فلما كانت الليلة ٩٨٤
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن عبد الله بن فاضل قال لهم ولأخويه: لو رحتم معي لحصل لكم من هذا خير كثير. فقالوا له: والله، لو رحنا ما كنا نسترجي أن ندخل على ملك المدينة. فقلت لأخويَّ: لا بأس عليكما، فالذي معي يكفينا جميعًا، وهذا نصيبنا. ثم إني قسمت ما معي أقسامًا على قد الجميع، وأعطيت لأخويَّ والريس، وأخذت مثل واحدٍ منهم، وأعطيت ما تيسَّر للخدامين والنوتية، ففرحوا ودعوا لي ورضوا بما أعطيته لهم إلا أخويَّ، فإنهما تغيَّرتْ أحوالهما ولاجت عيونهما، فلحظتُ أن الطمع تمكَّنَ منهما، فقلت لهما: يا أخويَّ، أظن أن الذي أعطيته لكما لم يقنعكما، ولكن أنا أخوكما وأنتما أخواي ولا فرق بيني وبينكما، ومالي ومالكما شيءٌ واحدٌ، وإذا مت لا يرثني غيركما. وصرت آخذ بخاطرهما، ثم إني أنزلت البنت في الغليون وأدخلتها في الخزنة، وأرسلت لها شيئًا تأكله، وقعدت أتحدث أنا وأخواي، فقالا لي: يا أخانا، ما مرادك تفعل بهذه البنت البديعة الجمال؟ فقلت لهما: مرادي أن أكتب كتابي عليها إذا دخلت البصرة، وأعمل فرحًا عظيمًا وأدخل بها هناك. فقال أحدهما: يا أخي، اعلم أن هذه الصبية بديعة الحُسْن والجمال، وقد وقعتْ محبتها في قلبي، فمرادي أن تعطيها لي فأتزوَّج بها أنا. وقال الثاني: وأنا الآخر كذلك، فأعطِها لي لأتزوَّج بها. فقلت لهما: يا أخويَّ، إنها قد أخذت عليَّ عهدًا وميثاقًا أني أتزوج بها، فإذا أعطيتها لواحد منكما أكون ناقضًا للعهد الذي بيني وبينها، وربما يحصل لها كسر خاطرٍ؛ لأنها ما أتت معي إلا على شرط أني أتزوَّج بها، فكيف أزوِّجها لغيري؟ وأمَّا من جهة أنكما تحبَّانها، فأنا أحبها أكثر منكما، على أنها لُقَطتي، وكوني أعطيها لواحدٍ منكما هذا شيءٌ لا يكون أبدًا، ولكن إذا دخلنا مدينة البصرة بالسلامة، أنظر لكما بنتين من خيار بنات البصرة وأخطبهما لكما وأدفع المهر من مالي، وأجعل الفرح واحدًا، وندخل نحن الثلاثة في ليلةٍ واحدةٍ، وأعرِضَا عن هذه البنت؛ فإنها من نصيبي. فسكتا، وقد ظننتُ أنهما رضيا بما قلت لهما. ثم إننا سافرنا متوجِّهين إلى أرض البصرة، وصرتُ أرسل إليها ما تأكل وما تشرب وهي لا تخرج من خزنة المركب، وأنا أنام بين أخويَّ على ظهر الغليون. ولم نزل مسافرين على هذه الحالة مدة أربعين يومًا حتى بانت لنا مدينة البصرة، ففرحنا بإقبالنا عليها وأنا راكنٌ إلى أخويَّ ومطمئنٌ بهما، ولا يعلم الغيب إلا الله تعالى، فنمت تلك الليلة.
فبينما أنا مستغرقٌ في النوم لم أشعر إلا وأنا محمولٌ بين أيادي أخويَّ هذين؛ واحدٌ قابض عليَّ من سيقاني والآخر من يدي؛ لكونهما اتفقا على تغريقي في البحر من شأن تلك البنت. فلما رأيت روحي محمولًا بين أيديهما قلت: يا أخويَّ، لأي شيء تفعلان معي هذه الفعال؟ فقالا: يا قليل الأدب، كيف تبيع خاطرنا ببنت؟ فنحن نرميك في البحر من أجل ذلك. ثم رموني فيه. ثم إنه التفت إلى الكلبين وقال: أحقٌّ ما قلته يا أخويَّ أم لا؟ فنكَّسا رأسيهما وصارا يعويان كأنهما يُصدِقان قوله. فتعجَّب الخليفة من ذلك.
ثم قال: يا أمير المؤمنين، فلما رموني في البحر وصلت إلى القرار، ثم نفضني الماء على وجه البحر، فما أشعر إلا وطائرٌ كبيرٌ قدر الآدمي نزل عليَّ وخطفني وطار بي في الجو الأعلى، ففتحت عيني فرأيت روحي في قصر مشيد الأركان عالي البنيان منقوش بالنقوشات الفاخرة، وفيه تعاليق الجواهر من سائر الأشكال والألوان، وفيه جوارٍ واقفة واضعة الأيادي على الصدور، وإذا بامرأةٍ جالسةٍ بينهن على كرسي من الذهب الأحمر مرصَّعٍ بالدر والجوهر، وعليها ملابس لا يقدر الإنسان أن يفتح عينه فيها من شدة ضياء الجواهر، وفي وسطها حزامٌ من الجواهر لا يفي بثمنه مال، وعلى رأسها تاجٌ ثلاث دوراتٍ يحيِّر العقول والأفكار ويخطف القلوب والأبصار. ثم إن الطير الذي كان خطفني انتفض فصار صبيَّةً كأنها الشمس المضيئة، فأمعنت النظر فيها فإذا هي التي كانت في الجبل بصفة حيَّةٍ وكان الثعبان يقاتلها ولفَّ ذيله على ذيلها، وأنا حين رأيت الثعبان قهرها وغلب عليها قتلته بالحجر. فقالت لها المرأة التي هي جالسةٌ على الكرسي: لأي شيءٍ جئتِ هنا بهذا الإنسي؟ فقالت لها: يا أمي، إن هذا هو الذي كان سببًا في ستر عِرْضي بين بنات الجان. ثم قالت لي: هل تعرف مَن أنا؟ قلت: لا. قالت: أنا التي كنت في الجبل الفلاني وكان الثعبان الأسود يقاتلني ويريد هتك عرضي وأنت قتلته. فقلت: إنما رأيت مع الثعبان حيَّةً بيضاء. فقالت: أنا التي كنت حيَّة بيضاء، ولكني بنت الملك الأحمر ملك الجان، واسمي سعيدة، وهذه الجالسة هي أمي واسمها مباركة، زوجة الملك الأحمر، والثعبان الذي كان يقاتلني ويريد هتك عِرْضي هو وزير الملك الأسود واسمه درفيل، وهو قبيح الخِلْقة. واتفق أنه لما رآني عشقني، ثم إنه خطبني من أبي، فأرسل إليه أبي يقول له: وما مقدارك يا قطاعة الوزراء حتى تتزوَّج بنات الملوك؟! فاغتاظ من ذلك وحلف يمينًا أنه لا بد أن يفضح عِرْضي كيدًا في أبي، وصار يقفو أثري، ويتبعني أينما رُحت، ومراده أن يفضح عِرْضي، وقد وقع بينه وبين أبي حروبٌ عظيمةٌ ومشقَّاتٍ جسيمةٍ، ولم يقدر عليه أبي لكونه جبَّارًا مكَّارًا. ثم إن أبي كلما ضايَقَه وأراد أن يظفر به يهرب منه، وقد عجز أبي وصرتُ أنا في كل يومٍ أنقلب أشكالًا وألوانًا، وكلما أنقلب في صفةٍ ينقلب هو في صفةٍ ضدها، وكلما هربتُ إلى أرض يشم رائحتي ويلحقني في تلك الأرض حتى قاسيت منه مشقةً عظيمةً، ثم انقلبت في صفة حية وذهبت إلى ذلك الجبل، فانقلب في صفة ثعبان وتبعني فيه، فوقعتُ في يده وعالجني وعالجته حتى أتعبني وركب عليَّ، وكان مراده أن يفعل بي ما يشتهيه، فأتيتَ أنت وضربتَه بالحجر فقتلتَه، وأنا انقلبت بنتًا وأريتُك روحي وقلت لك: إنه صار لك عليَّ جميلٌ لا يضيع إلا مع أولاد الزنا. فلما رأيت أخوَيْك فعلَا بك هذه المكيدة، ورمياك في البحر، بادرتُ إليك وخلَّصتك من الهلاك، ووجب لك الإكرام من أمي وأبي. ثم إنها قالت: يا أمي، أكرميه في نظير ما ستر عِرْضي. فقالت: مرحبًا بك يا إنسي، فإنك فعلتَ معنا جميلًا وتستحق عليه الإكرام. وأمرتْ لي ببدلة كنوزية تساوي جملةً من المال، وأعطتني جملةً من الجواهر والمعادن، ثم إنها قالت: خذوه وأدخلوه على الملك. فأخذوني وأدخلوني على الملك في الديوان، فرأيته جالسًا على كرسي وبين يدَيْه المَرَدة والأعوان، فلما رأيتُه زاغ بصري مما رأيته عليه من الجواهر، فلما رآني قام على الأقدام وقامت العساكر إجلالًا له، ثم حيَّاني ورحَّب بي وأكرمني غاية الإكرام، وأعطاني مما عنده من الخيرات. وبعد ذلك قال لبعض أتباعه: خذوه إلى بنتي توصله إلى المكان الذي جاءت منه. فأخذوني وذهبوا إلى سعيدة بنته، فحملتني، ثم طارت بي وبما معي من الخيرات.
هذا ما كان من أمري وأمر سعيدة، وأما ما كان من أمر ريِّس الغليون، فإنه أفاق على الخبطة حين رموني في البحر، فقال: ما الذي وقع في البحر؟ فبكى أخواي وصارا يخبطان على صدورهما ويقولان: يا ضيعة أخينا! فإنه أراد أن يزيل ضرورةً في جانب الغليون فوقع في البحر! ثم إنهما وضعا أيديهما على مالي، ووقع بينهما الاختلاف من جهة البنت، وصار كل واحد منهما يقول: ما يأخذها غيري! واستمرَّا على الخصام مع بعضهما ولم يتذكرا أخاهما ولا غرقه، وزال حزنهما عليه. فبينما هما في هذه الحالة، وإذا بسعيدة نزلت بي في وسط الغليون. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.