فلما كانت الليلة ٩٨٣
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن بنت ملك مدينة الأحجار قالت: يا عبد الله، إن أبي كان عنده من الأموال والذخائر ما لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمعت، وكان يَقهر الملوك ويبيد الأبطال والشجعان في الحرب وحومة الميدان، وتخشاه الجبابرة وتخضع له الأكاسرة، ومع ذلك كان كافرًا مشركًا بالله يعبد الصنم دون مولاه، وجميع عساكره كفارٌ يعبدون الأصنام دون الملك العلَّام. فاتفق أنه كان يومًا من الأيام جالسًا على كرسي مملكته وحوله أكابر دولته، فلم يشعر إلا وقد دخل عليه شخص فأضاء الديوان من نور وجهه، فنظر إليه أبي فرآه لابسًا حلة خضراء، وهو طويل القامة وأياديه نازلةٌ إلى تحت ركبتيه، وعليه هيبةٌ ووقارٌ، والنور يلوح من وجهه. فقال لأبي: يا باغي! يا مفتري! إلى متى وأنت مغرور بعبادة الأصنام وتترك عبادة الملك العلَّام؟ قُلْ أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وأَسْلِم أنت وقومك ودَعْ عنك عبادة الأصنام؛ فإنها لا تنفع ولا تشفع، ولا يُعبَد بحق إلا الله رافع السموات بغير عماد وباسط الأرضين رحمةً للعباد. فقال له: مَن أنت أيها الرجل الجاحد لعبادة الأصنام حتى تتكلم بهذا الكلام؟ أَمَا تخشى أن تغضب عليك الأصنام؟ فقال له: إن الأصنام أحجارٌ لا يضرُّني غضبها ولا ينفعني رضاها، فأحضِر لي صنمك الذي أنت تعبده وَأْمر كل واحدٍ من قومك أن يُحضِر صنمَه، فإذا حضر جميع أصنامكم فادعوهم ليغضبوا عليَّ وأنا أدعو ربي أن يغضب عليهم، وتنظرون غضب الخالق من غضب المخلوق؛ فإن أصنامكم قد صنعتموها أنتم وتلبَّست بها الشياطين، وهم الذين يكلِّمونكم من داخل بطون الأصنام، فأصنامكم مصنوعةٌ وإلهي صانع، ولا يُعجِزه شيءٌ، فإن ظهر لكم الحق فاتبعوه، وإن ظهر لكم الباطل فاتركوه. فقالوا له: ائتنا ببرهان ربك حتى نراه! فقال: ائتوني ببراهين أربابكم. فأمر الملك كلُّ مَن كان يعبد ربًّا من الأصنام أن يأتي به، فأحضر جميع العساكر أصنامهم في الديوان.
هذا ما كان من أمرهم، وأما ما كان من أمري، فإني كنت جالسةً في داخل ستارةٍ تُشرف على ديوان أبي، وكان لي صنمٌ من زمردة خضراء جسمه قدر جسم ابن آدم، فطلبه أبي فأرسلته إليه في الديوان، فوضعوه في جانب صنم أبي، وكان صنم أبي من الياقوت وصنم الوزير من جوهر الألماس، وأما أكابر العساكر والرعية فبعض أصنامهم من البلخش، وبعضها من العقيق، وبعضها من المرجان، وبعضها من العود القماري، وبعضها من الأبنوس، وبعضها من الفضة، وبعضها من الذهب، وكل واحدٍ منهم له صنمٌ على قدر ما تسمح به نفسه. وأما رعاع العساكر والرعية فبعض أصنامهم من الصوان، وبعضها من الخشب، وبعضها من الفخار، وبعضها من الطين، وكل الأصنام مختلفة الألوان ما بين أصفر وأحمر وأخضر وأسود وأبيض. ثم قال ذلك الشخص لأبي: ادعُ صنمك وهؤلاء الأصنام تغضب عليَّ. فصفوا تلك الأصنام ديوانًا وجعلوا صنم أبي على كرسي من الذهب، وصنمي إلى جانبه في الصدر، ثم رتَّبوا الأصنام كلٌّ منها في مرتبة صاحبه الذي يعبده، وقام أبي وسجد لصنمه وقال له: يا إلهي، أنت الرب الكريم، وليس في الأصنام أكبر منك، وأنت تعلم أن هذا الشخص أتاني طاعنًا في ربوبيتك مستهزئًا بك، ويزعم أن له إلهًا أقوى منك، ويأمرنا أن نترك عبادتك ونعبد إلهه، فاغضب عليه يا إلهي. وصار يطلب من الصنم والصنم لا يرد عليه جوابًا ولا يخاطبه بخطاب. فقال له: يا إلهي، ما هذه عادتك؛ لأنك كنتَ تكلِّمني إذا كلَّمتك، فما لي أراك ساكتًا لا تتكلم؟ هل أنت غافلٌ أو نائمٌ؟ فانتبِهْ وانصرني وكلِّمني. ثم هزَّه بيده فلم يتكلَّم، ولم يتحرك من مكانه. فقال ذلك الشخص لأبي: ما لي أرى صنمك لا يتكلم؟ قال له: أظن أنه غافلٌ أو نائم. فقال له: يا عدو الله، كيف تعبد إلهًا لا ينطق وليس له قدرةٌ على شيءٍ، ولا تعبد إلهي الذي هو قريبٌ مجيب، وحاضرٌ لا يغيب، ولا يغفل ولا ينام، ولا تُدرِكه الأوهام، يَرى ولا يُرى وهو على كل شيءٍ قدير؟ وإلهك عاجزٌ لا يقدر على دفع الضرر عن نفسه، وقد كان ملتبسًا به شيطان رجيمٌ يضلِّك ويغويك، وقد ذهب الآن شيطانه، فاعبد الله واشهد أنه لا إله إلا هو ولا معبود سواه، وأنه لا يستحق العبادة غيره، ولا خير إلا خيره. وأما إلهك هذا فإنه لا يقدر على دفع الشر عن نفسه، فكيف يقدر على دفعه عنك؟ فانظر بعينك عجزه. ثم تقدَّم وصار يصكه على رقبته حتى وقع على الأرض. فغضب الملك وقال للحاضرين: إن هذا الجاحد قد صكَّ إلهي فاقتلوه. فأرادوا القيام ليضربوه فلم يقدر أحد منهم أن يقوم من مكانه، فعرض عليهم الإسلام فلم يسلموا، فقال: أريكم غضب ربي؟ فقالوا: أرِنا. فبسط يديه وقال: إلهي وسيدي، أنت ثقتي ورجائي، فاستجب دعائي على هؤلاء القوم الفجَّار الذين يأكلون خيرك ويعبدون غيرك، يا حق يا جبار يا خالق الليل والنهار، أسألك أن تقْلِب هؤلاء القوم أحجارًا؛ فإنك قادرٌ ولا يُعجِزك شيءٌ وأنت على كل شيءٍ قدير. فمسخ الله أهل هذه المدينة أحجارًا. وأما أنا، فإني حين رأيتُ برهانه أسلمتُ وجهي لله فسَلِمتُ مما أصابهم. ثم إن ذلك الشخص دنا مني وقال: سبقتْ لكِ من الله السعادة، ولله في ذلك إرادة. وصار يعلِّمني، وأخذت عليه العهد والميثاق، وكان عمري سبع سنين في ذلك الوقت، وفي هذا الوقت صار عمري ثلاثين عامًا.
ثم إني قلت له: يا سيدي، جميع ما في هذه المدينة وجميع أهلها صاروا أحجارًا بدعوتك الصالحة، وقد نجوتُ أنا حين أسلمتُ على يدَيْك، فأنت شيخي، فأخبرني باسمك ومُدَّني بمددك وتصرَّف لي في شيء أقتات منه. فقال لي: اسمي أبو العباس الخضر. ثم غرس لي شجرةً من الرُّمان بيده، فكبرت وأورقت وأزهرت وأثمرت رمانة واحدة في الحال، فقال: كُلِي مما رزقك الله تعالى، واعبديه حق عبادته. ثم علَّمني شروط الإسلام وشروط الصلاة وطريق العبادة، وعلَّمني تلاوة القرآن، وصار لي ثلاثة وعشرون عامًا وأنا أعبد الله في هذا المكان، وفي كل يومٍ تطرح لي هذه الشجرة رمانةً فآكلها وأقتات بها من الوقت إلى الوقت، والخضر عليه السلام يأتيني كلَّ جمعةٍ، وهو الذي عرَّفني باسمك وبشَّرني بأنك سوف تأتيني في هذا المكان، وقد قال لي: إذا أتاكِ فأكرميه وأطِيعي أمره ولا تخالفيه، وكوني له أهلًا ويكون لكِ بعلًا، واذهبي معه حيث شاء. فلما رأيتُك عرفتك، وهذا هو خبر هذه المدينة وأهلها والسلام.
ثم إنها أرتني شجرة الرمان وفيها رمانة، فأكلتْ نصفها وأطعمَتْني نصفها، فما رأيت أحلى ولا أزكى ولا أطعم من تلك الرمانة، ثم قلت لها: هل رضيتِ بما أمرك به شيخك الخضر عليه السلام بأن تكوني لي أهلًا وأكون لك بعلًا وتذهبي معي إلى بلادي وأمكث بكِ في مدينة البصرة؟ فقالت: نعم، إن شاء الله تعالى، فإني سميعةٌ لقولك مطيعةٌ لأمرك من غير خلافٍ. ثم إني أخذت عليها العهد الوثيق، وأدخلَتْني إلى خزانة أبيها وأخذنا منها على قدر ما استطعنا حمله، وخرجنا من تلك المدينة ومشينا حتى وصلنا إلى أخويَّ، فرأيتهما يفتِّشان عليَّ، فقالا لي: أين كنتَ؟ فإنك أبطأت علينا وقلبُنا مشغولٌ بك. وأما رئيس المركب فإنه قال لي: يا تاجر عبد الله، إن الريح طاب لنا من مدةٍ وأنت عوَّقتنا عن السفر. فقلت له: لا ضررَ في ذلك، ولعل التأخير خيرٌ؛ لأن غيابي لم يكن فيه غير الإصلاح، وقد حصل لي فيه بلوغ الآمال، ولله درُّ مَن قال:
ثم قلت لهم: انظروا ما حصل لي في هذه الغيبة! وفرَّجتهم على ما معي من الذخائر، وأخبرتهم بما رأيت في مدينة الحجر، وقلت لهم: لو كنتم أطعتموني ورحتم معي كان يحصل لكم من هذا شيءٌ كثيرٌ. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.