فلما كانت الليلة ٩٨٥
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن عبد الله بن فاضل قال: فبينما هما في هذه الحالة، وإذا بسعيدة نزلت بي في وسط الغليون، فرآني أخواي فعانقاني وفرحا بي وصارا يقولان: يا أخانا، كيف حالك فيما جرى لك؟ إن قلبنا مشغولٌ عليك. فقالت سعيدة: لو كان قلبكما عليه أو كنتما تحبانه ما كنتما رميتماه في البحر وهو نائمٌ، ولكن اختارا لكما موتةً تموتانها. وقبضت عليهما وأرادت قتلهما، فصاحا وقالا: في عرضك يا أخانا! فصرت أتداخل عليها وأقول لها: أنا واقع في عِرْضك، لا تقتلي أخويَّ! وهي تقول: لا بد من قتلهما؛ إنهما خائنان. فما زلت ألاطفها وأتعطَّفها حتى قالت: من شأن خاطرك لا أقتلهما، ولكن أسحرهما. ثم أخرجت طاسةً وحطَّت فيها ماءً من ماء البحر، وتكلَّمت عليها بكلامٍ لا يُفهَم، وقالت: اخرجا من الصورة البشرية إلى الصورة الكلبية. ثم رشَّتهما بالماء فانقلبا كلبين كما تراهما يا خليفة الله. ثم التفت إليهما وقال: أحقٌّ ما قلته يا أخويَّ؟ فنكَّسا رأسيهما كأنهما يقولان: صدقتَ. ثم قال: يا أمير المؤمنين، وبعد أن سحرتهما كلبَيْن قالت لمَن كان في الغليون: اعلموا أن عبد الله بن فاضل هذا صار أخي، وأنا أشق عليه كل يومٍ مرةً أو مرتين، وكل مَن خالَفَه منكم أو عصى أمره وآذاه باليد أو اللسان فإني أفعل به ما فعلت بهذين الخائنين وأسحره كلبًا حتى ينقضي عمره وهو في صورة الكلب ولا يجد له خلاصًا. فقال لها الجميع: يا سيدتنا، نحن كلنا عبيده وخَدَمه ولا نخالفه. ثم إنها قالت لي: إذا دخلت البصرة فتفقَّد جميع ما لك، فإن كان نقص منه شيء فأعلِمْني وأنا أجيء لك به من أي شخصٍ كان ومن أي مكان كان، ومَن كان آخذًا له أسحره كلبًا. ثم بعد أن تخزِّن أموالك حطَّ في رقبة كل واحد من هذين الخائنين غلًّا واربطهما في ساق السرير، واجعلهما في سجنٍ وحدهما، وكل ليلةٍ في نصف الليل انزل إليهما واضرب كل واحدٍ منهما علقةً حتى يغيب عن الوجود، وإن مضت ليلةٌ ولم تضربهما فإني أجيء إليك وأضربك علقةً وبعد ذلك أضربهما. فقلت لها: سمعًا وطاعةً. ثم إنها قالت لي: اربطهما في الحبال حتى تدخل البصرة. فحطَطْتُ في رقبة كل واحدٍ منهما حبلًا، ثم ربطتهما في الصاري، وتوجَّهتْ هي إلى حال سبيلها. وفي ثاني يومٍ دخلنا البصرة وطلع التجار لمقابلتي، وسلَّموا عليَّ ولم يسأل أحدٌ عن أخويَّ، وإنما صاروا ينظرون إلى الكلاب ويقولون لي: يا فلان، ماذا تصنع بهذين الكلبين اللذين جئتَ بهما معك؟ فأقول لهم: إني ربَّيتهما في هذه السفرة وجئت بهما معي. فيضحكون عليهما ولم يعرفوا أنهما أخواي.
ثم إني حطَطْتُهما في خزنة والتهيت تلك الليلة في توزيع الأحمال التي فيها القماش والمعادن، وكان عندي التجار لأجل السلام، فاشتغلت بهم ولم أضربهما، ولم أربطهما بالسلاسل، ولم أعمل معهما ضررًا، ثم نمت، فما أشعر إلا وقد أتتني سعيدة بنت الملك الأحمر وقالت لي: أَمَا قلتُ لك حطَّ في رقابهما السلاسل واضرب كل واحدٍ منهما علقةً؟! ثم إنها قبضت عليَّ وأخرجت السوط وضربتني علقةً حتى غبت عن الوجود، وبعد ذلك ذهبتْ إلى المكان الذي فيه أخواي وضربت كلَّ واحدٍ منهما علقة بالسوط حتى أشرف على الموت، وقالت: كل ليلةٍ اضرب كل واحدٍ منهما علقةً مثل هذه العلقة، وإن مضت ليلةٌ ولم تضربهما فأنا أضربك. فقلت: يا سيدتي، في غدٍ أحط السلاسل في رقابهما، والليلة الآتية أضربهما ولا أرفع الضرب عنهما ليلةً واحدةً. فأكَّدتْ عليَّ في الوصية بضربهما.
فلما أصبح الصباح لم يهُن عليَّ أن أضع السلاسل في رقابهما، فذهبت إلى صائغٍ وأمرته أن يعمل لهما غلَّيْن من الذهب، فعملهما وجئتُ بهما ووضعتهما في رقابهما وربطتهما كما أمرَتْني. وفي ثاني ليلةٍ ضربتهما قهرًا عني، وكانت هذه الحركة في مدة خلافة المهدي الخامس من بني العباس، وقد اصطحبت معه بإرسال الهدايا، فقلَّدني ولايةً وجعلني نائبًا في البصرة، ودمت على هذه الحالة مدةً من الزمان. ثم إني قلت في نفسي: لعل غيظها قد برد. فتركتهما ليلةً من غير ضربٍ، فأتتني وضربتني علقةً لم أنسَ حرارتها بقية عمري. فمن ذلك الوقت لم أقطع عنهما الضرب مدةَ خلافة المهدي، ولما تُوفِّي المهدي توليتَ أنت بعده وأرسلت إليَّ تقرير الاستمرار على مدينة البصرة، وقد مضى لي اثنا عشر عامًا وأنا في كل ليلةٍ أضربهما قهرًا عني، وبعدما أضربهما آخذ بخاطرهما وأعتذر إليهما وأطعمهما وأسقيهما وهما محبوسان، ولم يعلم بهما أحدٌ من خلق الله تعالى حتى أرسلتَ إليَّ أبا إسحاق النديم من أجل الخراج، فاطَّلَعَ على سري ورجع إليك فأخبرك، فأرسلته ثانيًا تطلبني وتطلبهما، فأجبت بالسمع والطاعة وأتيت بهما بين يديك، ولما سألتني عن حقيقة الأمر أخبرتك بالقصة، وهذه حكايتي.
فعند ذلك تعجَّب الخليفة هارون الرشيد من حال هذين الكلبين، ثم قال: وهل أنتَ في هذه الحالة سامحتَ أخوَيْك مما صدر منهما في حقك وعفوت عنهما أم لا؟ فقال: يا سيدي، سامحهما الله وأبرأ ذمتهما في الدنيا والآخرة، وأنا محتاجٌ لكونهما يسامحانني؛ لأنه مضى لي اثنا عشر عامًا وأنا أضربهما كل ليلةٍ علقةً. فقال له الخليفة: يا عبد الله، إن شاء الله تعالى أنا أسعى في خلاصهما ورجوعهما آدميَّيْن كما كانا أولًا، وأُصلِح بينكم وتعيشون بقية أعماركم إخوةً متحابين، وكما أنك سامحتهما يسامحانك، فخذهما وانزل إلى منزلك، وفي هذه الليلة لا تضربهما، وفي غدٍ ما يكون إلا الخير. فقال له: يا سيدي، وحياة رأسك، إن تركتهما ليلةً واحدة من غير ضرب تأتيني سعيدةٌ وتضربني، وأنا ما لي جسدٌ يتحمَّل ضربًا! فقال له: لا تخَف، فأنا أعطيك خطَّ يدي، فإذا أتَتْك سعيدة فأعطِها الورقة، فإذا قرأتْها وعَفَتْ عنك كان الفضل لها، وإن لم تُطِع أمري كان أمرك إلى الله، ودَعْها تضربك علقةً وقدِّرْ أنك نسيتهما من الضرب ليلةً وضربتك بهذا السبب، وإذا حصل ذلك وخالفَتْني، فإن كنتُ أنا أمير المؤمنين فإني أعمل خلاصي معها. ثم إن الخليفة كتب لها قطعة ورقة مقدار إصبعين، وبعدما كتبها ختمها وقال: يا عبد الله، إذا أتتك سعيدة فقل لها: إن الخليفةَ ملِكُ الإنس أمرني بعدم ضربهما، وكتب لي هذه الورقة، وهو يُقرِئك السلام. وأعطِها المرسوم ولا تخشَ بأسًا. ثم أخذ عليه العهد والميثاق أنه لا يضربهما. فأخذهما وراح بهما إلى منزله، وقال في نفسه: يا تُرَى، ما الذي يصنعه الخليفة في حق بنت سلطان الجن إذا كانت تخالفه وتضربني في هذه الليلة؟ ولكن أنا أصبر على ضربي علقةً وأريح أخويَّ في هذه الليلة ولو كان يحصل لي من أجلهما العذاب. ثم إنه تفكَّر في نفسه وقال له عقله: لولا أن الخليفة مستندٌ إلى سندٍ عظيم ما كان يمنعك عن ضربهما. ثم إنه دخل منزله ونزع الأغلال من رقاب أخوَيْه وقال: توكَّلتُ على الله. وصار يأخذ بخاطرهما ويقول لهما: لا بأس عليكما، فإن الخليفة السادس من بني العباس قد تكفَّل بخلاصكما، وأنا قد عفوت عنكما، وإن شاء الله تعالى يكون الأوان قد آن وتخلصان في هذه الليلة المباركة، فأبشِرَا بالهناء والسرور. فلما سمعا هذا الكلام صارا يعويان مثل عُواء الكلاب. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.