فلما كانت الليلة ٩٨١
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن عبد الله بن فاضل لما قال للخليفة: فلما رأيتهما ينتفضان عسر عليَّ ذلك وحزنت عليهما وطار عقلي من رأسي، فقمت إليهما واعتنقتهما وبكيت على حالهما، وخلعت على واحد منهما الفروة السمور وعلى الآخر الفروة السنجاب، وأدخلتهما الحمام، وأرسلت إلى كل واحد منهما في الحمام بدلة تاجر ألفي. وبعدما اغتسلا لبس كل واحد منهما بدلته، ثم أخذتهما إلى البيت فرأيتهما في غاية الجوع، فوضعت لهما سفرة الأطعمة، فأكلا وأكلت معهما، ولاطفتهما وأخذت بخاطرهما. ثم التفت إلى الكلبين وقال لهما: هل جرى ذلك يا أخويَّ؟ فنكَّسا رأسيهما وغضَّا عيونهما. ثم إنه قال: يا خليفة الله، ثم إني سألتهما وقلت لهما: ما الذي جرى لكما؟ وأين أموالكما؟ فقالا: سافرنا في البحر ودخلنا مدينةً تُسمَّى مدينة الكوفة، وصرنا نبيع القطعة القماش التي ثمنها علينا نصف دينار بعشرة دنانير، والتي بدينار بعشرين دينارًا، وكسبنا مكاسب عظيمة، واشترينا من قماش العجم الشقة الحرير بعشرة دنانير، وهي تساوي في البصرة أربعين دينارًا، ودخلنا مدينةً تُسمَّى الكرخ، فبعنا واشترينا وكسبنا مكاسب كثيرة، وصار عندنا أموال كثيرة. وجعلا يذكران لي البلاد والمكاسب، فقلت لهما: حيث رأيتما هذا الفرح والخير، فما لي أراكما رجعتما عريانين؟ فتنهدا وقالا: يا أخانا، ما حل بنا إلا عين صائبة، والسفر ما له أمان؛ فلما جمعنا تلك الأموال والخيرات وسقنا متاعنا في مركب وسافرنا في البحر بقصد التوجه إلى مدينة البصرة، وقد سافرنا ثلاثة أيام، وفي اليوم الرابع رأينا البحر قام وقعد وأرغى وأزبد وتحرَّك وهاج، وتلاطم بالأمواج، وصار الموج يقدح الشرار كلهيب النار، واختلفت علينا الأرياح، والتطمت بنا المركب في سن جبل فانكسرت وغرقنا، وراح جميع ما كان معنا في البحر، وصرنا نخبط على وجه الماء يومًا وليلة، فأرسل الله لنا مركبًا أخرى فأخذتنا ركَّابها وصرنا من بلاد إلى بلاد ونحن نسأل ونتقوَّت مما نحصله بالسؤال، وقاسينا الكرب العظيم، وصرنا نقلع من حوائجنا ونبيع ونتقوَّت حتى قربنا من البصرة، وما وصلنا إلى البصرة حتى شربنا ألف حسرة، ولو كنا سَلِمنا بما كان معنا كنا أتينا بأموال تضاهي أموال الملك، ولكن هذا مقدَّر من الله علينا. فقلت لهما: يا أخويَّ، لا تحملا همًّا؛ فإن المال فداء الأبدان، والسلامة غنيمة، وحيث كتبكم الله من السالمين فهذا غاية المنى، وما الفقر والغنى إلا كطيف خيال، ولله درُّ مَن قال:
ثم قلتُ لهما: يا أخويَّ، نحن نقدِّر أن أبانا قد مات في هذا اليوم وخلَّف لنا جميع هذا المال الذي عندي، وقد طابت نفسي على أننا نقسِّمه بيننا بالسوية. ثم أحضرت قسَّامًا من طرف القاضي، وأحضرت له جميع مالي، فقسمه بيننا وأخذ كلٌّ منا ثلث المال، فقلت لهما: يا أخويَّ، بارك الله للإنسان في رزقه إذا كان في بلده، فكل واحد منكما يفتح له دكانًا ويقعد فيه لتعاطي الأسباب، والذي له شيء في الغيب لا بد أن يحصِّله. ثم سعيت لكل واحد منهما في فتح دكان، وملأته له بالبضائع، وقلت لهما: بيعا واشتريا واحفظا أموالكما، ولا تصرفا منها شيئًا، وجميع ما يلزم لكما من أكل وشرب وغيرهما يكون من عندي، ثم قمت بإكرامهما، وصارا يبيعان ويشتريان في النهار، وعند المساء يبيتان في بيتي. ولم أدعهما يصرفان شيئًا من أموالهما، وكلما جلستُ معهما للحديث يمدحان الغربة ويذكران محاسنها ويصفان ما حصل لهما فيها من المكاسب، ويغرياني على أن أوافقهما على التغرُّب في بلاد الناس. ثم قال للكلبين: هل جرى ذلك يا أخويَّ؟ فنكَّسا رأسيهما وغضَّا عيونهما تصديقًا له.
ثم قال: يا خليفة الله، فما زالا يرغِّبانني ويذكران لي كثرة الربح والمكاسب في الغربة، ويأمرانني بالسفر معهما حتى قلت لهما: لا بد أن أسافر معكما من أجل خاطركما. ثم إني عقدت الشركة بيني وبينهما، وحملنا قماشًا من سائر الأصناف النفيسة، واكترينا مركبًا وشحنَّاه بالبضائع من أنواع المتاجر، ونزَّلنا في ذلك المركب جميع ما نحتاج إليه، ثم سافرنا من مدينة البصرة في البحر العجاج المتلاطم بالأمواج، الذي الداخل فيه مفقود والخارج منه مولود. ولا زلنا مسافرين حتى طلعنا إلى مدينة من المدائن، فبعنا واشترينا وظهر لنا كثرة المكسب، ثم رحلنا منها إلى غيرها، ولم نزل نرحل من بلد إلى بلد ومن مدينة إلى مدينة ونحن نبيع ونشتري حتى صار عندنا مال جسيم وربح عظيم، ثم إننا وصلنا إلى جبل فألقى الريس المرساة وقال لنا: يا ركاب، اطلعوا إلى البر تنجوا من هذا اليوم، وفتشوا فيه لعلكم تجدون ماءً. فخرج جميع مَن في المركب، وخرجت أنا بجملتهم وصرنا نفتِّش على الماء، وتوجَّه كلٌّ منا في جهة، وصعدت أنا على أعلى الجبل. فبينما أنا سائر إذ رأيت حية بيضاء تسعى هاربة، ووراءها ثعبان أسود يسعى خلفها وهو مشوَّه الخِلْقة هائل المنظر. ثم إن الثعبان لحقها وضايقها ومسكها من رأسها ولف ذيله على ذيلها، فصاحت، فعرفت أنه مفترٍ عليها، فأخذَتْني الشفقة عليها وتناولتُ حجرًا من الصوان قدر خمسة أرطالٍ أو أكثر وضربت به الثعبان، فجاء في رأسه فدقها، فما أشعر إلا وتلك الحية انقلبت وصارت بنتًا شابةً ذات حُسْنٍ وجمال، وبهاءٍ وكمال، وقَدٍّ واعتدال، كأنها البدر المنير. فأقبلتْ عليَّ وقبَّلتْ يدي، ثم قالت لي: ستَرَك الله بسترَيْن؛ سترٍ من العار في الدنيا، وسترٍ من النار في الآخرة يومَ الموقف العظيم، يومَ لا ينفع مال ولا بنون إلا مَن أتى الله بقلبٍ سليمٍ. ثم قالت: يا إنسي، أنتَ قد سترتَ عِرْضي وصار لك عليَّ الجميل ووجب عليَّ جزاؤك. ثم أشارت بيدها إلى الأرض فانشقَّتْ ونزلت فيها، ثم انطبقت عليها الأرض فعرفت أنها من الجن. وأما الثعبان، فإن النار اتَّقدت فيه وأحرقته وصار رمادًا، فتعجَّبتُ من ذلك، ثم إني رجعت إلى أصحابي وأخبرتهم بما رأيت، وبِتنا تلك الليلة، وعند الصباح قلع الريس الخطَّاف ونشر القلوع وطوى الأطراف، ثم سافرنا حتى غاب البر عنا. ولم نزل مسافرين مدة عشرين يومًا ولم نرَ برًّا ولا طيرًا، وفرغ ماؤنا. فقال الريس: يا ناس، إن الماء الحلو قد فرغ منا. فقلنا: نطلع البر لعلنا نجد ماءً. فقال: والله، إني تهت عن الطريق ولا أعرف طريقًا يوديني إلى جهة البر. فحصل لنا غمٌّ شديدٌ، وبكينا ودعونا الله تعالى أن يهدينا إلى الطريق، ثم بتنا تلك الليلة في أسوأ حال، ولله درُّ مَن قال:
فلما أصبح الصباح وأشرق بنوره ولاح، رأينا جبلًا عاليًا، فلما رأينا ذلك الجبل فرحنا واستبشرنا به، ثم إننا وصلنا إلى ذلك الجبل، فقال الريس: يا ناس، اطلعوا البر حتى نفتش على ماءٍ. فطلعنا كلنا نفتِّش على ماءٍ، فلم نرَ فيه ماءً، فحصل لنا مشقةٌ بسبب قلة وجود الماء، ثم إني صعدت على أعلى ذلك الجبل فرأيت خلفه دائرةً واسعةً مسافة سير ساعة أو أكثر، فناديت أصحابي فأقبلوا عليَّ، فلما أتوا قلت لهم: انظروا إلى هذه الدائرة التي خلف هذا الجبل، فإني أرى فيها مدينةً عالية البنيان مشيدة الأركان ذات أسوارٍ وبروج، وروابٍ ومروج، وهي من غير شكٍّ لا تخلو من الماء والخيرات، فسيروا بنا نمضِ إلى هذه المدينة ونَجِئْ منها بالماء، ونشتري ما نحتاج إليه من الزاد واللحم والفاكهة ونرجع. فقالوا: نخاف أن يكون أهل هذه المدينة كفارًا مشركين أعداء الدين، فيقبضوا علينا ونكون أسرى تحت أيديهم أو يقتلونا ونكون قد تسبَّبنا في قتل أنفسنا حيث أوقعنا أنفسنا في الهلاك وسوء الارتباك، والمغرور غير مشكور؛ لأنه على خطرٍ من الأسواء، كما قال فيه بعض الشعراء:
فنحن لا نغر بأنفسنا. فقلت لهم: يا ناس، لا حكم لي عليكم، ولكن آخذ أخويَّ وأتوجَّه إلى هذه المدينة. فقال لي أخواي: نحن نخاف من هذا الأمر، ولا نروح معك. فقلت: أمَّا أنا فقد عزمتُ على الذهاب إلى هذه المدينة، وتوكَّلت على الله ورضيتُ بما قدَّر الله عليَّ، فانتَظِراني حتى أذهب إليها وأرجع إليكما. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.