الكلب الثاني وفعل به كما فعل بالأول، ثم إنه أخرج محرمة وصار يمسح لهما دموعهما ويأخذ بخاطرهما ويقول: لا تؤاخذني، والله ما هذا بخاطري، ولا يسهل عليَّ، ولعل الله يجعل لكما من هذا الضيق فرجًا ومخرجًا. ويدعو لهما. وحصل كل هذا وأبو إسحاق النديم واقف يسمع بأذنه ويرى بعينه، وقد تعجَّبَ من هذه الحالة. ثم إنه قدَّم لهما سفرة الطعام، وصار يلقِّمهما بيده حتى شبعا، ومسح لهما أفواههما وحمل القُلَّة وسقاهما، وبعد ذلك حمل المائدة والقُلَّة والشمعة وأراد أن يخرج، فسبقه أبو إسحاق وجاء إلى سريره ونام، ولم يَرَه ولم يعرف أنه تبعه واطَّلَع عليه. ثم إن عبد الله وضع السفرة والقُلَّة في الخزانة ودخل القاعة وفتح الدولاب ووضع السوط في محله، وقلع حوائجه ونام.
هذا ما كان من أمره، وأما ما كان من أمر أبي إسحاق، فإنه بات بقية تلك الليلة يفكِّر في شأن هذا الأمر، ولم يأتِه نوم من كثرة العَجَب، وصار يقول في نفسه: يا تُرَى ما سبب هذه القضية؟! ولم يزَل يتعجَّب إلى الصباح، ثم قاموا وصلوا الصبح وانحطَّ لهم الفطور، فأكلوا وشربوا القهوة وطلعوا إلى الديوان، واشتغل أبو إسحاق بهذه النكتة طول النهار، ولكنه كتمها ولم يسأل عبد الله عنها. وثاني ليلة فعل بالكلبين كذلك، فضربهما ثم صالحهما وأطعمهما وسقاهما، وتبعه أبو إسحاق فرآه فعل بهما كأول ليلة، وكذلك ثالث ليلة. ثم إنه أحضر الخراج إلى أبي إسحاق النديم في رابع يوم، فأخذه وسافر ولم يُبْدِ له شيئًا، ولم يزَل مسافرًا حتى وصل إلى بغداد، وسلَّم الخراج إلى الخليفة. ثم إن الخليفة سأله عن سبب تأخير الخراج، فقال له: يا أمير المؤمنين، رأيت عامل البصرة قد جهَّزَ الخراج وأراد إرساله، ولو تأخرتُ يومًا لَقابلني في الطريق. لكن رأيت من عبد الله بن فاضل عجبًا، عمري ما رأيت مثله يا أمير المؤمنين. فقال الخليفة: وما هو يا أبا إسحاق؟ قال: رأيت ما هو كذا وكذا. وأخبره بما فعله مع الكلبين، وقال له: رأيتُه ثلاثَ ليالٍ متواليات وهو يعمل هذا العمل، فيضرب الكلبين وبعد ذلك يصالحهما ويأخذ بخاطرهما ويُطعِمهما وأنا أتفرَّج عليه بحيث لا يراني. فقال له الخليفة: فهل سألته عن السبب؟ فقال له: لا وحياة رأسك يا أمير المؤمنين. فقال الخليفة: يا أبا إسحاق، أمرتك أن ترجع إلى البصرة وتأتيني بعبد الله بن فاضل وبالكلبين. فقال: يا أمير المؤمنين، دَعْني من هذا، فإن عبد الله بن فاضل أكرَمَني إكرامًا زائدًا، وقد اطَّلعتُ على هذه الحالة اتفاقًا من غير قصدٍ، فأخبرتك بها، فكيف أرجع إليه وأجيء به؟ فإن رجعتُ إليه لا ألقى لي وجهًا حياءً منه، فاللائق إرسال غيري إليه بخطِّ يدك فيأتيك به وبالكلبين. فقال له: إن أرسلتُ له غيرَك فربما ينكر هذا الأمر ويقول: ما عندي كلاب، وأمَّا إذا أرسلتُك أنت وقلت له: إني رأيتُك بعيني، فإنه لا يقدر على إنكار ذلك؛ فلا بد من ذهابك إليه وإتيانك به وبالكلبين، وإلا فلا بد من قتلك. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.